لا.. لا.. لن يجف الحنين

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

لا أعتقد أن هناك من الشعراء أو الكتاب في زماننا الرديء الذي نعيش من تسعفه قريحته، مهما بلغ من الشاعرية والرهافة، ليعبر عن لواعج الشوق والحنين التي تعتمل في صدره وتأخذ بلباب قلبه وعقله وفكره ككلمات صديقي وأخي في المنفى القسري الدكتور أحمد سواس.

مقال كتبه بدموعه وآهاته وحسراته على وطن لا يستطيع حتى تنفس هوائه أو شرب بعض مائه أو التوسد على حفنة من ترابه وهو على مرمى حجر من مكانه.

مقال كتبه يحكي بالدموع والآهات إلى أي مدى وصل ظلم الإنسان للإنسان في بلدي سورية الحبيبة التي ننام نحن المنفيون القسريون على حلم توسد ترابها ونفيق على أمل معانقة الأهل والأحبة ورفاق الصبا فيها.

مقال حمله إلي لأقرأه لتنقيحه وإعادة صياغته.. ولم أكن أتوقع مثل هذه الكتابة من طبيب أمضى نصف عمره في دراسة الطب والتعمق به ومتابعة كل جديد في بحوره.. وعند قراءتي للمقال وجدت نفسي أمام مبدع قل نظيره أحتاج أنا والكثيرين من الكتاب التعلم منه.. فنحن نكتب المقال بالمداد أما صاحبنا فإنه يكتب مقاله بالدموع والآهات!!

كتب صديقي الدكتور مقاله تحت عنوان (هل جف الحنين؟!) بعفوية وصدق وشفافية، ولم أجد ما أضيف عليه أو أحذف منه فكل حرف أو كلمة تحوي فيضاً من المعاني التي لا يمكن لقارئها إلا أن يتفاعل معها ويتحسر ويذرف الدموع وهو يقف أمام رجل يبكي على وطن ويندب أهل وعشيرة وقد صك النظام فيه، بلا مبالاة، آذانه وأغلق عيونه عن نحو مليون منفي ومهجر من الوطن سورية منذ ثلاثين عاماً دون أن يرف لهذا النظام جفن أو تختلج له جارحة، وهو يملأ الدنيا عبر إعلامه شعاراته المفعمة بالصمود والتصدي والممانعة والتحدي حتى أخذ بلباب الكثيرين في الشارع العربي وفعل فعله في عقول السذج والبسطاء، كما فعل (جوبلز) وزير الإعلام النازي قبله وصدقه البسطاء فكان الدمار والخراب والمأساة.. ثلاثون سنة والنظام لا يصغي لمنطق العقل والضمير ونداءات منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني لتسوية أوضاع المبعدين والمهجرين القسريين وفتح أبواب الوطن لعودتهم الكريمة إليه، منتصبي القامة.. مرفوعي الهامة.. ليشاركوا في بناء الوطن بخبراتهم وأموالهم ونصاعة أكفهم، والوطن أحوج ما يكون إليهم، وهو يتعرض لهجمة تريد أرضه وأهله!!

وإليكم ما كتبه صديقي الدكتور أحمد سواس في مقاله:

(عندما درسنا أدب المهجر في الثانوية العامة وكيف أن شعراء المهجر يتغنون ببلادهم ويسطرون أحر المشاعر، لم نكن نصدق هذه المشاعر حتى عشناها واقعاً مؤلماً.. كنت كلما تذكرت هذا البيت لا أستطيع أن أكمله إلا والدمعة في عيني عندما شاهد الشاعر طائراً قادماً من جهة بلاده توقف يخاطبه:

لو قشة مما يرف ببيدر البلد .... خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد

وذاك الذي تمنى أن يعود إلى بلده ولو حشو الكفن، وأن يضمه قبر من حجارتها السود:

عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن ** واهتف أتيت   بعاثـر  مـردود

واجعل ضريحي من حجـار سود ** يا حمص يا بلدي وأرض جدودي

في سنوات الغربة الأولى كنا نتصرف تصرفات غريبة منها أنني وجدت سيارة في منطقة العبدلي بعمان مكتوب على لوحتها (سورية) فقلت للسائق متسائلاً: أين تم نفخ عجلات سيارتك؟ قال : في البلد (يقصد سورية) .. قلت له متوسلاً: نفّس لي قليلاً عجلات سيارتك حتى أشم هواء بلدي .. وكنت أقولها صادقاً .. فقال لي السائق: فرّج الله عنكم!!

كنا إذا أنشد أبو الهدى، المنشد الحلبي المعروف: (اسمك يا شهبا) ووصل إلى (والعز انسكب ع دراجك يا حلب)... عندها تمتلئ الصدور بالآهات والحسرات والنشيج.. وتمتلئ العيون بالدموع وتنساب على الخدود بلا حدود.

كنت أحلم وفي الحلم أتردد إذا ما عدت إلى الوطن.. هل أذهب إلى بيت أهلي أولاً؟ أم إلى المسجد الذي تربيت فيه؟ وكان القرار إلى المسجد، نعم إلى المسجد.. لأصلي ركعتين شكراً لله.. فأستيقظ فأجد نفسي غريباً منفياً والحلم بعيد المنال ونحن في زمن أشباه الرجال!!

كنت أبكي عندما يُذكر الوطن والأهل والأحباب.. وهل يبكي الرجال؟ نعم.. الرجال هم الذين يبكون، وعندما سألتني ابنتي: لماذا تبكي يا أبي؟ قلت لها: ألا تبكين عندما تضيع منك لعبتك الصغيرة؟ ألا تبكين عندما تحتاجين حضناً دافئاً ؟ أنا أبكي لأني فقدت وطناً وليس لعبة.. لا عيب يا ابنتي في البكاء.. لا عيب يا ابنتي في بكاء الرجال.. العيب في قسوة الأغلال وحقد السجان.. العيب في من يعشق انحناءة الرجال.. العيب فيمن يريد ولاءات لا كفاءات.. العيب في ظلم الإنسان للإنسان!!

ولكن بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الغربة، وبعد فقد الأحبة في البلد دون أن نراهم.. الوالد والوالدة، الإخوة والأخوات، الأعمام والعمات، الأخوال والخالات.. ورفاق الصبا ومرتع الطفولة.. جف الحنين.. نعم جف الحنين.. لم أعد أحلم ببلدي.. شغلتني الحياة وتفرعاتها وهمومها ولم أعد أتذكرها، خرجت وحيداً واليوم كبر العيال وتكاثر الأحفاد.. لم يعد قلبي يزداد خفقاناً عندما تذكر أمامي.. لم أعد أرقص في الأفراح عندما ينشد لبلدي.. لماذا؟!

هل جف الحنين ؟!

يقولون إن خلايا جسم الإنسان تتجدد مع الزمن، فهل خلايا جسمي التي صُنعت في الوطن ماتت وتشكل جسمي من خلايا جديدة صُنعت في المنفى.. ولكن الطب يقول أيضاً إن خلايا الجهاز العصبي لا تتجدد.. يقل عددها مع الأيام ولكن لا تتجدد.. الوطن والأهل موجودون في تلك الخلايا الثابتة، ومن وقت لآخر تتحرك هذه الخلايا وتثير مشاعر الحنين من جديد.. فأقول: لا.. لا.. لن يجف الحنين).