الدستور الروسي: دستور محو الهوية .. وتشتيت الأكثرية

* ابتداء لا يمكن أن يفهم أو يقبل بأي معيار من معايير السياسة أو الكياسة ، أن تتطوع دولة ، ولو محتلة ، بوضع دستور دولة أخرى ، ولو كما يقولون على سبيل الاقتراح . فمن اقترح فقد سبق ، وخط مجالا وقال للآخرين تحركوا فيه .

* قالت العرب : من استرعى الذئب فقد ظلم . وقال أبو الطيب :

 ومن يجعل الضرغام بازا لصيده .. تصيده الضرغام فيمن تصيدا

كل السوريين العقلاء كانوا يدركون أن ( الأستانة ) شر كلها . وأن الشر الحقيقي ليس فيما سيكون فيها ، وإنما فيما سيترتب عليها.  وها هو طلعها يطل علينا كرؤوس الشياطين . دستور سيسعى الروس إلى فرضه ، ومعارضة جديدة هي من بشار الأسد وإليه ، ومصادرة لكل ما سبق أن اتفق في الإطار الدولي عليه من قبل على ما كان فيه.

* كان المتوقع ، من بعض الذين اقتضت مصالحهم أن يعيدوا نظم علاقاتهم الدولية ، أن يتركوا القضية السورية المثخنة المضرجة بدماء مليون شهي، خارج قوس المناورة ؛ لا أن يدهدهوها في المنحدر الذي صارت إليه .

 وإننا مع تقديرنا ، لحسن نية بعض هؤلاء ، نؤكد أنه ليس لعاقل من السوريين أن يسترسل مع سياسة اعتبار العدو الروسي القاتل والمحتل وسيطا أو شفيعا أو يركن إليه . حتى أصبح التماهي مع هذا أو الصمت عليه نوعا من الاشتراك المريب .

بل نزيد : إنه على ضوء السلوك الروسي المفضوح ، وعلى ضوء ما جاء في نسخة الدستور المقترح ؛ فإن على السوريين الجادين الحقيقيين ، أن يستقبلوا عملية شاملة من فرز القوى ، وإعادة الحسابات ، والنظر في العواقب والمآلات ، فإن المخاطر التي باتت تحيط بالثورة والوطن والإنسان ، أكبر من أن تختصر في مشروع دستور ، أو في منضدة للعملاء الموتورين يتمايلون في موسكو على إيقاع مايسترو روسي وعدو مبين .

* كتب معارض سوري جاد وصادق ( نذل من ينظر في نسخة الدستور الروسي ) . سطر يختصر حجم الكارثة التي يراها الرجل الصادق في السياسة الروسية ، وفي الدور الروسي ، الذي يتماهى البعض معه ، ويتجاهله آخرون .. فهل نظرُنا في ثنايا الدستور ، المرفوض مبدأ ، والمرفوض جملة ، والمرفوض شكلا ، والمرفوض مضمونا ، والمرفوض حتى من ينظر فيه على سبيل المقاربة سيدخلنا في عدادا الأنذال الذين شملهم الرجل الصادق في وعيده ونذارته ؟!

* قامت الاستراتيجية الروسية في سورية منذ أول يوم على تمكين نظام الأسد، كنظام أقلية طائفي . وقد أعلن وزير الخارجية الروسية ، ومنذ الأيام الأولى للثورة وبدون أدنى مواربة ولا حياء ، أن بلاده لن تسمح بأن تحكم الأكثرية ( المسلمون ) سورية . وهاهي روسية تجد لحظتها المناسبة لتنفيذ خططها ، بعد الظفر الذي أحرزته ، منحة مجانية،  في  حلب أولا ، ثم بعد النجاح في قيادة الفصائل إلى الأستانة .

 * إننا مع إقرارنا المسبق أن الاستبداد والفساد والقتل والتدمير الذي شهدته الحياة السورية على مدى نصف قرن ، لم تكن أسبابه وعلله في نصوص دستور فقط ؛ وإنما في شخوص زمرة من البشر المستبدين الفاسدين والقتلة المجرمين ؛ فإن النظر العابر في الدستور الروسي المقترح يجعلنا ندرك ، أن المقصود من النص المقترح ، عدا عن تمكين نظام القتل والإجرام :

أولا - أن تعطى روسية الدولة المحتلة لسورية لنفسها الحق ، في إدارة الشأن السوري ، وفي التدخل في كل صغير وكبير من أمر السوريين . حتى في أيام المستعمر الفرنسي ، لم يكن المندوب السامي ليفكر أن يقترح على السوريين ( نص دستور ) وعندما اقترح مرة إضافة مادة واحدة إلى الدستور ، تسبب في إشعال ثورة من جديد .

ثانيا – من النظرة العابرة في نصوص الدستور لا بد أن يلحظ المتابع أن  محو الهوية الدينية والقومية هو محور أساس يدور عليه الدستور. في جهد مقصود لتحويل الجغرافيا السورية بمن عليها  إلى نيزك هائم في الفضاء ، لا مدار ولا قبلة ولا لون ولا عرف ... إن انتزاع سورية من محضنها العربي الإسلامي هدف مشترك يلتقي عليه المحتلان . لتسهيل السيطرة للطامعَين اللذين يظنان أنهما استحقا الجائزة حين تعاونا على قتل السوريين أحدهما في الجو والآخر على الأرض .

ثالثا ومحور آخر يدور حوله المقترح الأثيم ألا وهو كسر إرادة الأكثرية السائدة في سورية ، وتشتيت قرارها، وحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية والمدنية والسياسية ؛ للحيلولة دون أن تتمكن من العيش مثل كل شعوب الأرض ، وسط مجتمع مدني حر ، يستمتع كل أبنائه من العيش المتساوي فيه .

العديد من مواد الدستور المقترح دون ذكر لها ، لئلا ندخل تحت مسمى النذالة التي أشار إليها صديقنا المعارض ، تؤدي في مآلاتها إلى محاصرة وجود الأكثرية السائدة ، وتمكين ما يقابلها ، دون أن يستحيي الذين اقترحوا مسودة الدستور أن ينصوا فيه على جواز تقسيم البلد ، وتغيير الجغرافيا ، بمعنى التنازل عن الأرض مرة في الجنوب ومرة في الشمال ومرة في الغرب ..

يقولون : إن الدستور ربط ذلك بالاستفتاء الشعبي ، وينسون أن القائمين على هذا الدستور هم أصحاب دستور الخمس تسعات .

لا نكتب تحذيرا من الدستور ، ولا هجاء له ، فهو فعلا لا يستحق ؛ وإنما نكتب لنذكر المسترسلين مع سياق أوصل الثورة وثوارها إلى حال تتجرأ فيه روسية على مثل هذه الخطوة ؛ اتقوا الله ..اتقوا الله فقد كفى ما كان ..اتقوا الله فالحال لم يعد يرضى به إنسان ، نعم فالحال لم يعد يرضى به إنسان ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 705