عتبة ...ريّا ...والعشق القاتل

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من التراث

المشهد الأول:

منظر المسجد النبوي الشريف

رجل من المصلين جاء لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والتسليم عليه

يسمع صوت أنين من طرف المسجد ، يصغي إليه ، الصوت يقول شعرا يحطم القلب ، منه :

فالبدر يشهد أنني كلف +++  مغرم بحب   شبيهة البدر

         ما كنت أحسبني أهيم بها +++ حتى بليت ، وكنت لا أدري

الرجل واسمه عبد الله : من أين يأتي هذا الصوت ؟ يرفع عقيرته : من صاحب الصوت ؟ أين أنت يا من تكثر البكاء والأنين ؟

الصوت يعود ينشد أبياتا من الشعر ، منها :

ناديت ريّا والظلام كأنه+++ يمّ تلاطم فيه موج زاخر

يا ليل طلت على محب ما له +++ إلا الصباح مساعد ومؤازر

فأجابني : مت حتف أنفك واعلمن +++ أن الهوى لهو الهوان الحاضر

أخذ يمشي عبد الله خلسة باتجاه الصوت دون أن يشعر به صاحبه فلم ينتبه إلا وهو عنده وإذا شاب في مقتبل العمر ، أثّر في جماله طول بكائه

عبد الله :  السلام عليكم

الشاب في ذهول وقد تفاجأ : وعليك السلام ، من أنت ؟

عبد الله : أنا يا بني أدعى عبد الله بن معمر

الشاب دون أن ينظر إليه : ألك حاجة ؟

عبد الله : لا.. كنت جالسا في الروضة أدعو ربي فما راعني إلا صوت بكائك ونحيبك  !! فمن أنت ـ نفسي فداؤك ـ وما تجد ؟ ومما تشكو ؟

الشاب: أنا يا عماه أشكو.. آه ..أشكو من سهم رميت به ، أعلني وأسقمني ، لاأجد له دواء ولا يرجى منه شفاء ، أصاب القلب في مقتل

عبد الله : وما اسمك يا بني ؟

الشاب : أنا عتبة بن الحباب بن المنذر

عبد الله : أنعم وأكرم  سيد بن سيد  ما بك يا عتبة ؟ وما هو هذا السهم ؟ وكيف رميت به ؟

عتبة : أتسأل مستفسرا أم معينا ومساعدا ؟

عبد الله : بل معينا ومساعدا إنشاء الله

عتبة : إذن اسمع قصتي ، أنا يا عماه غدوت يوما إلى مسجد الأحزاب الكائن في ظاهر المدينة فصليت فيه ما شاء الله لي أن أصلي ، ثم اعتزلت غير بعيد أذكر الله وأسبحه كما أفعل كل يوم

عبد الله : أحسنت ، ونعم ما فعلت ، هداك الله وجعلك من أهل جنته ورضوانه ، فأنت على هذه الحال في ظل الرحمن يوم القيامة ، يوم لا ظل إلا ظله ( شاب نشأ في عبادة الله )  ومذا حدث لك ؟

عتبة : وأنا جالس في مكاني أذكر الله وإذ بنسوة قد أقبلن يتهادين مثل القطا ، وإذا في وسطهن جارية بديعة الجمال ، كاملة الملاحة فوقفت علي وقالت :

يا عتبة ماذا تقول في وصل من تطلب وصلك ؟ فدهشت حتى ظننت أن قلبي قد وقع على الأرض !!

عبد الله : أمر عجيب .. أمر غريب .. بل لا غرابة إنهن صويحبات يوسف ، وبماذا أجبتها ؟

عتبة : فما أن لملمت نفسي ،وأفقت من ذهولي حتى كانت قد تركتني وذهبت ، فما عدت أسمع لها خبرا ، ولا قفوت لها أثرا ، وأنا إلى الآن كما ترى من حالي ، لا أدري ماذا أفعل !

ثم صرخ صرخة ارتج لها المكان ووقع مغشيا عليه

عبد الله : عتبة .. يا عتبة .. ما بك يا بني .. عتبة أفق .. قم .. انهض.. لا حول ولا قوة إلا بالله إنه العشق والله الذي استفتى عنه الشاعر فقيه العراق ابن داود فقال:

يا بن داود يا فقيه العراق +++ أفتنا في قواتل الأحداق

هل عليها بما أتت من جناح +++ أم حلال لها دم العشاق ؟

أحلف أنه صريع هوى ، وطعين لحظ ، ماذا أفعل ؟  سأغسل وجهه بالماء ، عتبة .. يا عتبة هيا انهض

عتبة : يفتح عينيه وقد امتقع وجهه، كأنما صبغ بورس أصفر ، يلتفت يمنة ويسرة كأنه يبحث عن شيء ويقول :

أراكم بقلبي من بلاد بعيدة +++ فيا هل تروني بالفؤاد على بعدي

ولست ألذّالعيش حتى أراكم +++ ولو كنت في الفردوس ، في جنة الخلد

عبد الله : يابن أخي استغفر الله ، تب إلى الله ، هؤلاء الغواني يورثن السقم والأذى ، ولا يكترثن بما فعلن .. سل الله العفية ، والنجاة من كيدهن

عتبة : لا والله يا عماه لست بسال حتى ينقطع نفسي أو تقوم القيامة

عبد الله : هوّن عليك ، إنما هو خيال عارض ، وارفق بنفسك ، فأنت لاتزال شابا في مقتبل العمر ، اصبر على ما أصابك يعوضك الله ويعينك . قم ها هو الصبح قد انبلج ، هيا بنا نذهب إلى مسجد الأحزاب نصلي ثم ندعو ، عسى الله أن يكشف كربتك ، قم يا بني .. هيا

عتبة : مسجد الأحزاب ؟ هيا يا عماه  .. هيا بنا إليه عسى الله أن يفرج كربتي ببركة دعائك

في مسجد الأحزاب يصليان الصبح ، ويتلوان وردهما ، ثم يغطان في النوم ، يستيقظ عتبة بعد مدة ، فيتذكر مقدم النسوة عليه ، فيقول شعرا هذا بعضه :

يا للرجال ليوم الأربعاء ،أما +++ ينفك يحدث لي بعد النهى طربا

ما إن يزال غزال منه يقتلني +++ يأتي إلى مسجد الأحزاب منتقبا

يخبّر الناس أن الأجر همته +++ وما أتى طالبا للخير محتسبا

لو كان يبغي ثوابا ما أتى صلفا +++ مضمخا بفتيت المسك مختضبا

ويأخذ بالبكاء والنحيب

عبد الله وقد استيقظ على صوت بكائه : كفاك نحيبا يا عتبة  قم بنا نصلي الظهر ثم نذهب نصيب طعاما نتقوى به ، هيا يارجل

عتبة : مهلا...  قليلا يا عماه

ثم .. فجأة .. وإذ بالنسوة قد أقبلن وليست الجارية بينهن ، فوقفن على الشاب وقلن له :

يا عتبة ما ظنك بطالبة وصلك  وكاسفة بالك ؟

عتبة بلهفة ولوعة : ما بالها ؟

قلن له: أخذها أبوها وارتحل بها إلى أرض السماوة ( بين الكوفة والشام )

عبد الله يسأل : ومن هذه الجارية ؟ ما اسمها ؟ ما اسم أبيها ؟

قلن: هي ريّا بنت الغطريف السلمي

عتبة : آه .. يا ريّا .. آه  إني قد عشيت من البكا +++ فهل عند غيري مقلة أستعيرها

عبد الله : لا بأس يا عتبة لا بأس لا تجزع  حلفت لأبقين معك حتى تبلغ غايتك

عتبة : آه .. يا عماه تقول لي اصبر ولا تجزع  ، وما يغني الصبر ولا التصبر فالقلب يذوب شوقا ولوعة ولا املك من أمره شيئا

عبد الله : اسمع يا عتبة ، إني قد وردت إلى هذه الديار بمال جزيل أريد به أهل الستر والفاقة ووالله لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضا ، فقم بنا إلى مسجد الأنصار 

في مسجد الأنصار وقد وقعوا على ملأ منهم عند المسجد

عبدالله: السلام عليكم يا معشر الكرام   يا أنصار رسول الله

الأنصار: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

عبد الله : إني سائلكم عن عقبة وأبيه ، ما تقولون فيهما ؟

الأنصار : من سادات العرب ،ومن أشرافهم

عبد الله : فإن عتبة بن المنذر قد رمي بداهية من الهوى والعشق ويطلب المساعدة

الأنصار : يا حيهلا .. يا حيهلا... حبا وكرامة

عبد الله : لا نريد منكم إلا المساعدة إلى أرض السماوة ، لعلنا نقضي حاجة عتبة ، ونفرج كربته بإذن الله

تسدل الستارة ... انتهى المشهد الأول

المشهد الثاني :

منازل بني سليم في أرض السماوة ، وفيها العبيد والرعيان حول الأغنام قرب المنازل

أحد العبيد ينادي سيده الغطريف : يا سيدي .. يا سيدي .. أضياف قادمون

 الغطريف مبادرا مسرعا متهللا : حييتم يا كرام ، نزلتم سهلا ، وحللتم أهلا

عبد الله : وأنت فحياك الله ، إنا لك أضياف ..

الغطريف : على الرحب والسعة ، نزلتم أكرم منزل ـ ايها العبيد أنزلوا القوم ـ

ثم .. فرشت الأرض بالفرش والنمارق ، وذبحت الذبائح ، وجهز الطعام

عبد الله : لقد أحسنت وأكرمت ، وإننا لم نأت إليك إلا ولنا حاجة عندك ، ولسنا بذائقي طعامك حتى تقضي حاجتنا .

الغطريف : في دهشة وتعجب : ابشروا إن كانت في مقدوري واستطاعتي ، فما هي حاجتكم ؟

عبد الله : جئنا نخطب عقيلتك الكريمة لعتبة بن المذر وهو على ما قد علمت في قومه ونفسه

الغطريف يطرق هنيهة يفكر : ولكن .. التي تخطبونها أمرها إلى نفسها ، وأنا الآن أدخل وأخبرها

( ثم دخل الغطريف على ابنته والغضب باد على وجهه ، فقال: ورد إلينا الأنصار يخطبونك مني !؟

ريّا : سادات كرام ، استغفر لهم النبي صلى الله عيه وسلم ، فلمن الخطبة منهم ؟

الغطريف : لعتبة بن الحباب بن المنذر

ريّا : والله لقد سمعت عن عتبة هذا ، إنه يفي بما وعد ، ويدرك إذا قصد ..

الغطريف : أقسمت لا زوجتك منه أبدا ، ولقد نما إلي بعض  حديثك معه

ريّا منكرة : ما كان ذلك يا أبي ، ولكن إذ أقسمت فإن الأنصار لا يردّ عليهم بجفاء ، فحسّن إليهم الردّ ما استطعت .

الغطريف : بأي شيء ؟

ريّا : أغلظ عليهم المهر فإنهم يرجعون ولا يجيبون

الغطريف : ما أحسن ما قلت !! ) ثم خرج مبادرا القوم

عبد الله : ها .. خبّر بخير إنشاء الله

الغطريف : إن فتاة الحي قد أجابت ( رضيت ) ولكني أريد لها مهر مثلها ، فمن القائم به ؟

عبد الله : أنا.. فقل ما شئت واطلب ما أردت

الغطريف : أريد مهرا لمثلها  ألف مثقال من الذهب ، ومائة ثوب من الأبراد ، وخمسة أكرشة عنبر !!

عبد الله : لك ذلك كله   فهل أجبت ؟

الغطريف : أجل .. هناكم الله ، وأدام الأفراح في دياركم العامرة ، بالرفاء والبنين

عبد الله : يا فلان  ويا فلان ـ إلى رجال من الأنصار ـانطلقوا إلى المدينة وأحضروا له جميع ما طلب  ولا تتوانوا

ثم أقيمت الولائم والأفراح  وتمّ الزفاف  وأقاموا عند الغطريف أياما

عبد الله : أرجو أن تسمح لنا بالعودة إلى ديارنا ، فقد كفيت ووفيت

الغطريف : أما وقد حظيتم ببغيتكم ، ونلتم حاجتكم فبإمكانكم العودة إلى دياركم مصاحبين

أيها العبيد ضعواالفتاة في هودجها وضعوها على بعيرها ، وجهزوا لها ثلاثين راحلة لحمل المتاع والتحف والهدايا

عبد الله : نشكر لك كرم استقبالك ، وحسن ضيافتك ونتركك بخير ، السلام عليكم ورحمة الله

الغطريف : صحبتكم السلامة .. صحبتكم السلامة

( سار الركب عائدا إلى المدينة  مغمورا بالسعادة والهناءة ، أما عتبة فكأنه قد ملك الدنيا بحذافيرها من البهجة والسرور ، حتى إذا لم يبق بينهم وبين المدينة إلا مرحلة إذ خرجت عليهم خيل مغيرة تريد السلب والنهب )

عبد الله ينادي على رجاله : عليكم بهم يا رجال.. ردوهم

عتبة :  يا لبيك يا ريّا ، وانقض عليهم كالعقاب ، وجال وصال بينهم كالأسد وقتل منهم الكثير وجرح الكثير حتى ولوا هاربين ، ورجع إلى رحله منهكا

عبد الله:  بوركت أيها الهمام  لقد كنت فتاها المبرز  ما بك !؟ هل أنت جريح ؟ أرى طعنة تفور دما !! النجدة يارجال عتبة طعين

   سقط عتبة على الأرض ، وانثنى بخده جهة ريّا وما هي إلا هنيهة حتى فاضت روحه

عبد الله : يصرخ   واعتبتاه .. وا عتبتاه

   سمعت ريّا الصوت فألقت بنفسها من على البعير وجعلت تندب وتصيح بحرقة

واعتبتاه ... واعتبتاه   .. ايها الشهم الهمام .. ايها الشهم الهمام ...

ثم سكنت وأخذت تردد فوق رأسه أبياتا من الشعر

تصبرت  لا  أني صبرت ، وإنما +++ أعلل نفسي أنها بك لاحقة

فلو أنصفت روحي لكانت إلى الردى +++ أمامك من دون البرية سابقة

فما أحد بعدي وبعدك منصف +++  خليلا ، ولا نفس لنفس موافقة

آه... آه... واحر قلباه .. انتظرني أيا عتبة .. انتظرني آ..آ..آآآ    وفاضت روحها

عبد الله : لاحول ولا قوة إلا بالله  احتفروا لهما قبرا واحدا وادفنوهما معا فإنهما نعم العاشقين

صوت :   ( يقول عبد الله : رجعت بعد سبع سنين إلى المدينة فقلت : والله لآتين قبر عتبة أزوره ، فأتيت القبر فإذا عليه شجرة كبيرة  كثيرة الأغصان خضراء الأوراق ، فقلت لأصحاب المنزل المجاور : ما هذه الشجرة ؟ وما يقال لها ؟ قالوا : هذه شجرة العروسين .

تسدل الستارة      

انتهى المشهد