الأجر على قدر الجهد

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من ثلاثة مشاهد

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

المشهد الأول :

الأشخاص : سواد  العامل ...خلف  صاحب الدكان ... نعمان الشيخ الجليل ...رواس الجار المجاور

 المكان :  سوق شعبي في إحدى المدن الإسلامية

الزمان :  كل زمان

دكان خلف وسط السوق , يبيع الحبوب والتمور

جاره رواس يبيع لوازم الفلاحة والزراعة ولوازم الحيوانات 

سواد العامل يفتح الدكان في الصباح قبل مجيء خلف صاحب الدكان

يسلم سواد على جاره رواس

سواد : صبحك الله بالخير يا سيدي رواس

رواس : صباح الخير يا سواد  , كيف أصبحت ؟

سواد : الحمد لله يا سيدي ٍ

رواس : الم يحضر خلف بعد ؟

سواد :  لا بدّ أنه قادم في الطريق

رواس :  ولكن ما بك يا سواد !! أراك مهموما

سواد : لا شيء يا سيدي   هي الدنيا   لا تخلو من هموم  ولا بدّ من الصبر والشكر على كل حال

رواس : صدقت ..الحمد لله على كل حال , مع ذلك إذا احتجت أي شيء أنا جاهز  فلا تخجل من طلب المساعدة

سواد : شكر الله لك يا سيدي وأمدك بمدد من عنده فما أنت بالنسبة  لي إلا في مقام الوالد وأحترمك كما أحترم وأجل والدي    والله يشهد

رواس : بارك الله فيك يا بني وأزال همك  وأنت بمثابة ابن لي

سواد : هاهو سيدي خلف قد جاء

خلف : السلام عليكم يا جاري رواس , السلام عليك يا بني سواد
رواس  وسواد : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

   تتسارع الحركة في السوق وتدب الحياة  وينشعل كل بعمله وبيعه وشرائه

خلف : سوف تأتينا بضاعة جديدة من الريف يا سواد , افسح لها مكانا في المحل , واحرص على ترتيبها بشكل جيد يا بني وأنا ذاهب لصلاة الظهر في المسجد

رواس : سمعا وطاعة يا سيدي تقبل الله طاعتك آمين  وأنا سأستعدّ للصلاة قبل أن تاتينا البضاعة .

 يعود خلف من المسجد فيرى سواد ساهما شاردا

خلف : ما بك يابني   بماذا تفكر ؟ أتشكو من شيء ؟
رواس : لا... لا..لاشيء يا سيدي  قليل من الذكريات تبدّت لي فأنا أتأملها
خلف : ألم تصل البضاعة بعد ؟

رواس : ستصل أنشاء الله ستصل وها أنا جهزت لها المكان

عند الغروب يتهيأ رواس ومعلمه خلف لإقفال المحل بعد نهار حافل من العمل والحركة الدؤوب

خلف : تعال يا بني يا رواس خذ هذا أجرك بارك الله لك فيه وإلى اللقاء في صباح الغد

سواد : عوض الله عليك ياسيدي وأجزل لك العطاء

ينظر سواد إلى الدراهم الثلاثة التي هي أجره اليومي ثم يدسها في جيبه ويتمتم ( الحمد لله على العافية   إذن سأذهب وأشتري لوازم البيت وطعام  ا لعشاء   )

خلف وهو يغلق الدكان يقول : والله مسكين خلف هذا وابن حلال .. أمين وصادق وإلى جانب ذلك نشيط  وفقه الله وعافاه

 تسدل الستارة مع صوت ناي عذب يوحي بقرب وقت أذان المغرب

 

المشهد الثاني :

ترفع الستارة عن منظر السوق في الصباح

كالعادة يفتح سواد الدكان ويتهيأ لعمل يوم جديد , يجلس ينتظر أن تبدأ حركة السوق وقدوم الزبائن قيستبد به التفكير

سواد يحدث نفسه : ( سامحها الله من امرأة , تظن أنها قدمت لي نصيحة !! إني لأعلم ما من رجل سمع نصيحة امرأة إلا غرم , فكيف أسمع نصيحتها ؟)

يتابع(وماذا في ذلك؟ إنها تريد مصلحتي ألست زوجها ورب بيتها .. ألأنها امرأة لا أستمع إليها !! هي لم تخطىء في مسعاها ولافي طلبها .. ماذا لو جاريتها وطلبت من معلمي خلف أن يزيد لي أجري .. فإن ما أتقاضاه ــ ثلاثة دراهم ــ لاتفي بحاجتي وحاجة البيت .. ماذا لو عملت بنصيحتها وطلبت درهما زيادة ..

لا..لا .. إن كلام النساء غير مأمون العواقب ومعلمي خلف لم يقصر معي فكيف إذا علم أن امرأتي تدفعني لطلب الزيادة ماذايكون موقفي معه ..؟ ضحك وحاول أن يقلب صفحة تخيلاته ويطرد هاجس نصيحة زوجته من رأسه .)

في الأثناء يحضر معلمه خلف ويرى آثار الضحكة على محياه

خلف : أضحك الله سنك ياسواد أراك سعيدا تضحك ؟

سواد : نعم .. أضحك من الدنيا وعجائبها

خلف : إذن ما رأيك لو أحضرت لنا شيئا نأكله من عند جارنا الفوال قبل أن ننخرط في العمل

سواد : حبا وكرامة يا سيدي ... يذهب ثم يعود بالطعام .. يأكلان ويحمدان الله

سواد : أنا سوف أتابع عملي المعتاد يا سيدي إذا لم تمانع

خلف : قواك الله وعافاك يا بني  تابع عملك وأنا سأتابع عملي

الجار رواس ينادي : سواد  ..  يا سواد .. اين سواد ؟

خلف : ماذا تريد منه ايها الجار الحبيب إنه مشغول بعمله

رواس : كنت أريد منه أن يساعدني في ادخال البضاعة معي إلى المحل ولن أنسى تعبه

خلف : سأناديه لك .. سواد .. يا سواد

سواد : نعم يا سيدي هل من شيء ؟

خلف : هذا جارنا رواس يريدك أن تساعده في إدخال بضاعته وترتيبها معه

سواد : حبا وكرامه .. حبا وكرامة أيها الجار العزيز

الجار : لقد جاءتني هذه البضاعة للتو وأنا وحدي فلم ادر ما أفعل   بارك الله فيك يا بني

   بعد أن ينتهي سواد من مساعدة جاره

سواد : أتريد شيئا آخر يا جاري العزيز ؟
الجار : شكرا لك يا بني.. شكرا لك ..يتقدم من سواد ويضع في يده شيئا ويقول :

خذ يا بني وسع على نفسك وعيالك
سواد : لا.. ياجار.. لاأريد .. لاأريد

الجار : لا تخيب فيك أملي يا سواد أترد عطيتي ــ والله هو المعطي ــخذ لاتخجل لقد تعبت

سواد يتلعثم  ولا يدري ما يقول ثم يقول لجاره :

شكرا لك يا عمي  وعوض الله عليك  وبارك لك في رزقك
خلف : ها .. انتهيت .. هل كان الجار مسرورا منك ؟

سواد : نعم يا سيدي تركته في غاية السرور  ويشكرك على تعاونك معه

خلف : الشكر لله .. أرى أن ننصرف اليوم باكرا فغدا يوم   الجمعة ولا بدّ ان نستعد له فهو يوم عبادة وطاعة

سواد : كما تريد يا سيدي

في اليوم التالي وبعد صلاة الجمعة يلتقي سواد بالشيخ الجليل نعمان إمام وخطيب المسجد

الشيخ نعمان : ها أنت هنا يا سواد كيف حالك ؟ وكيف عملك مع معلمك خلف
سواد : الحمد لله يا سيدي   الحمد لله   معلمي خلف نعم الرجل الصالح
الشيخ نعمان : ولكن أرى الرقة في حالك والفاقة  كم يعطيك خلف أجرا في اليوم ؟
سواد : بركة يا سيدي بركة .. االحمد لله
الشيخ نعمان : الحمد لله    ولكن كم يعطيك ؟

سواد :  يعطيني في اليوم ثلاثة دراهم يا سيدي

الشيخ نعمان : ثلاثة دراهم ! وهل تكفيك وتسد حاجتك ؟

سواد : الحقيقة  بالكاد تكفي يا سيدي ولكن هذا ما قسمه الله لي  ومن يرض يعش

الشيخ نعمان : ثلاثة دراهم !وما عسى أن يفعل بها المرء   اسمع يا سواد غدا قل لمعلمك خلف إن الشيخ نعمان يسلم عليك ويقول لك : زد لي أجري درهما  واجعله اربعة دراهم في اليوم بدل ثلاثة  ثم أخبرني ما يحدث

سواد : شكرا لك يا سيدي  سوف أقول له ما طلبت   أسلم عليك
الشيخ نعمان : وعليك السلام يا بني  رافقتك السلامة

تسل الستارة مع موسيقى ناعمة

 

المشهد الثالث :

منظر غرفة متواضعة   اثاث بسيط   إضاءة هادئة

سواد ينادي امرأته : أين أنت يا امرأة ؟

الزوجة : أنا هنا ياسيدي إني قادمة

سواد: أسعد الله مسائك يا زوجتي الحبيبة , كيف قضيت يومك ؟

الزوجة : أسعد الله مسائك , رتبت البيت ثم جلست أخيط وأرفو بعض الملابس

سواد : اهذا عمل تعملينه يا امرأة ! كيف تذهبين بمفردك إلى الشيخ نعمان وتحدثينه عن المصروف وتطلبين منه إقناعي بطلب الزيادة من معلمي ؟
 الزوجة : أنا!! أنا خرجت  من بيتي بلا إذنك !؟  أنا تكلمت مع الشيخ نعمان ! !  ومن صاحب هذه الفرية  ؟  والله.. والله.. أنا لم أخرج من بيتي منذ شهور , ولم أر الشيخ نعمان ولم أسمع صوته منذ رمضان الماضي عندما كنت أخرج لصلاة التراويح بصحبتك

سواد : إذن من الذي أخبر الشيخ نعمان حتى يوجهني أن أطلب زيادة على أجري درهما واحدا من معلمي ؟ ألست أنت صاحبة الفكرة ؟

الزوجة : لا أدري .. لعل أحدا لاحظ أن أجرك لا يكفيك وتحدث معه
سواد يكلم نفسه : ( لا.. لا.. غير معقول ... هل يمكن أن يكون هو قد لاحط ذلك وطلب مني هذا الطلب   !!  لا حول ولا قوة إلا بالله

في اليوم التالي وفي مكان العمل

سواد يكلم نفسه أيضا : ( هل أقول لسيدي خلف ما طلب مني الشيخ نعمان ... والله إني لفي حيرة لا أدري ما أفعل ..)

خلف : سواد .. ما بك يا بني ؟ بماذا تفكر ؟
سواد : لا شيء يا سيدي و.. و.. ولكن الشيخ نعمان يسلم عليك كثيرا

خلف : وعليه وعليك السلام , أين رأيته  ؟

سواد : رأيته في المسجد يا سيدي ويقول لك أن تزيدأجري درهما واحدا

خلف : هو قال لك ..

سواد : نعم يا سيدي

خلف : حبا وكرامة وعلى العين والراس  منذ اليوم صار أجرك اليومي أربعة دراهم . هل طلب منك أمرا آخر ؟

سواد : لا ياسيدي  شكر الله لك وضاعف في رزقك .

بعد مدة ليست بالقصيرة يواجه الشيخ نعمان سوادا فيسأله عن حاله كما ويستفسر منه عن دخله وهل زاد له خلف الإيجار أم لا

قال سواد : نعم زاد لي أجري درهما وصار من وقتها يعطيني أربعة دراهم في اليوم

الشيخ نعمان : إذن  هل تحّسن وضعك  وصار الدخل يكفيك ؟
سواد : الحمد لله .. ولكن الوضع ازداد سوءا عما كان عليه ! كيف ؟ لا أدري

الشيخ نعمان : لا حول ولا قوة إلا بالله , يا بني يا سواد غدا سلم لي على معلمك خلف وقل له : يقول لك الشيخ نعمان زدني درهما آخر .. قل له على لساني ولا تخجل

سواد : أليس ذلك كثيرا يا سيدي  إني محرج والله

الشيخ نعمان : قل له كما قلت لك ولا تخجل  اتفهم ما أقول ؟

سواد : يا سيدي يسلم عليك الشيخ نعمان ويقول لك : زدني درهما آخر
خلف : هو قال لك ؟ إذن لا بدّ من ذلك  حبا وكرامة  وعلى العين والراس  ومنذ الآن صار أجرك اليومي خمسة دراهم  هاه  هل سررت ؟

سواد : شكرا لك يا سيدي

وتمضي الأيام والأسابيع بل والشهور وسواد من ناحية المصروف والدخل في شر حال لم يتغير عليه شيء

يراه الشيخ نعمان , فيسأله : سواد كيف حالك ؟ لا أزال أرى رقة حالك , ولا أرى أثر النعمة عليك , ألم يزدك خلف درهما آخر ؟

سواد : بلى يا سيدي زادني , ولكن الحال كما ترى صار دخلي خمسة دراهم في اليوم وما زالت لا تكفيني  ولكن الحمد لله على كل حال  هذا ما قسم لي رب العالمين

الشيخ نعمان : الحمد لله يابني على كل حال ولكن ــ يأخذ صوت الشيخ يخفت ويبطىء ــأقول لك ولا تحزن ولا تعجب , غدا يا بني سلم لي على معلمك خلف واطلب منه الا يعطيك أجرا أكثر من ثلاثة دراهم في اليوم

سواد وقد ارتسمت على وجهه علامتا استفهام وتعجب : كيف ذلك يا سيدي والخمسة لم تكف ؟

الشيخ نعمان : افعل ما أطلبه منك

سواد : أمرك يا سيدي

وفي اليوم التالي وعند المساء تقدم خلف من سواد وقال له: خذ يا بني هذا أجرك  خمسة دراهم بارك الله لك

سواد : لا يا سيدي .. لا.. لا أريد إلا ثلاثة دراهم

خلف متعجبا : ولم يا سواد ؟ هل أزعجك أحد ؟  هل آذاك أحد ؟ لماذا لاتريد إلا ثلاثة دراهم , وأنت من طلب الزيادة ؟؟

سواد : لم يزعجني أحد يا سيدي ولم يؤذني أحد ولكن الشيخ نعمان أطال الله في عمره طلب مني ذلك وأنا لا أخالف له طلبا ولا أعصي له أمرا

خلف يحدّث نفسه : الشيخ نعمان .. الشيخ نعمان .. ماذا يقصد بهذه الحركة يا ترى ؟  لا شك أن أمرا لا نعرفه قد بدا له جعله يطلب مثل هذا الطلب , يلتفت إلى سواد: لا بأس يا بني كما تريد  ويريد الشيخ نعمان

ومرت أيام وأسابيع وشهور وسواد يعيش بدخل يومي مقداره ثلاثة دراهم ولكن صار حاله أحسن , متهلل الوجه عريض البسمة  طيب النفس فرحا مرحا  قوي البنية  كثير الحركة قليل التشكي دائم الحمد والشكر لله تعالى . وفي صباح أحد الأيام :

خلف : أراك سعيدا مرحا منذ مدة يا سواد , وأرى حالك قد تغير إلى الأحسن والحمد لله !! ما سرّ ذلك يابني ؟

سواد : لا ادري يا سيدي هو كما ترى أنا في أحسن حال والحمد لله وثلاثة دراهم آخذها منك أجري اليومي عن تعبي وعملي جعل الله فيها يركة وخيرا كثيرا فله الحمد وله المنة

خلف يتمتم في حيرة : الحمد لله .. الحمد لله البركة هي الأساس ..القناعة والرضا هي الأساس , بارك الله لك يا سواد وزادك من فضله وجوده

الشيخ نعمان يرى سوادا فيناديه : سواد,, سواد يا بني

سواد: لبيك يا سيدي

الشيخ نعمان : كيف حالك يا سواد ؟

سواد : الحمد لله يا سيدي منذ أن طلبت مني أن أكتفي بثلاثة دراهم أجر يومي وانا في خير وسعادة ورضا والحمد لله , لا أعلم ما السر ؟

الشيخ نعمان : أقول لك أنا السر

سواد : وما هو يا سيدي ؟

الشيخ نعمان : السر يا ولدي أن عملك وتعبك الذي تقدمه لمعلمك خلف لا يساوي أكثر من ثلاثة دراهم أجر وما زاد فهو غير مبارك , الأجر على قدر العمل يابني والبركة من الله  ,  تأتي مع الرضا والقناعه

سواد : هو كذلك يا سيدي ..هو كذلك يا سيدي   ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس , وذرة مباركة من الله خير من قنطارخال من البركة

لقد علمتني ياسيدي درسا لا ينسى بارك الله فيك وأطال الله بقاءك ونفع بك عباده المؤمنين آمين  .
تسدل الستارة   انتهى