الشيخ عدنان سعد الدين، رحلت كنخيل الشام واقفاً

عبد العزيز مشوح

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل..

كثيرون هم الذين يموتون كل يوم، قد يموتون قاعدين أو نائمين أما الذين يموتون واقفين فهم قلة قليلة، لأنهم لا يعرفون معنى للنوم أو القعود فحياتهم كلها حركة، ونشاط، وإنتاج، وبركة.

وكثيرون هم الذين يمرون في هذه الدنيا عابري سبيل.. لا يعرفهم أحد، ولا يذكرهم بشر.. ولكن الذين يموتون تاركين بصماتهم في كل موقع مروا به.. هم قلةٌ أيضاً.. لأن عوامل التميز.. وطابع الالتزام.. وآثار الكد والجد.. لا توجد إلا عند من وهبهم الله ذلك.. فأفنوا أعمارهم، لتحيا أمتهم، وترتفع راية عقيدتهم..

لقد كان أبو عامر رحمه الله أحد أولئك الذين ماتوا واقفين.. لأنه لا يعرف للنوم طعماً ولا للقعود معنى..!

أمضى حياته شاباً في طاعة الله، في ظلال هذه الدعوة المباركة، طالباً في حماة ومصر ومدرساً في سورية والإمارات، ومشاركاً في معسكرات الإخوان ولقاءاتهم ومؤتمراتهم، ثم قائداً لهذه الجماعة في أقسى ظروفها، وأصعب مراحلها، متنقلاً في المهاجر بين الأردن والعراق.. وبلاد الله الواسعة..!

ما سمع هيعة إلا طار إليها، ولا مشكلة إلا انبرى لحلها، ولا خلافاً إلا دخل وسيطاً فيه.. الحكمة ضالته والعقل حليفه، والإيمان نصيره وهاديه، واللينُ والرفق والحوار مبدؤه، فإذا جد الجد فهو الليث عادياً، كان يغضب إذا رأى أو سمع محارم الله تُنتهك..

يحترق لمآسي المسلمين وما حلّ بهم من ظلم، ويغلي كما يغلي القدر، عندما يسمع أفعال الطغاة والظالمين.

كرّس حياته لخدمة هذه الدعوة، فعلا المنابر خطيباً وشارك في المؤتمرات محاوراً، واقتحم المجتمعات مدافعاً ومنافحاً..

فإذا تكلم صمت الجميع، وإذا أدلى بحجته أذعن الجميع موافقين ومؤيدين. رافقته في السفر والحضر، فما وجدتُ أعلى منه همة ولا أفصح لساناً وأثبت جناناً.. ثاقب الرأي، مُسدد القول، ذكي الفؤاد، قوي الحافظة، ولا يترك شاردة ولا واردة إلى أحصاها وردها إلى مظانّها وأرجعها إلى مصادرها..

كان مع الجماعة قلباً وقالباً، ومع الوحدة فرداً وجماعة، وحينما طاشت الموازين واختلطت المفاهيم وكاد الجميع أن يتفرق لم يقبل أن يكون خارج الصف وبقي يجالد ويصاول حتى عاد جندياً يجمل الراية ويقول: لا أريد أن أموت وأنا خارج الجماعة وبعيداً عن الصف.

كتب عن مدينة حماة مدينة أبي الفداء بتاريخها، وبينّ مكانتها وعراقتها، وكتب مختصراً لصفة الصفوة ليبين معادن الرجال، وأثرهم في القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة، وكتب عن هذا الإسلام العظيم وإنسانيته، ليظهر مزايا هذا الدين وتسامحه وخيريته للبشرية جمعاء.. وكتب عن تزكية النفس وأصالتها لتكون بذرة صالحة تقوم بها الأمم وتصلح بها الجماعات وكان خاتمة المطاف كتابه الموسوعي والذي صدر منه خمسة مجلدات كل مجلد لا يقل عن خمسمائة صفحة وسماه "الإخوان المسلمون في سورية مذكرات وذكريات"، لأن فيه ما هو متصل بالذاكرة، وما هو مسجل في الألواح، فكان تاريخاً زكي العرف طيب الرائحة، دقيق الوصف، لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فبنى لهذه الجماعة دعامة قوية تستند فيها على تاريخها، وتذكر فيها أمجادها ووقفاتها، وما تريده لهذه الأمة من خير ورفعة، جعله الله في موازين أعماله، وأثابه الله به الفردوس الأعلى من الجنان.

عن أي شيء أكتب يا أبا عامر؟! وأنا بعيد عنك حيث يواريك إخوانك الثرى فأتذكرك طوداً شامخاً لم تفُتَّ من عضده الأحداث، ولم يوقفه المرض العُضال الذي لازمه سنوات فلا يأبه ولا يوليه اهتماماً.. فلا يرد دعوة خير، ولا يتأخر عن مكرمة، ولا يتوانى عن مهمة اتجاه إخوانه:

ما كنتُ أحسبُ قبل دفنك في الثرى ... أنّ الثرى يعلو على الأطواد !

أتذكرك ونحن مقبلون على شهر رمضان شهر الخير والبركة حيث كنت توافينا كل عام للعمرة في مكة المكرمة فتملأ نفوسنا حباً، وحيوية، ونشاطاً، وعزة وإباء.

إن كنت لست معي فالذكر منك معي... يراك قلبي وإن غُيبتَ عن نظري

فالعين تبصر من تهوى وتفقده... وناظر القلب لا يخلو عن النظر

رحمك الله يا أبا عامر، فلقد كنت قمة سامية، تتطامن دونها الأعناق، وتتراجع أمامها الأحداق، رحمك الله في الأولين، ورحمك الله في الآخرين ورحمك الله يوم الدين وحشرنا وإياك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا...