قضايا ملتبسة .. قواعد المنهج الإسلامي في تلقي الأخبار والعلوم عن الأفراد

زهير سالم*

نحفظ ونردد كثيرا قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)

وظاهر مفهوم المخالفة للنص أن النبأ من غير الفاسق لا يحتاج إلى تبين، ولكن المشكلة هنا تنتقل إلى معرفة الفاسق من غيره، لينضبط لنا تلقي الخبر أو العلم والوثوق به..

وضع العلماء المسلمون قواعد بالغة البهاء ظلت مقررة عند المسلمين منذ القرن الهجري الأول، وعلى قواعدها قامت مناهج البحث والتوثيق ، وانضبطت مصادر تلقي الأخبار والآراء المكونة لمادة المعرفة الحقة عندهم .

فالعلم عند أئمة البحث والتأسيس والتأصيل من المسلمين؛ علم رواية، أو علم دراية . ولكل علم منهما موضوع وشروط للقبول والرفض، وقواعد للاعتماد والإعمال...

ومدار علم الرواية " وهي العلوم السماعية " سواء فيما يخص لغة العرب مفرداتها أو قواعدها أو شعر شعرائها الذي هو ديوان ثقافتها وأخلاقها وفضائلها ومشاعرها، وكذا علم أنساب العرب وبطونها وقبائلها، وعلم أيام العرب في الجاهلية وما كان فيها من وقائع وتاريخ ..

أو فيما يخص العلوم الإسلامية التي نشأت مع الدعوة الإسلامية فكان منها علم ضبط الكتاب العزيز، حفظا وتلاوة وأداء وتفسيرا بالمأثور وأسباب نزول وغيرها من علوم القرآن، وعلم رواية الحديث الشريف وما تثبت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل الصحيح منها ، فيبنى عليه وما يستأنس به من حسن، وضعيف؛ وما يرد على راويه.

وكان علم الدراية هو علم يُبنى أصلا على الاستنباط والفقه والفهم والاستخلاص من علوم الرواية فيقدم العالم خلاصة ما يقوده إليه اجتهاده وبحثه وتحريه مع حيطة وحذر من زلل.

ويظل العالم المجتهد في كل ما يصدر عنه من أحكام اجتهادية مترددا مع تحريه، بين الأجر والأجرين، أي بين الخطأ والصواب.

ولكل علم من علمي الرواية والدراية وضع المقعّدون لمناهج العلوم عند هذه الأمة قواعد وضوابط نظل نباهي بها أرقى مناهج العلوم في العصر الحديث.

حين نقرأ أول محاولة علمية لنقد "رواية الكتاب المقدس" أقدم عليها "باروخ إسبينوزا" في القرن السابع عشر ، في كتابه " اللاهوت والسياسة" ندرك مباشرة أن الرجل يثير في وجه رواة الكتاب المقدس، كل الاشتراطات المنهجية التي تمسك بها العلماء المسلمون من قبل.

في علم الرواية يختلف توثيق الراوي بحسب موضوع العلم ..

ففي علم اللغة، لتثبيت مفردة في المعجم العربي، أو تحديد معناها، أو أسلوب أدائها تحتاج إلى رواية "الأعرابي" وكلما كان أعرق أو أغرق في أعرابيته أو في باديته أو في جاهليته؛ كانت الرواية أولى بالقبول والتصديق. بالنقل عن الناطقين الأوائل باللغة نشترط فقط الأعرابية ولا نزيد، ولا نسأل إذا كان هذا الأعرابي عابد صنم أو قليل وفاء..

في التأسيس لعلوم الدين اشترط العلماء المؤسسون لهذه العلوم في الذي يقبلون خبره أن يكون "عدلا ضابطا" وشرط العدالة ينفي عن صاحبه الفسق والكذب والهوى والميل والغرض، وشرط الضبط ينفي عنه النسيان والوهم والاضطراب والتخليط.

والبحث في هذا له موطنه. واشترطوا العدالة والضبط في كل طبقات الرواة، وفق منهجية على قاعدة " يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد في حفظه و نقله"

والعدل والضبط شرطان يجب أن يقترنا، فكم من عدل غير ضابط، وكم من ضابط غير عدل.

القضية الملتبسة في عقول الناس وقلوبهم اليوم، هي قضية العلم والزي. زي الثياب أقصد، ولم يكن للمسلمين الأوائل ولا لجيل العدول منهم، زي خاص يتميزون به عن قومهم. كانت اللحية عبر التاريخ تقليدا عاما في المجتمعات، فلما شاع الحلق، أصبحت اللحية سمة، تخص بعض الناس

وكم كان في غير العدول من رجال يتلى أمام حالهم ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )

وأي زي كان للقصّاص الذين طردهم سيدنا علي رضي الله عنه من المسجد؟! ووددت أن المسلمين طردوهم من حياتهم وعن عقولهم وقلوبهم أبد الدهر..

كيف كان يتزيا وضّاع الحديث، الكذابون على رسول الله!! وكيف كانوا يبتسمون للناس ويقولون حدثنا .. حدثنا .. "الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل"

ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب!!

وآلاف النصوص وضعها أهل الخبث ورواها أهل الغفلة وما تزال تشتهر وتدور على ألسنة الناس!!

علم الرواية يؤخذ عن العدل الضابط..وما كل من روى قبل منه وأعجب ما قرأت في تصنيفهم الحديث المنكر. " خالف فيه الضعيف أو الثقة لا يحتمل التفرد الثقات" ويعجبون..

ثم علم الدراية، ويؤخذ عمن امتلك سهما راجحا من العلم والعقل أيضا..

والمهم الذي يجب أن نحفظه ولا ننساه أن كل عالم مهما كان ثبت ثقة حجة يؤخذ منه ويرد عليه. وعلى هذه القاعدة قام ديننا. وليس في عقيدتنا ولا في شريعتنا أئمة معصومون، وهذا أكبر خلاف بيننا وبين الروافض من الكذابين المدعين.

والقضية التي تلتبس وتحتاج إلى بيان أكبر ، هل كل ما يؤخذ عن هؤلاء من علم الشريعة ظني واجتهادي، ويجوز عليه وفيه..؟؟!

وهذه قضية شديدة الخطورة، زاد التدليس فيها، واستعملها المشككون للتشكيك في كل شيء !!

وعلوم الشريعة على ضربين أيضا ..

محكم وبيّن وعزيمة ومضاء لا توقف ولا تردد فيه؛ وكل قول العلماء فيه فصل جد لا هزل فيه، وكل ذلك قوام هذا الدين، أجمله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " الحلال بين والحرام بين" فالعلماء والمسلمون عندما يتحدثون عن الإسلام في هذه الدائرة يتحدثون عن قول فصل ليس بالهزل. لا يقبل الأخذ والرد. يقول الفقهاء والأصوليون عن هذا، دائرة البينات، والمعلوم من الدين بالضرورة ودائرة الأحكام المقررة والمقدرة. وتقابلها دائرة الأمور المشتبهة، التي يجتهد فيها الفقيه، والقضايا المفوضة، التي فوضت الشريعة أمر تحديد قدرها للمسلمين، والذين " يستنبطونه منهم بشكل خاص، أمر الاجتهاد فيها، وتبني ما يليق بعصرهم منها.

ونحن حين نقول رؤيتنا الإسلامية اجتهادية إنما نقصد هذه الدائرة، وهذه الدائرة للعلم هي الأرحب والأوسع، والتي تنداح اتساعا كلما تقدم بالناس الزمان، وتغيرت في ظروف اجتماعهم العمراني الأحوال.. تتسع هذه الدائرة اطرادا ولكن ليس على حساب الدائرة الأولى، لكي لا يكون الحديث عن شريعة الإسلام حديثا عن فوضى وبلبلة وانعدام يقين..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية