شاهد على العصر الأمريكي في أفغانستان!

سليم عزوز

يعد برنامج «شاهد على العصر» في قناة «الجزيرة» الحاضر الغائب في المشهد الأفغاني، لا سيما المرحلة الخاصة بالحضور الأمريكي إلى كابول، بما قدمه من حلقات مهمة في هذا الصدد، أعتقد أنه من الخطأ بمكان تجاوزها، بمتابعة أخبار اللحظة الحالية.

وإذ قررت مشاهدة شهادة مدير المخابرات الباكستانية السابق، لـ «شاهد على العصر» التي أذيعت في سنة 2010، فقد أرسل لي صديق الحلقة الأولى من شهادة وليد محمد الحاج، أحد المعتقلين السابقين في سجن غوانتانامو الرهيب، والذي أذيع في نفس العام تقريبا 2010، وإذ عقدت العزم على مشاهدة حلقة واحدة، فقد سرقني من حلقة لأخرى حتى شاهدت منه أربع حلقات دفعة واحدة، عبر اليوتيوب، في ثلاث ساعات، وهي شهادة اختلطت فيها المأساة بالملهاة، وجمعت بين المعلومة والتسلية، ولا تخلو مع ذلك من الفكاهة رغم أن من حاور الشاهد هو أحمد منصور!

بدا الشاهد بسيطاً، بساطة أهلنا في السودان، وقد جمع بين بساطة المنبت وبساطة الفكرة، بحسبانه عضواً في جماعة «الدعوة والتبليغ» وقد جرت عليه هذا البساطة المتاعب، التي تعرض لها بعد ذلك، وهو يواجه القوى الأولى الباطشة في العالم، التي قد لا تقتنع بهذه البساطة، وترى أنها تعبر عن إنسان خطر بل شديد الخطورة، وهو الذي لا يحفظ تاريخ وصوله لأفغانستان، وليس له سابق معرفة بطالبان وأفكارها، وكل ما يعرفه عن أسامة بن لادن، هو مجرد خبر قرأه في صحيفة سعودية عندما كان يعمل هناك، وبدا لي كعادل إمام في مسرحية «شاهد ماشفش حاجة» الذي لم يستطع ضابط المباحث عمر الحريري، أو المقدم أحمد عبد السلام، أن يحصل منه على إجابات حاسمة، على أسئلته، بما في ذلك ما يرتبط بالمواعيد منها، لأنه إنسان بسيط من البيت للتلفزيون لحديقة الحيوان، وظن لهذا أنه مجرم «حويط» لا بد أن يكون لذلك من قتل الراقصة عنايات أبو سنة! وبعد هذه التجربة الأليمة، خرج عادل إمام، أو سرحان عبد البصير، منها، ليدون كل حركاته. لكن شاهد أحمد منصور لم يفعل، واستمر على بساطته وظلت التواريخ عنده ضائعة، فلا يستطيع تحديد وصوله لأفغانستان والمدة التي قضاها هناك.

والقصة، أن الفتى السوداني، ترك دراسته الجامعية (طالباً في كلية الشريعة) وسافر إلى السعودية، استعجالاً للرزق، حسب تعبير أحمد منصور، وبعد فترة قضاها في الأعمال الهامشية هناك، كان قراره بالعودة للسودان للزواج، ومعه المهر الذي أصبح موضوعاً للفكاهة في هذه المأساة الإنسانية، لكنه قبل أن يكمل نصف دينه، سافر لباكستان، ليلتقي بقيادة «الدعوة والتبليغ» وهناك تعرض للنصب في أحد الفنادق، حيث كان الحساب في الليلة الواحدة، بما قيمته 250 ريالاً سعودياً، ليعرف بعد ثلاثة أيام قضاها هناك، أن الليلة الواحدة في حدود العشرة ريالات، ولم يتمكن من الوصول لمقر «الدعوة والتبليغ» وبينما كان يستعد للسفر للسودان، قبل أن يتبدد «مهر العروس» روى مأساته على أحد الأشخاص يتحدث العربية فطرح عليه السفر لأفغانستان، ليوافق على الفور، وكأنه في حالة استسلام كامل لقدره!

حبوب منع الحمل

وببساطة، فقد كان يمني نفسه بالقيام بالدعوة هناك، هكذا بين أناس قد لا يعرفون لغته، وهو الأمر الذي يدفع للريبة، عبر عنها أحمد منصور في دهشة، وقال هو إنها كانت مثار أسئلة من الأمريكيين في سجن غوانتانامو، لكنها بساطة أهل التبليغ؛ وما دامت توفرت «النية والبطانية» فإن البركة ستحل حتماً، لكن حدث ما قلب الموازين رأساً على عقب، عندما وزع عليهم في المسجد في أفغانستان، منشور لامرأة من الشيشان، تعلن فيه عدم حاجتهم للرجال، أو للمال، أو للدواء، فقط يريدون حبوب منع الحمل، حتى لا يحملن من المعتدين الروس، وهنا حدث ما يطلق عليه الأنثروبولوجيون طقس التحول، فانتقل من حال إلى حال، وقرر السفر للشيشان، لكنه قرر قبل ذلك التدريب على القتال، فالتحق بالمجاهدين العرب على خطوط المواجهة، مع عبد الرشيد دوستم، لكنه مع هذا ظلت فكرة عودته للسودان، والزواج، في رأسه، فماذا ينقصه والمهر لا يزال في جيبه؟!

في قندوز

وعندما بدأ الغزو الأمريكي لأفغانستان، وبدأت المدن تسقط واحدة تلو الأخرى، تحركوا في طريق الهروب في الجبال الوعرة، لثلاثة أيام بدون طعام أو شراب، حتى شرب بعضهم بوله، في رحلة مثيرة، بكل تفاصيلها، إلى أن وصولوا إلى قندوز، وهي المدينة الوحيدة التي لم تسقط بعد، واحتشدت حركة طالبان فيها، وبدأت الطائرات الأمريكية تلقي بمنشوراتها، تطلب من أهل البلد طرد العرب منها، مقابل عدم العدوان عليهم، ورغم ما جرى للمدن الأخرى، إلا أن القوم رفضوا هذا، وعندما أرسل الملا عمر طائراته لنقل وزراء بالحكومة، رفضوا الانتقال، وترك العرب، وهم مستهدفون من قبل القوات الأمريكية الجبارة، وهي قيم رائعة، تمسك بها الأفغان وجرت عليهم المتاعب، ولم يتفهمها الأمريكان. ومن أين للكاوبوي بمثل هذه القيم، والناس أعداء ما جهلوا!

وبدأت المفاوضات بين مسؤولي طالبان من ناحية، وبين عبد الرشيد دوستم في البداية على تسليم المدينة مقابل السماح بمرور هؤلاء عبر مزار شريف، ولم تقبل طالبان بشروطه، وانتقلت المفاوضات لتكون مع الزعيم الافغاني أحمد شاه مسعود، وكلاهما كان خصماً لطالبان، وحليفا للغزاة، وإذ سافرت الحافلات وعلى متنها أكثر من خمسمئة مجاهدا، كان منهم في حدود مئة فقط من العرب، ليتعرضوا لخيانة الدليل، فبدلا من أن يذهب بهم إلى «بلخ» وجدوا أنفسهم على أعتاب مزار شريف، حيث معقل دوستم، وقلعة جانجي التي بناها السوفيت، وقد تم وضعهم فيها ليلة كاملة دون تقديم طعام الإفطار لهم وكانوا في رمضان، وفي الصباح كانت مذبحة عظيمة، أطلق فيها عسكريون أمريكيون النار عليهم وهم مقيدون، وقتلوا منهم في حدود المئة، وكان يمكن أن تشمل المذبحة الجميع، لولا نجاح أحدهم في التخلص من الأغلال والإمساك بجندي أمريكي ونجاح آخر في قتله! وكانت المذبحة في حضور الصليب الأحمر، وحضور «سي إن إن» التي لم تكن أكثر من بوق أمريكي في عملية الاحتلال.

وهكذا، فالذين يتحدثون الآن عن القيم الأمريكية، وعن ضرورة إقامة طالبان حكومة تنتمي لهذه القيم، قتلوا الأسرى بدم بارد، وفي نهاية الحلقة الرابعة من شهادة السوداني وليد محمد الحاج، لم نصل لمرحلة سجن غوانتانامو الرهيب، وكان قد قرر السفر للسودان ومعه «المهر» لكن القوات الأمريكية قطعت عليه طريق العودة، وهذه أساس قضية المجاهدين العرب في أفغانستان، فكل منهم قد تم قطع طريق العودة إلى وطنه، بطريقة أو بأخرى، يبدو أنه كان مخططا أن تكون مكاناً لتجمع من قررت الولايات المتحدة الأمريكية ملاقاتهم، لكن بعد عشرين سنة من الاحتلال باهظ التكلفة كان الخروج المذل من هناك!

المطاريد

قيمة شهادة ضيف برنامج «شاهد على العصر» أنها تعيد التذكير باللحظات الأولى لهذا الاحتلال، عندما تحولت طالبان إلى مجموعة من «المطاريد» وقد سقطت دولتهم في سرعة البرق، وبدوا وهم يدخلون مفاوضات مع أعدائهم لن تقوم لهم قائمة، والضربات الأمريكية لا ترحم، للدرجة التي جعلت «وليد» لا يهتم في لحظة الهروب مع إخوانه، ولا يشغله المهر، مع أنه لم ينس أن يحمل معه معجون الأسنان، الذي أصاب به الهاربون معه بجفاف حلقوهم، بعد يومين من الجوع والعطش، والهروب في جبال التيه، فلما وضع بعضا منه في فمه، وشعر برطوبة، وزعه على الآخرين «ليبلوا ريقهم» ولم يدري، أنه مرطب وهمي، فقد امتص ما بقي في أفواههم من ريق، وفقدوا القدرة على الكلام، وقد جلسوا يضحكون على حالهم، في أيام عز النصير فيها.

قال الشاهد إن قوات طالبان كان قوامها ثمانية آلاف جندي، قتل منهم خمسة آلاف في مجزرتين (مرتكبوا المجازر يتحدثون الآن عن القيم الغربية) ومن بقي منهم على قيد الحياة، هربوا، في وقت بدا فيه وكأن القوات الأمريكية لا يقدر عليها أحد!

ليبق سؤال الوقت؛ كيف استطاعت حركة طالبان أن تنتصر بعد كل ما جرى، وبعد مفاوضات كانت يدها فيها هي العليا، الأمر الذي دفع اليه نجاحها على الأرض؟!

الإجابة على هذا السؤال تحتاج لشهادة الشهود، في حلقات جديدة من «شاهد على العصر» فنشرات الأخبار لا تقدم الإجابات على الأسئلة العميقة!

لقد أمتعتنا يا زول.