عن إعادة تأهيل طاغية أو تغيير سلوكه

موفق نيربية

بلغ السيل الزبى مع عودة رفعت الأسد و»لجوئه» إلى سوريا – وهو جزار حماة وسجن تدمر- المحكوم بعدّة سنوات سجنا وحسب، على بضعة مخالفات مالية أو تبييض أموال ونشاط عصبوي. ولم تعد الأمور بحاجة إلى الأصول الدبلوماسية كثيراً، بعد فتح أبواب البلاد له هارباً من عدالة أوروبية لاحقته بعد ثلاثين عاماً قضاها وعاشها كأمير أسطوري، بين ماربيا وباريس وغيرها. ولا يتعلّق الأمر بهذا الحدث والشخص هنا، بل بالطاغية الذي ما زال على رأس «عمله».

تلك هي» الزبى» أما «السيل» فكان في مسار انهماك أطراف دولية وإقليمية بما أصبح يُدعى «إعادة تأهيل» بشار الأسد ونظامه، أو مسار «تغيير سلوكه». وقد تفاقم هذا الأمر بعدما ظهر من انسحاب مبدئي أمريكي من المنطقة، فتح للأطراف الإقليمية إمكانية تحصين نفسها مع الطرف الآخر: روسيا والصين وإيران، ومن ذلك الباب لا بدّ من التراجع بسهولة عن الموقف من الأسد ونظامه. فاجتمع وزير خارجيته المقداد، أثناء انعقاد الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة مع تسعة وزراء خارجية عرب، وتواصل النظام مع مصر والأردن، مع استمرار الإمارات بأسبقيتها في الأمر والاتّجاه، وتصديق السعودية أو امتناعها عن إبداء الرأي في ما يجري حتى الآن. وتعيد إسرائيل بدورها أيضاً حساباتها مع الاستراتيجية الأمريكية المستجدة، ولن نستغرب سماع أنباء مفاجئة من طرفها في الأيام والأسابيع المقبلة.

لا يصعب إثبات أن استمرار هذا النظام خطر على الاستقرار الإقليمي والدولي، ولا يصعب أيضاً إثبات أنه عصيٌّ على إعادة التأهيل، ممتنع عن تغيير سلوكه. الأصعب هو تبرير المواقف العربية والإقليمية والدولية المرافقة لتلك المحاولات، لأنها تعتمد عي الطارئ المتغيّر من الظروف وحسب، من دون أن يكون لها أفق مفتوح على المستقبل، ومن دون حسابات أكثر صلابة وتماسكاً حتى على أمنها واستمراريتها، أو استقرارها. وفي ما يلي بعض إشارات إلى موضوعي العنف والطغيان، ولهما دور في تقدير قابلية الطاغية ونظامه لإعادة التأهيل، أو تغيير السلوك، بل في خطر نقل خطره إلى ما حوله.

ليس الحديث عن العنف ذلك المتعلّق بأهمية احتكار الدولة له، أي دولة، بل عن العنف المنفلت والمخطط،، الذي يصبح سمة عضوية في نظام سياسي، أو فئة سائدة، وهذا العنف الأخير سياسي، رغم اكتسائه أشكالاً أخرى عرقية أو طائفية أو قبلية أو مناطقية في كثير من الأحيان، ذلك العنف السياسي متوفّر في سوريا بجميع أشكاله: عنف الدولة على دولة، وعنف الدولة على الجماعات البشرية، وعنف تلك الجماعات بعضها على بعضها الآخر، بل إن مفهوم الدولة نفسه قد صار ملتبساً، لا يحمل صفات الدولة، كما هي بالتعريف والوصف أصولاً.

ومن أكثر الاستنتاجات الراهنة تعقيداً، ذلك الذي يتحدّث عن» انتصار الأسد والنظام» ليصف حالة متهلهلة ضاعت فيها الحدود بين المفاهيم. فقد هُزمت المعارضة من قبل النظام وإيران وروسيا، ومن قبل نفسها أيضاً؛ ولكن النظام لم ينتصر عملياً، ويمكن العودة إلى جميع البيانات عنه وعن الدولة والمجتمع الموجودين تحت سيطرته. وقد وصل هذا النظام إلى» الانتصار» بطريقة لا تحمل إلا معالم الهزيمة في الأصل والجوهر. فقد مارس عنفاً غير مسبوق، وأنهى الصورة والشكل اللذين كانا لسوريا لقرن مضى على الأقل. بالأسماء المحددة، وصل عدد ضحايا الطاغية ونظامه إلى أكثر من ثلاثمئة وخمسين ألف ضحية، كما ذكرت مفوضة الأمم المتحدة. وهؤلاء حتماً أكثر من ذلك العدد بعدة أضعاف، ومعهم عدة أضعاف من المعوقين والجرحى، ومئات الآلاف من المفقودين والمعتقلين، وفوق ذلك قوائم قيصر وصوره التي تحمل من الوحشية والعار ما يُسقط أيّ نظام في العالم. وبالأعداد المسجلة أيضاً، لن نتوانى عن تكرار الحديث عن أن هنالك ملايين النازحين وملايين اللاجئين، الذين يشكل مجموعهم أكثر من نصف السوريين، وكلّهم ضحايا الطاغية ونظامه، وبعضهم من ضحايا «الإرهاب» الذي قام بتصنيعه وتخليقه والتحريض عليه.. يُضاف إلى ذلك ما حاق بالبلاد من دمار شمل نصف البلاد على الأقل، ألحقته قذائف الأسد وحلفائه بالبنية التحتية والفوقية، فالدمار الاستراتيجي الأهم كان بتشتيت وتحطيم الاجتماع السوري (العلم والتعليم، القانون، النسيج الاجتماعي، الصناعة والزراعة والاقتصاد العادي.. والأمل) وتحويله إلى أشلاء لا يسهل جمعها من جديد.

مارس النظام السوري عنفاً غير مسبوق، وأنهى الصورة والشكل اللذين كانا لسوريا لقرن مضى على الأقل

أمّا حين نتحدّث عن الطغيان، فلا نقصد لعبة من الألعاب الإلكترونية، ولا ذلك المثال الذي تأتي به المعاجم عن» طغيان زوجة الأب» على سندريلا؛ بل حتى إننا لا نقصد التعريف المنهجي له، بأنه دولة في ظلّ حكومة قاسية عنيفة وقمعية، أو أنه الاستخدام التعسّفي للسلطة والسيطرة.. ما نقصده هنا على وجه الخصوص، هو في كون الطغيان استخداماً «غير معقول» للحكم، استخداماً يُخرج المقصود من منطق الأشياء وقدرتها على الحياة والاستمرار. بذلك يمكن فهم دور الهولوكوست في إنهاء طغيان هتلر ونظامه النازي، ودور مجازر الثلاثينيات والغولاغ في إنهاء الحكم الستاليني و»الاتحاد السوفييتي» نفسه، ودور تحطيم أصابع فيكتور خارا في نهاية بينوشيت، ودور العدد الهائل لأحذية زوجة ماركوس في تقرير مصير الأخير.

هنا، في سوريا، ستكون صور أجساد الضحايا، والقتل حرقاً وذبحاً، وصور الدمار في المدن العتيقة، وأناقة زوجة الأسد، صيغة لذلك «اللا- معقول» العبثي الذي سيلوّث كلّ من يرى الطاغية أو يصافحه أو يبتسم له.. أو يقول إنه بصدد إعادة تأهيله، أو الضغط من أجل تغيير سلوكه. ما الكلمة أو الكلمات التي يمكن بها وصف من يقتنع بذلك؟ أو لا يقتنع، يقول ذلك وحسب؟ الطبيعي أن ينتهي الطاغية والطغيان كلاهما، الأسد ونظامه، حين يصبح مستحيلاً استمرارهما، مكلفاً وغير معقول وعبثياً، ومعدياً بأمراض قاتلة أيضاً. جاءت الإشارات جميعها من الولايات المتحدة، من إدارة ترامب أولاً، ثمّ ثانياً وخصوصاً من إدارة بايدن. وربّما كانت الإشارات الأكثر أهمية قد جاءت من الصين، منذ ظهر مشروعها «مبادرة الحزام والطريق» ليتوّج مسار ونجاحات الاقتصاد الصيني وتمدّده الدولي، قبل أن تذهب إدارة بايدن لتهدّد الصين في مناطقها مع تحالف أوكوس، ابتدأ الجميع بتلمّس الرياح، لجأ الجميع، في أوروبا والخليج والشرق الأوسط عموماً بالبحث عن ارتباطات أكثر استراتيجية مع الصين. وكان الاتفاق التاريخي طويل الأمد بين الأخيرة وإيران، الذي استسلمت فيه هذه للتنين المقبل من الشرق، هرباً من ذلك المقبل من الغرب. وأحدث ذلك تلك الفوضى وتضارب الاستراتيجيات الإقليمية.. في ذلك الخضمّ، ضاعت مصالح السوريين، وظنّ الطغاة في دمشق أن الفرج قد جاء بأسهل الطرق. حتى الروس، وهم بالطبع أكثر حكمة من النظام، أخذوا يعيدون حساباتهم ويرون الصين تكسب من دون تلك المخاطرات التي قاموا بها حتى الآن، ويتجهون نحو شكلٍ أكثر انسجاماً مع مفهوم العملية السياسية من حيث الشكل دون المضمون.. مع أنه لا يبدو أنهم يرون إعادة تأهيل الأسد رهاناً استراتيجياً عملياً، ولكن يستمر رهانهم على إعادة تأهيل النظام وتزيينه هنا وهناك.

للروس أيضاً أو عنهم: لن يدخل النظام بأي عملية سياسية، ضحلة أم عميقة؛ وهو لا يأنس أبداً لحديث «إعادة الإعمار» إلّا بشكل محدود ينفع المنتفعين فيه وحوله؛ أو «عودة اللاجئين» ما بقيت تهدّد التجانس «النازي» الذي عمل من أجل تطويره.

ومن سوء حظ السوريين تزاحم التناقضات الدولية والإقليمية إلى ما نراه، وانشغال كلٍّ بنفسه ومعضلاته، بحيث لا يُستغرب ذلك الخطأ باستسهال طريق إعادة تأهيل الطاغية وطغيانه من الآخرين، ولكن ضعف همّتهم على إعادة تأهيل وحدتهم وقواهم المشتتة والمنقسمة هو المستغرب، وكذلك امتناعهم عن التقارب والحوار والتفاهم، غرقاً في مصالح الآخرين، ورمالهم المتحركة، أو لعل ذلك لم يعد غريباً!