رمزية الغراب الشعرية

إبراهيم أبو عواد

إن الشِّعر كيان محمول على الرموز . والرموز هي قاعدة البناء الشعري ، والطاقة اللغوية القادرة على زراعة الصور الفنية المدهِشة في ذهن المتلقِّي . وكُل شاعر له رموزه الخاصة به، التي تنبع من طبيعة شخصيته وماهية رؤيته للأشياء . وفي الفضاء الشِّعري يُصبح الرمز كالبصمة ، ولا يَقْدِر الشاعر أن يُحلِّق في فضائه إلا بوجود بصمة مميزة له، تكون بمثابة بطاقة تعريف لإبداعه . والبصمةُ الشعرية تعمل عمل الجناحين للطائر . وكما أن الطائر لا يَقْدِر على الطيران إلا بوجود جناحين ، كذلك الشاعر لا يَقْدِر على الطيران في عوالمه الشعرية إلا بوجود بصمة شخصية ( رمز شِعري ) .

ومِن الرموز المنتشرة بكثافة في أشعار الأمم وثقافات الشعوب : الغراب . ومع أن هذا الرمز يتكرَّر بصورة واضحة في الكتابات ، إلا أن معناه يختلف باختلاف الطبيعة الفكرية للكاتب . وهذا يدل على أن الرمز ليس مقصودًا لذاته ، ولا يُعتبَر غايةً قائمة بذاتها ، وإنما هو وسيلة وأداة توصيل للمعنى .

وقد ارتبطَ الغراب بالتشاؤم والسَّوداوية ، بسبب صَوته المميَّز المهيب ، ولونه الأسود القاتم . وكان العرب في الجاهلية يتشاءمون بِه، فكانوا إذا نَعَبَ مرتين قالوا : آذنَ بِشَر . وإذا نعب ثلاثًا ، قالوا: آذنَ بخير. كما ارتبطَ الغراب بالفِراق ( البَيْن ) . وقِيل : سُمِّيَ غراب البَيْن ، لأنه بانَ عن نُوح عليه الصلاة والسلام لَمَّا أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فَلَقِيَ جِيفة ، فوقعَ عليها ، ولَم يَرجع إلى نُوح .

وفي عالَم الشِّعر ، هناك شاعران حصلا على المجد الشعري والشهرة الأدبية ، عبر توظيف الغراب كرمز شِعري مُحمَّل بالدلالات اللغوية والمعاني الفلسفية . الأول هو الشاعر الأمريكي إدغار ألان بو(1809 _1849). والثاني هو الشاعر الإنجليزي تيد هيوز(1930_ 1998) .

لقد أصبحَ"بو" مشهورًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين نشر قصيدة" الغراب" ( 1845). وتحكي القصيدة عن زيارة غُراب مُتكلِّم وغامض إلى عاشق مُضطرب . وهذا المناخ الشِّعري يُقدِّم الغراب ككائن غامض ظَهر فجأةً ، لِيُعيد ترتيب حياة هذا العاشق المحطَّم نفسيًّا ، والمجروح عاطفيًّا.

صارَ الغراب هو المنقِذ والمخلِّص والناصح الأمين . وكأن هذا العاشق فقد ثقته بالناس ، ولَم يعد يثق إلا بهذا الغراب . وهذه المفارَقة تُشير إلى انهيار العالَم الكامن في ذات الشاعر ، واختلال الموازين ، وفقدان البصيرة ، وغياب الرؤية . وكما يُقال : إن الغريق يتعلق بحبال الهواء . وحياةُ هذا العاشق المنهار في القصيدة ، إنما هي انعكاس لحياة الشاعر" بو" المنهارة بسبب إدمانه الشديد على الخمر ، وكثرة أزماته الروحية ، ومشكلاته المادية. وقد صارت سُمعته سيئة للغاية في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ . وهاجمه النُّقاد بشدة بسبب مُعاقَرته للخمر ، واتَّهموه بأنه مدمن على المخدِّرات. وقال البعضُ إنه يجب أن لا يُترَك الجمهور معَ رَجل مِثله ، غير مستقر نفسيًّا وعقليًّا، يجلس في غرفة مُعتمة، مع غُراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوب مليء بالأفيون .

إن " غُراب بو " هو الذي أبرزَ نقاط توتر الشاعر ، وانهيار عالمه الشخصي ، ووضَّح قلقه وكآبته وأحلامه الضائعة وآلامه المتفاقمة وأوضاعه المالية السَّيئة. لذلك ، ليس غريبًا أن تتمحور موضوعات " بو " حول الموت وعلاماته الجسدية وآثار التحلل ، والمخاوف من الدفن ، والحِداد.

إن قصيدة "الغراب" هي حجر الزاوية في مشروع " بو " الشعري ، الذي يمكن تسميته بالرومانسية السوداء ، وهي ردة فِعل أدبية للفلسفة المتعالية التي كرهها " بو " بشدة .

أمَّا الشاعر تيد هيوز فقد نشر ديوانه " الغراب " عام 1970 بعد مُعاناة كبيرة ، وانقطاع عن الكتابة لسنوات بسبب انتحار زوجته الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث في عام 1963 ، وقد تَمَّ تحميله مسؤولية انتحارها ، بسبب خيانته لها .

يُعتبَر ديوان الغراب أشهر أعمال هيوز على الإطلاق . وهذا الطير يتكرَّر مِرارًا في شِعره رَمْزًا للظلام والقسوة والسخرية السوداء والعنف الذي يتفجَّر في الطبيعة . لقد درس هيوز في جامعة كامبردج عِلم الآثار والحفريات ، وهذا جعله على وَعْي تام بعناصر الطبيعة ، فاستخدمَ الحيوانات والطيور ( وعلى رأسها الغراب ) كنماذج في شِعره الذي يمتاز بالغموض والتَّنبؤية .

إن " غُراب هيوز" جَعل عالمه الشِّعري مليئًا بالعنف البدائي والقسوة المندمجة مَعَ انهيار الإنسان في عالم استهلاكي دموي تَحكمه الشهوات والغرائز. و"الغراب " في شِعر هيوز ليس مفردةً عابرة، أو صورة بلاغية مُجرَّدة ، بل هو رَمز مركزي شديد الاستقطاب ، تَحُوم حَوْله القيم الإنسانية المنهارة ، وملامح القسوة في الوجود . وكأن هيوز _ من خلال توظيفه لرمزية الغراب _ يُريد إعادة الإنسان المتوحش إلى إنسانيته النقية ، وأنسنة العالَم القاسي الذي نعيش فيه. وفي هذا السياق تندمج رمزية الغراب المركزية مع قيمة التمرد على الأنماط الاستهلاكية التي قَتلت رُوح الإنسان ، وحوَّلته إلى وحش ضِد أخيه الإنسان . والتمردُ الشِّعري هو تحوُّل الطاقة الجسدية إلى بُنية لغوية . وهذه البُنية اللغوية لا بُد لها مِن رمز يَحملها . وهذا الرمز هو الغراب ، الذي يُشكِّل بلونه الأسود القاتم الحقيقة الواضحة الصادمة ، بلا ألوان ولا زخارف . وعلى الإنسان أن يُواجه مصيره بنفْسه ، ويَقتلع شَوكه بيديه ، ولا أحد سيأتي لمساعدة أحد . وهذه هي اللحظة المصيرية الفاصلة بين الوجود ( البقاء ) والعدم ( الفناء ) .