تاريخ فلسطين الحديث بين الكيالي وزعيتر

معين الطاهر

صدرت قبل أيام الطبعة الثانية عشرة من كتاب المرحوم عبد الوهاب الكيالي "تاريخ فلسطين الحديث"، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وكانت الطبعة الأولى قد صدرت عام 1971، وسبق أن صدر الكتاب بالإنكليزية والفرنسية والفارسية. وصادف، في الوقت الذي تسلّمت فيه نسختي من هذا الكتاب القيم، أن عثرت في الأرشيف الغني للسياسي والمؤرّخ والدبلوماسي الراحل، أكرم زعيتر، المحفوظ في أرشيف ذاكرة فلسطين، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، على رسالةٍ طويلةٍ كان قد وجهها زعيتر إلى الكيالي، قبل خمسين عامًا، تخلّلتها مراجعة وافية للطبعة الأولى من هذا الكتاب، تتضمن تقريظًا وثناءً على جهد المؤلف، كما تشتمل على مراجعة ونقد وتصويب لما اعتقده زعيتر أخطاء أو نقصًا في بعض المعلومات التي يقدّمها أو المصادر التي يستند إليها. وقد لفت نظري أن الرسالة تُعتبر نموذجًا يُحتذى به في مراجعة الكتب، قَلَّ أن نرى نظيرًا له في هذه الأيام. وقد قادتني إلى إجراء مراجعة سريعًا للطبعة الجديدة، ومقارنتها بما ورد في تعليقات زعيتر الذي يبدأ مراجعته بقوله إنه دأب، إذا أُهدي إليه كتاب، وكان لمؤلفه منزلة عنده، أن لا يبادر إلى الشكر الذي يقضي به محض التفضّل بالإهداء، ولكن يتريث حتى يقرأه، ليقول كلمته فيه، "ويكون الشكر بعد الخبر، والثناء بعد البلاء". مضيفًا أنه اهتم بقراءته "قراءة حرثٍ ودرس، لا لمحًا أو عبورًا، ولا تصفحًا أو مرورًا".

*الرسالة الموّجهة من أكرم زعيتر إلى عبد الوهاب الكيالي تُعتبر نموذجًا يُحتذى به في مراجعة الكتب، قَلَّ أن نرى نظيرًا له في هذه الأيام*

يشيد زعيتر بالكتاب الذي توفّرت فيه مزايا لا تتوفر في مثله مما كُتب عن القضية الفلسطينية، ذاكرًا حرص المؤلف التام على سرد الوقائع، وتدوين الأحداث، كما فهمها، وكما وقف عليها أو أدرجها، وليس كما يشتهي أن تكون، وانفراده بالاعتماد الكلي على الوثائق، وبذل الجهد في اكتشافها وتحقيقها، وفي اصطفاء المهم منها، مع عدم جواز القطع دائمًا "بصحّة ما ورد فيها"، فثمّة وثائق كان لا بد من مناقشتها والشك في صحة ما ورد فيها، ويستدلّ على ذلك بالاستناد إلى تقريرٍ عن مقابلة جرت بين بعض أعضاء وفد مؤتمر جنيف مع المندوب السامي، يوافقون فيه على تصريح بلفور، في حين أن بيان الوفد كان واضحًا في معارضة ذلك، مؤكّدًا صلابة الوفد المؤلف من توفيق حمّاد، وموسى كاظم، ومعين الماضي، وأمين الحسيني. كما لا يوافق على الاستناد إلى رسالة ضابط الاستخبارات البريطاني، جون فيلبي، التي يقول فيها إنه وجد الوجهاء العرب معتدلين ومعقولين، "من دون أن نعرف معنى الاعتدال والمعقولية"، متسائلًا عن الدرس المستفاد من التشكيك بصلابة العرب، "وجهاء أو غير وجهاء، في مقاومة الصهيونية".

كما يعتب عليه اعتماده على مصادر يحسب أنها غير وافية في ما يخصّ محاضر المؤتمرات الفلسطينية وقراراتها، مذكّرًا بأرشيفه الغني، وتقرير لجنة شو 1929، وشهادات الشهود أمامها، وخطاب الشهيد شكري العسلي في البرلمان العثماني. وتحفل مراجعة زعيتر بعشرات المصادر والمراجع الأخرى التي كان يتمنّى على الكيالي الرجوع إليها. وهو في الوقت ذاته يمتدح السرد التاريخي البديع لموقف العرب من الصهيونية، كما يبدو مسرورًا من أن الكيالي قد شفى صدره من عبث (وضلال) أولئك الذين يعرّفون الصهيونية باعتبارها أداة استعمارية لمصلحة دولة ما، أو أنها رأس رمح للاستعمار الفلاني، فيقول: "قد أصبت كبد الحقيقة حين جهرت بأنها حركة استعمارية في حد ذاتها، وأنها موالية للإمبريالية العالمية ودولها المختلفة، دون تحديد". كما ينوّه بروح الإنصاف، والتي كثيرًا ما تجلّت في الكتاب، "فالحديث عن الشريف حسين، أبي الثورة العربية، جاء صادقًا وغير مألوف، عادة بعض الكتاب الجدد الموسومين بالتقدمية الذين همهم التحطيم، ودأبهم التهديم، ولذتهم تشويه السمعات، ونشوتهم التنكر لذوي السابقات".

*يشيد زعيتر بالكتاب الذي توفّرت فيه مزايا لا تتوفر في مثله مما كُتب عن القضية الفلسطينية*

في الطبعة الجديدة، يلاحظ أن ثمّة ما أُخذ به، من ملاحظات زعيتر، وثمّة ما تم تجاهله لاختلاف في الرأي أو التقويم. ضمن الأمور التي بقيت على حالها، اتهام الكاتب والأديب اللبناني، شكيب أرسلان، بأنه كان "على اتصالٍ بموسكو ويثق جدًا فيها"، وقد عزّز زعيتر رأيه المخالف لذلك بأن أرفق للكيالي مقالًا كتبه الأمير شكيب، ونشره في 1935، يتضح فيه شكل علاقته بموسكو، ونقمته عليها، وتأثره البالغ من افتراءات عملائها. ويعجب زعيتر من اعتماد الكيالي على كتاب لناجي علوش مصدرًا لذلك. كما راعَ زعيتر اتهام عز الدين القسام بأنه أقام علاقة مع الإيطاليين "الذين زاد اهتمامهم بشؤون فلسطين بعد حملتهم على الحبشة"، واعتبرها "شنشنة ردّدها الإنكليز، وروّجتها مخابراتهم، لتشويه الحركة الوطنية"، وهو ما بدّدته تقارير لجان التحقيق الإنكليزية الرسمية نفسها. وقد أحزنه أن يرجع الكيالي في هذا الزعم إلى كتاب ناجي علوش "المقاومة العربية في فلسطين"، معلقًا: "ومثلكم يعرف الصحيح من الزائف".

من الملاحظات التي لم تصحّح أيضًا قول الكيالي إن فلسطين أنجبت موسى بن نصير، وخالد بن يزيد الأموي، في حين يرى زعيتر أن خالد هو خالد بن يزيد بن معاوية، وأن موسى بن نصير من وادي القرى بين تبوك والمدينة. ولدى بحثنا عن ذلك، وجدنا أن بعض الروايات تذكر أن موسى بن نصير قد ولد في منطقة الخليل، بغض النظر عن أصل قبيلته، وقد ينطبق هذا أيضًا على خالد بن يزيد الأموي، ولعل هذا ما قصده الكيالي حين استخدم تعبير أن فلسطين أنجبت هؤلاء وغيرهم.

ونفى زعيتر أن يكون تاريخ استقبال وزير المستعمرات البريطاني، ديفونشاير، الوفد الفلسطيني في كانون الثاني/ يناير 1923، إذ يذكر أن الوفد كان قد عاد إلى فلسطين قبل ذلك التاريخ، ويرجّح أن تكون المقابلة قد تمّت في كانون الثاني/ يناير 1922، وهو ما لم يتم تصحيحه. كذلك لم يُضَف اسم شكري القوتلي، كما اقترح زعيتر، عندما تحدّث الكيالي عن أن أحد مناضلي العربية الفتاه "حاول الانتحار، ليظل محافظًا على سرية الجمعية"، متسائلًا "وما ضرّ لو ذكرت اسمه؟ فمن حق شكري القوتلي أن يُعرف أنه هو ذلك الرجل".

*في الطبعة الجديدة، يلاحظ أن ثمّة ما أُخذ به، من ملاحظات زعيتر، وثمّة ما تم تجاهله لاختلاف في الرأي أو التقويم*

الطبعة الجديدة، وربما طبعات سابقة، قُبلت فيها تصويباتٌ عدة كان زعيتر قد أشار إليها، منها تصحيح تاريخ إعلان الدستور العثماني، وأسماء محمد صالح الصمادي، وفريج أبو مدين، وشفا عمرو، وعاطف نور الله. كما عُدّلت الفقرة التي تتعلق بالقافلة الأولى للشهداء الذين شنقهم جمال باشا في 21 آب/ أغسطس 1915، وذُكرت أسماء البقية كاملة، والتنويه بأن حسن حمّاد قد نجا بنفسه، في حين أُبدل الحكم عن حافظ السيد وسعيد الكرمل، لكبر سنهما، وتوفي الأخير في السجن.

ويعتب زعيتر على الكيالي لحملته على رئيس مؤتمر بلودان، ناجي السويدي، حين قال: "إن الاعتدال الذي ساد المؤتمر فرضه أولئك السياسيون الذين يحرصون على صلاتهم الودّية ببريطانيا، وفي طليعتهم ناجي السويدي، رئيس المؤتمر"، فيقول: "يا أخي، ليتني أعيرك محضر مؤتمر بلودان، وليتك اطلعت على ذلك الخطاب القوي الشديد الرائع" الذي ألقاه السويدي، وندّد فيه ببريطانيا أشد التنديد، مذكّرًا بأن السويدي انتهى أمره إلى الموت في روديسيا التي نفاه إليها الإنكليز. وقد أسفرت مناشدة زعيتر الكيالي بأن يستغفر ربه للظلم الذي لحق بالسويدي، وأن يتعهد بتصحيح ذلك، وأن يدع نثر التهم إلى غيره ممن يهرفون - في ما يكتبون - بما لا يعرفون، عن وضع ملاحظةٍ في أسفل الصفحة، تشير إلى وفاة السويدي منفيًا في روديسيا. إضافة إلى ذلك، صُوّبت أسماء أعضاء الوفد المرسل إلى مؤتمر المائدة المستديرة في لندن، من دون الإشارة إلى مشاركة الدول العربية في هذا المؤتمر، أو ذكر أسماء ممثليها، كما اقترح زعيتر.

ختامًا، أضافت الطبعة الجديدة فهرسين إلى الكتاب؛ "الإعلام والأماكن" و"البلدان"، وهما يحتاجان إلى مزيد من التدقيق، فقد غابت عن فهرس الأعلام أسماء عدة، منها اسم أكرم زعيتر نفسه. ويختلط الأمر بينهما. .. وخلاصة القول لأكرم زعيتر ذاته، والذي ازدحمت مراجعته بملاحظات وإضافات واقتراحات لا يتسع المجال لذكرها جميعًا، لكنه لا ينفكّ عن ذكر مآثر هذا الكتاب، مثل الحديث عن الظروف والملابسات التي مهّدت لصدور تصريح بلفور، واعتبار ذلك من أخطر ما ورد فيه، ومن أكثر ما امتاز به، وأخيرًا الإشادة بيقين الكيالي أن المستقبل العربي سيتقرّر على أرض فلسطين.