وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ.. قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً

د. محمد بسام يوسف

 

ينبغي على الداعية المسلم أن يمارسَ العمل الدعويَّ الذي يُحقِّق الإنجازات والنتائج المرجوّة، ولو كرهته نفسه، لأنّ الخير فيه ولا خير في سواه.. فالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ عليه أن يسيرَ في طريق الجهاد المثمر لا الجهاد الذي تميل نفسه إليه إنْ كانا يتعارضان.. فهناك جهاد منتِج قد لا نُحِبّه أو لا تميل إليه نفوسنا، لأنه شاق صعب مُخَطَّط، يتطلّب أعلى درجات التنظيم والالتزام والتضحية والصبر والمصابرة.. ولتوضيح هذه القضية سنتناول بالتحليل والشرح، مثالاً: غزوة تبوك.

أ- الظروف النفسية للمسلمين قبل غزوة تبوك:

1- المسافة بين المدينة المنوَّرة وتبوك طويلة، تصل إلى حوالي (700 كم).

2- والناس في شِدّةٍ من الأمر، في سنةٍ جَدْبة، وحَرٍّ شديد، وعُسْرٍ في الزاد والماء:

- حدّثنا بن هشامٍ عن محمد بن اسحق، قال: [إنّ رسولَ الله أمر أصحابَه بالتهيّؤ لغزو الروم، وذلك في زمانٍ من عُسْرة الناس، وشدّةٍ من الحرِّ، وجدبٍ من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يُحبّون الـمُقَامَ في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلّما يخرج في غزوةٍ إلا كنّى عنها وأخبرَ أنه يريد غير الوجه الذي يَصْمِدُ له (أي يقصده)، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بَيَّنها للناس، لبُعدِ الشُّقَّة (أي المسير)، وشدّة الزمان، وكثرة العدوّ، ليتأهّب الناس لذلك أُهبَتَه، فأمر الناسَ بالجِهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم] (سيرة ابن هشام ج4 ص125).

- وقال قتادة: [خرجوا إلى الشام عام تبوكٍ في لُهبان الحرّ، على ما يعلم الله من الجَهد، فأصابهم فيها جَهد شديد (أي مشقّة)، حتى لقد ذُكِرَ لنا أنّ الرجلين كانا يَشُقَّان التمرةَ بينهما، وكان النفر (أي: عدد من الرجال) يتداولون التمرة بينهم، يَمُصُّها هذا ثم يشرَبُ عليها ثم يَمُصُّها هذا ثم يشرَبُ عليها] (حياة الصحابة ص563).

- وقال ابن جريرٍ - بإسناده - إلى عبد الله بن عباس، أنّه [قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدِّثنا عن شأن العُسْرة، فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوكٍ في قيظٍ شديد، فنزلنا منزَلاً، فأصابنا فيه عطش شديد، حتى ظننا أنّ رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع، حتى ليُظنّ أنّ رقبتَه ستنقطع، وحتى إنّ الرجل لَيَنحَر بعيرَهُ، فيعتصر فرثَهُ (أي: بقايا الطعام في معدته) فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده] (الظلال ج3 ص1727+ صور من حياة الصحابة ص564).

- وكان الرجلان والثلاثة يتعاقبون على الراحلة الواحدة، ومعنى ذلك، أنّ الواحد منهم عليه أن يسيرَ على قدميه (300-400كم) ذهاباً، ومثلها في الإياب: روى الإمام أحمد قال: [خرجوا في غزوة تبوك، الرجلان والثلاثة على بعيرٍ واحد، وخرجوا في حَرٍّ شديد، وأصابهم عطش شديد، حتى جعلوا ينحَرون إبِلَهُم لينفُضُوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عُسْرةً في الماء، وعُسْرةً في النفقة، وعُسْرةً في الظَّهر].

3- وكان المسلمون فقراء، ينتظرون الموسم الذي بذلوا له حتى شَقَوْا برعايته، وقد حلّ وقت القطاف وجَنْي المحصول: قال كعب بن مالك: [وغزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار واُحِبَّت الظِّلال..] (ابن هشام ج4 ص137).

4- ومَن سيحارب المسلمون؟!.. سيحاربون (الروم) أو (بني الأصفر)، أقوى دولةٍ في الأرض آنذاك!.. ومما يدل على الرهبة العظيمة من الروم، ما قاله المنافقون الـمُرجِفون أثناء الإعداد للغزوة، إذ قالوا: [يغزو محمدُ بني الأصفر مع جَهدِ الحال، والحَرّ، والبلد البعيد؟!.. أيحسب محمدٌ أنّ قتالَ بني الأصفر كقتال العرب بعضُهم بعضاً؟!.. والله لكأنّكُم بأصحابه غداً مُقَرَّنين في الحبال (أي: أسرى)!..] (صور من حياة الصحابة ص562).. كما قالوا: [لا تنفِروا في الحَرّ، شَكّاً في الحق، وزُهادةً في الجهاد، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم] (ابن هشام ج4 ص126).

لذلك كله، سمّى الله سبحانه وتعالى تلك المرحلة بـ (ساعة العُسْرَة) وسُمِّيَت الغزوة بـ (غزوة العُسْرَة): (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:117).. وقد بيّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أنّ وجهة الجهاد هي تبوك لقتال الروم!..

فالجهاد الذي أراده الله عزّ وجلّ ورسولُهُ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، صعب جداً كما بيّنا، لذلك، فالنفس لا تميل إليه، لاسيما أنه يترافق مع ظروفٍ محيطةٍ قاسية.. لكنه مثمر كما سنرى، وفيه الخير العظيم.

*     *     *

ب- ماذا حصل بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد؟!..

1- لم يتخلّف من المسلمين المؤمنين الصادقين إلا أربعة من الصحابة، أما أولهم (أبو خيثمة)، فقد تغلّب على تثاقله، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه حين نزل تبوك، وذلك بعد أن حدّث نفسه قائلاً: [رسولُ الله في الضِّحِّ (أي: الشمس) والريح، والحَرّ!.. وأبو خيثمة في ظلٍّ باردٍ، وطعامٍ مُهَيّأٍ، وامراةٍ حسناء، في مالِهِ مقيم، ما هذا بالنَّصَفْ!.. ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدركَه حين نزل تبوك] (ابن هشام ج4 ص128).. وأما الثلاثة الآخرون، فقد بقوا في المدينة مع أكثر من سبعين منافقاً، متخلِّفين عن الجهاد وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع.

2- وحين فقدوا الماء أنزل الله عليهم -في ذلك الحَرّ الشديد- مطراً غزيراً لم يُجاوز حدودَ معسكرهم، وكان ذلك إكراماً من الله عزّ وجلّ للمؤمنين الصادقين، وذلك من سَحابةٍ بدأت تتشكل أمام نواظرهم: [فلما أصبح الناسُ ولا ماء معهم، شَكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّــــه، فأرسل الله سبحانه سحابةً، فأمطَرتْ، حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء] (ابن هشام ج4 ص130).. ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر!..] (صور من حياة الصحابة ص 564).

3- وحين فقدوا الزاد والطعام، أمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا ما عندهم من فضل الزاد القليل، على بساطٍ بسطه أمامه، ثم باركه، فلما فعلوا ذلك، أمرهم أن يأخذَ كلٌّ منهم حاجته، فأخذوا جميعاً وملؤوا أوعيتهم حتى اكتفوا، وبقي منه فضلة: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [لما كانت غزوة تبوك، أصاب الناسَ مجاعةٌ، فدعا عليه الصلاة والسلام بنطْعٍ فبسَطَهُ، ثم دعاهم بفضل أزوادهم، ثم دعا عليه بالبركة، ثم قال لهم: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا وعاءً في المعسكر إلا مَلؤوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة..] (رواه أحمد في مسنده).

4- وَفَــــرَّ العدوُّ مُنسحباً، ولم يواجههم، فكان نصراً عظيماً مجيداً أمام رعايا إمبراطورية الروم، وأمام العرب كلهم: [قال عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروم: يا رسول الله: إنّ للروم جموعاً كثيرةً، وقد دنوتَ منهم، وقد أفزعهم دُنُوُّكَ..] (صور من حياة الصحابة ص566).

5- وأَسَرَ المسلمون الملكَ أُكَيْدِر، ملكَ (دومة الجندل)، من غير قتال، وكان أقوى ملكٍ عربيٍ آنذاك، ومن أشدّهم وطأةً على المسلمين، ما أرهب قبائل العرب كلها، وأصبح هذا الملك حليفَاً للمسلمين، يدفع الجزيةَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاغر، ويكفّ أذاه عن المسلمين.

6- وصَالَـحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نصارى العرب التابعين لدولة الروم: (أيْلة وأذرُح وجَرباء ودومة الجندل..)، على أن يدفعوا الجزيةَ، ويدخلوا في أمان الإسلام وعَهْده، وأمّن بذلك -عليه الصلاة والسلام- حدودَ الجزيرة العربية (الدولة الإسلامية الناشئة) من ناحية الشمال.

7- وعاد الجيش الإسلاميّ فوق ذلك كله، من غير أن يُخْدَشَ منه رجل واحد، ومن غير أن تُبذَلَ قطرة دمٍ واحدة!..

*     *     *

ج- النتائج:

1- إنّ هذه المسيرةَ التي لا نظير لها في تاريخ الإنسانية، قد علّمت الصحابةَ، وكلَّ مسلمٍ إلى يوم الدين، أنّ الجهاد الذي يُحِبّونه ولا تميل نفوسهم إليه، بتأخير الغزوة حتى تنضجَ الثمار، ويخفَّ الحَرّ، ويكثر الزاد والظَّهر، ليس -بالضرورة- هو الجهاد المثمر.

2- وإنّ عليهم أن يخرجوا إلى الجهاد المنتج المثمر، ولو كان جهاداً لا تهواه أو لا تميل إليه نفوسهم في ذلك الظرف، وذلك مهما تحمّلوا من مشقةٍ نفسيةٍ ومادّية.. فالمنافق وحسب، هو الذي يتخلّف عن الجهاد وعن العمل في سبيل الله، ويضع لنفسه العراقيل والأعذار: (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81).

3- وقد خرج عن إجماع المسلمين، الذين بلغ عددهم في تلك الغزوة (تبوك) ثلاثين ألف مجاهد.. خرج عن إجماعهم ثلاثة رجالٍ فحسب، كاد يُخرِجهم تخلّفهم، عن دينهم وإسلامهم، عندما حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليهم بالمقاطعة، ثم بتفريقهم عن زوجاتهم (ولا يفرَّق عن زوجته المؤمنة إلا الكافر)، وذلك حتى يَبُتَّ اللهُ عزّ وجلّ في أمرهم.. ولولا صدق توبتهم، وسابقتهم العظيمة في صف المؤمنين وميادين الجهاد، وحُسن إيمانهم، ومعاهدتهم الله على ألا يكرّروا تخلّفهم عن الجهاد.. لما تاب الله عليهم: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:118).

4- وقد فضح الله سبحانه وتعالى المنافقين المتخلِّفين عن الجهاد، الذين تقاعسوا وأرجفوا وخذَّلوا.. فضحهم فضيحةً كبرى، ووبَّخهم، وقرّعهم، ووصفهم بالسقوط والخِسّة وتفاهة الغرض، لأنهم لا ينشطون إلا للأغراض الزائلة والمنافع العاجلة: (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة:42).. كما وصفهم الله عزّ وجلّ بالجبن والخَوَرِ والعجز وانعدام المروءة: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ*لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ*.. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (التوبة:56،57، 87).

*     *     *

د- النتيجة النهائية: القاعدة الأساسية في بناء الأخ أو الإنسان المسلم:

1- إنّ المسلمَ، قد يقوم بأعمالٍ دعويةٍ جهاديةٍ يُحِبّها، لسهولتها وطراوتها وإمكانية أدائها من غير مَشقّة، لكن عليه أن ينبذَ هذه الأعمال من غير تردّد، إن كانت غير العمل المثمر الذي تقرّره خطّته وتطالبه به أمّته، مهما كلّفه ذلك من عناءٍ نفسيّ، وجهدٍ شاقٍ مضنٍ، جسدياً كان أم نفسياً أم مادياً.

2- ومن غير هذا الالتزام الدقيق بالجهاد المثمر المنتِج المقرَّر بالخطط والبرامج العلمية، لن يتحقّق نصر، ولن تقوم للإسلام قائمة، إذ تصبح الأهواء المتقلّبة والأمزجة هي الطاغية، وهي صلب العمل والتنفيذ.. والأهواء لا تُنتِج خيراً، ولا تُقَدِّم للإسلام نصراً، ولا تدفع عنه نكبةً أو خطةَ عدوّ، أو مكرَ الماكرين المتربِّصين: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:111، 112).