الجمال واتجاه الحضارة

أدباء الشام

[ من "كتاب الأمة: الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري" – العدد 73 ]

في تحديده لدستور الثقافة، في فصولها الأربعة: المبدأ الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والفن الصناعي، يرى "مالك بن نبي" أن هناك علاقة خاصة بين الفصلين الأولين؛ المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي. كما يلاحظ أن هناك علاقة صلة خاصة بينهما، تكون في الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة. حيث إن هذه العلاقة تحدد طابع الثقافة كله، كما أنها ترسم اتجاه الحضارة، حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع وعلى سلوك الأفراد فيه.

فالنموذج الاجتماعي إما أن يقوم على الدوافع الأخلاقية وإما أن يقوم على الدوافع الجمالية، ومن هنا نكون أمام نموذجين من المجتمع؛ تبعاً للدوافع التي تحرك نشاطاته.. وحسب "ابن نبي"، فإن هذا الاختلاف ليس اختلافاً شكلياً، أو مظهرياً، بل هو اختلاف عميق يؤدي إلى نتائج تاريخية ذات أهمية كبرى. إذ كل من المجتمعَين يتطور تاريخياً في اتجاه يختلف تماماً عن اتجاه الآخر، بل قد يتناقضان في كثير من المواضع، إذ إن ما يمتنع مجتمع عن فعله بدافع خلقي، يعمل الآخر على تحقيقه بدافع جمالي.

إضافة إلى أن السلوك والأذواق والمناظر، واللباس، وكل النسيج الاجتماعي، والعمراني، يخضع في تشكيله إلى العلاقة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي. فالمجتمع الغربي مثلاً اشتُهر بفن التصوير، وتصوير المرأة العارية على الخصوص، بسبب الدافع الجمالي، بينما المجتمع الإسلامي -كما يرى ابن نبي- لا نجد فيه أن للفن الإسلامي آثاراً في التصوير، مثل ذلك الذي نشاهده في متاحف الحضارة الغربية، وفي آثارها المتبقية مع الزمن. وما ذلك إلا لأن المبدأ الأخلاقي في المجتمع الإسلامي لا يُطْلِق العِنان للفنان أن يعبر عن كل أنواع الجمال، وعلى الخصوص المرأة العارية.

فالمعيار الذي تقيس به الحضارة الغربية هو معيار الجمال، أما معيار الحكم على الأشياء في الحضارة الإسلامية فهو معيار القيمة الأخلاقية. وهذا في نظر ابن نبي رحمه الله ليس معناه افتقاد الحضارة الإسلامية عنصر الجمال، وإنما موضعه يأتي متأخراً عن القيمة الأخلاقية في سلم ترتيب القيم.

فالمسألة في وضعية إحدى هاتين القيمتين: الأخلاق، أو الجمال، باعتبار إحدى القيمتين محوراً، والأخرى تابعة.. وهذه المحورية ترجع إلى أصول كل ثقافة وما تركبت منه في بداياتها، وإلى جذورها الأولى، فإذا كانت الحضارة الإسلامية نتاج خط النبوة وتعاليم الوحي، مما جعل "الحقيقة" محورها، فإن الحضارة الغربية تعود في أصول ثقافتها إلى ذوق الجمال الموروث من التراث اليوناني الروماني؛ الذي كان شغوفاً بالتماثيل والرسوم، مما جعل الثقافة الأوروبية تركب في مضمونها مزيجاً من الأشياء والأشكال، أي من التقنية والجمالية.

وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية، قد وضعا دستور الجمال المؤسس على المبدأ الأخلاقي، فذلك يبيّن موقع الجمال في المنظور الإسلامي، الذي يُعَدُّ قيمة غير قابلة للانفصال عن القيم الأخلاقية.. ولهذا فإن مسألة اللباس فيما يخص المرأة، منضبط بقيم الحياء والستر، وغض البصر، وإخفاء المفاتن. أما الجمال في المنظور الغربي، وباعتبار أن الحضارة الغربية تتمحور حول الذوق الجمالي، فإن هذا أنتج موجات الموضة والأزياء التي لا تراعي قيم الحشمة والستر والحياء، وتعتبرها لا قيمة لها قياساً إلى المنظر الجمالي. وليس هذا في مجال الأدب والزي فقط، بل إن العلاقة: "مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي"، تدل دلالة واضحة على عبقرية أي مجتمع، وتحدد اتجاهه في التاريخ.