مظاهر غير حضارية

د.عثمان قدري مكانسي

إن أنسَ لا أنسَ يوم كنت في الإمارات وجاءني أحد الإخوة يريد أن أتوسط له للعمل في مدرسة خاصة لرجل ملياردير كان له مدرسة بمراحلها كلها ، وكلية جامعية .

ذهبنا - معشر الثلاثة - جاري وهذا الأخ وأنا بعد صلاة التراويح مساء ليلة رمضانية إلى مضافته ، ..كان في ضيافته ثلاثة رجال وهو رابعهم ، فصرنا سبعة ... فجيء بالطعام مما تنوّع ، ولذَّ وطاب ، يكفي خمسين رجلاً على الأقل ، وقال إنه يفعل ذلك كل يوم . ودعانا إلى الأكل .

من عادة أهل الإمارات أنهم يتناولون الرطب والماء ويذهبون لصلاة المغرب ، ويظلون في المسجد إلى نهاية صلاة التراويح ثم يذهبون لتناول الطعام ، أما نحن معشر - أهل بلاد الشام فنأكل الرطب بعد أذان المغرب ونشرب الماء ، ثم نذهب لصلاة المغرب ، وبعدها نفطر عند من يدعونا أو ندعوه أو مع أهلنا. وعلى هذا لم نكن جائعين ، فتناولنا لقيمات .

أما الرجلُ وضيوفه فأكلوا ، ثم جاء الخدم ليرموا الطعام الذي يكفي خمسين رجلاً في حاوية الزبالة .

تألمت وصاحباي كثيراً لمصير الطعام يُلقى في مكان الأوساخ ولا يستفيد منه أحد ، وفي بلاد المسلمين مَن يبحث عن كسرة الخبز فلا يجدها !!!...

وعام ثلاثة وثمانين وتسع مئة وألف حضرنا وليمة عرس لشيخ في الشارقة ، ذُبِح فيها مئتا خروف ، أكل المدعوون حوالي ثلاثين منها ، وأُكـِلَ من أربعين أخرى بعضُها . أما المئة والثلاثون الباقية فلم يقربها أحد ، فحملت بصوانيها إلى حاويات الزبالة ، وهناك مئات الفقراء من الهنود والباكستانيين يحملون أكياس القمامة السوداء الكبيرة ، وقفوا على باب القصر يتلقون بأكياسهم الأرز واللحم ، وينطلقون بها إلى أهليهم . تكفيهم أسبوعاً كاملاً.

وفي دبي نهاية الثمانينات من القرن المنصرم حضرنا عرساً لأحد شيوخها ، كانت الإمارة كلها مدعوَّةً لحضور هذا " الحفل الأولمبي " ، حيث انتقل سوقُ الخضار والفواكه واللحوم إلى مكان الحفل ، ووزعت صناديقها على الطرقات ليتناول عشراتُ الألوف من المدعويين ما يحلو لهم من الفاكهة والأطعمة .

كثير من الناس بل جلُّهم إن لم أقل : كلّهم حملوا ما استطاعوا من صناديق الفاكهة والخضار في سياراتهم إلى بيوتهم، وتسابقوا إلى ذلك ، وكأنها غنائمُ حلالٌ استحقوها بعد انتصارهم في معركة ضد الأعداء . واستحالت الطرقات التي كانت نظيفة مزابلَ كبيرة ، فكنتَ ترى بقايا الفاكهة واللحوم والأسماك هنا وهناك ، وكثيراً ما ترى الفاكهة يُقضم منها قضمةٌ أو قضمتان ،وتلقى شبه كاملة في الطريق ، وكأن المطلوب أن ينهش أحدُهم لا أن يتلذذ أو يملأ معدتَه. وأن تقضم لا أن تتذوّق وتأكل . وأن نكتشف أنفسنا نعيش في ظل الهمجية لا الحضارة . وقد علَّمَنا الإسلامُ الذوقَ والأدب ، فكان غائباً بتعاليمه وذوقياته وأدبياته عنا ، وكأننا لسنا من أبنائه وأتباعه .

لن أبحث عن العذر فيما جرى ويجري ، وقد أقول : إن الحرمان الذي تعيشه أمتنا في ظل سرقة الثروات دون قسمتها بالعدل بين أبناء الأمة يولّد مثل هذا التصرّف الذي يترجم حال الأمة المقهورة ، المسلوبِ حقُّها ، التي تعبر لا إرادياً عمّا تكتنزه من ألم في أحشائها ، قد يظهر بين آونة وأخرى .