الذئب الأبيض 1+2+3

حيدر الحدراوي

الذئب الأبيض!

حيدر الحدراوي

[email protected]

ح1 .

المزيد ... المزيد من الضرائب , يفرضها الملك سبهان على سكان مملكته , وعليهم ان يدفعوا , ومن لم يدفع فتصادر ممتلكاته , بيته , مزرعته , ادواته التي يعمل بها , وحتى ملابسه , فأن لم يجد , فتقيد عليه الضرائب على شكل ديون واجبة او مستحقة الدفع , تشرد الناس واجبروا على ترك بيوتهم , فتوسدوا الشوارع قرب بيوتهم الموصدة و المختومة بختم الملك , وانتشر بينهم الجوع والمرض , حتى التصق الجلد بالعظم , وأصبحوا هياكل عظمية متحركة , فغادر بعضهم المدن والتحقوا بالغابات , يأكلون من حشائشها , وما فيها من الحيوانات , الا انهم لم يسلموا من مطاردات جيش الملك , الذي عمد الى احراق الغابات لاجبارهم على الخروج ودفع الضرائب المستحقة عليهم .

لا يستثنى احد من دفع الضريبة , الا من التحق بجيش الملك , فيعفى منها ويصرف له راتب شهري , التحق الكثير من الشباب ليحفظوا عائلاتهم , كان يحزنهم ما يجري , وغير راضيين ولا مقتنعين بتصرفات الملك سبهان , الا انهم لا حول لهم ولا قوة , ويتوجب عليهم تنفيذ الاوامر .   

تحولت المدن التابعة للمملكة الى خراب , هجرت المنازل , وتعطلت الاسواق , وأمتلئت الشوارع بالمرضى والجياع , يستجدون كسرة خبز , من كل مار , من الجنود او ذويهم .

***********************************

يتحصن الملك سبهان في قلعة مهيبة , احاطت بها الجبال الشاهقة من جهتين , واسوار شامخة احاطت بالجهتين الاخريين , يمتد على طول السور من الخارج خندق عميق ملئ بالوحل , الجنود في كل مكان , داخل القلعة وعلى الاسوار وخارجها , لا احد يمكنه الاقتراب , في ليل او نهار , الا ونالت منه النبال .

صنع له عرشا فخما في مكان مرتفع , يطل على القلعة بأكملها , ويحيط به الوزراء وقادة الجيش , تدار حوله اواني الشراب , وتمركزت في الوسط موائد عليها مختلف الوان الفاكهة والطعام , الجميع كان جذلا مسرورا , الا الوزير حواس , كان مهموما , محزونا , يرى ان المملكة تسير نحو الهلاك , فيفكر في انقاذ البلاد والعباد بأي وسيلة كانت , ألتفت الملك سبهان اليه , ولاحظ انه كان غارقا في التفكير , لا يشاركهم في الاكل والشرب او الكلام .

الملك سبهان : أيها الوزير حواس ! .

-         لبيك سيدي الملك ! .

-         أراك شارد الذهن ! .

-         نعم سيدي الملك ... كنت افكر لو انكم تقومون بزيارة للملك عنيجر في مملكته ! .

أندهش الملك سبهان من هذا الاقتراح , ورآه صائبا :

-         نعم الرأي ... اذن أبعثوا رسولا للملك عنيجر ليحدد يوم الزيارة ! .

اسندت مهمة توفير الامن لموكب الملك سبهان الى الوزير حواس , فأنتهز الفرصة , وسار بالموكب خلال بعض المدن التابعة للمملكة , وسار بمحاذاة عرش الملك سبهان , فتجمهر الناس على قارعتي الطريق , بين مرحب بالملك , وبين مستجد خبزا , او اي شيء تجود به ايادي الجنود , فلفت انظاره الى ما يعانيه شعبه من بؤس وشظف العيش , وحرص ان يريه الخراب الذي حلّ بالمدن , ونقص الخدمات فيها , ثم جذب انظاره الى الجياع والمرضى الذين توسدوا الطرقات , فقال :

-         سيدي الملك ... انظر الى شعبك ... ظهرت عليهم أثار الجوع , فبرزت العظام ... وتفشت بينهم الامراض ! .

لكن الملك سبهان لم يعر له أي اهتمام , وأردف الوزير حواس قائلا :

-         انظر الى المباني صودرت لعدم تمكن اصحابها من دفع الضرائب ... فتركت مهجورة ... وملأتها الاشباح ... انظر الى الاسواق قد هجرها التجار بعد ان تعطلت وخسرت تجارتها ... فاغلقت الدكاكين ! .

لم يعره اي اهتمام , لكنه التفت يمينا , فشاهد ثلاثة دكاكين مفتوحة , فقال مشيرا اليها :

-         أنظر ايها الوزير حواس ... هناك تجار لا يزالون يمارسون اعمالهم ! .

-         سيدي الملك ... ما هي الا اياما معدودة ويغلقوها ... ثم ينضموا الى هذه الحشود الجائعة ... العارية ! . 

لم يبال الملك سبهان بما وقعت عليه عيناه , ولا بما سمعت أذناه , استمر موكبه بالمضي قدما , حتى شارف الوصول الى مملكة عنيجر , أنتهز الوزير حواس الفرصة , فأمر الموكب بالمرور في اول مدينة , أزدحمت الناس على قارعتي الطريق للتفرج على الموكب , فأقترب الوزير حواس منه , وقال له مشيرا الى الناس والبنايات :

-         سيدي الملك ... أنظر الى الناس جميعهم في خير وعافية ... اجسادهم ممتلئة ... ملابسهم جيدة ونظيفة ... انظر الى البنايات المرتفعة ... ولايفوتكم الالتفات الى الخدمات ! .

-         انهم شعب عامل وطموح  ! .

-         ليس ذاك سيدي الملك ... بل ان الملك عنيجر يخفف عنهم الضرائب ... فيمكنهم العمل من شراء حاجياتهم الاساسية والغير اساسية .. يدفعون الضريبة ويفيض لديهم المال ! .

-         ايها الوزير حواس ... أتريد القول أن السبب في تعاسة شعبي هو سياستي وسوء ادارتي للبلاد ! .

-         لم اقصد ذلك سيدي الملك ... لكني كنت اقول لو انكم خففتم عبأ الضريبة على شعبكم ... ليتيسر لهم العيش برخاء ورفاهية ... ويتمتع برغد العيش تحت حكمكم وفي رعايتكم ! .

-         هكذا اذا ... لقد تعمدت مرور موكبنا ببعض من مدننا ... لنرى ما فيها ... ثم تعمدت مرورنا بمدينة من مدن مملكة عنيجر ... فنشاهد ما فيها ونطلع على احوالها ... ومن ثم نقارن بينه مملكته وممالكه ومملكتنا وممالكنا ! .

حاول الوزير حواس ان يلطف الاجواء , بما يحفظ صفاء فكر الملك سبهان , ويتجنب اثارة غضبه , لكن الملك سبهان نهره , ولم يسمح له ان ينبس ببنت شفة , وأردف قائلا بغضب :

-         تقصد ان الملك عنيجر أفضل مني في ادارة شؤون مملكته ! .

-         لم اقصد ذلك ابدا ... فرأيكم حكيم ... وفكركم سديد ! .

استشاط الملك سبهان غضبا , وقال :

-         أخرص ! ... لقد كانت فكرتك ... كنت تقصد اهانتي بهذه الطريقة ! .

التفت الملك سبهان نحو الحراس , وأمرهم ان يلقوا القبض على الوزير حواس , وان يرسلوه الى السجن , بينما اكمل موكبه المسير بين شوارع المدينة , وسط هتافات ترحيب من شعب عنيجر , الذي خلع البعض قبعاتهم ورماها في الهواء ! .

************************************

خمسة من حراس الملك الاشداء قيدوا الوزير حواس , وعادوا به الى المملكة , كان بينهم حارسا وفيا للوزير حواس , فتبادل بعض الاشارات معه , طلب من الجميع التوقف قليلا للاكل والشرب , حاول جاهدا ان يقنعهم , فرفضوا , وبعد الالحاح الشديد , قبلوا , فبينما كانوا مشغولين بتحضير الطعام والشراب , فك قيد الوزير حواس , وتناول الاخير سيفا , وتبارزوا معهم , فقتلوهم , لقد كان الوزير حواس فارسا محنكا من فرسان المملكة , فأستطاع ان يجهز على ثلاثة منهم , فأجهز الحارس على الرابع .

أمتطى كلا منهما جوادا وهربا , سلكا طريقا غير معهودا , حتى دخلا في غابات كثيفة , أجتازاها ببطء , فوصلا الى طريق وعر , لا يمكن للجياد ان تسلكها , ترجل الوزير حواس , وطلب من الحارس كشمر ان يترجل , ويربط الجوادين جيدا , تسلقا الكثير من الصخور , حتى وصلا الى الجهة المقابلة , التي تطل على ساحل البحر , اندهش كشمر من هذا المكان , فسأل الوزير حواس عنه :

-         سيدي ... ما هذا المكان ؟ .

-         هنا يقيم بعض الاصدقاء ! .

-         لم ار مكانا كهذا من قبل ... رغم انني عشت في المملكة ولم اغادرها ابدا ! .

لم يعره الوزير حواس اي انتباه , واخذ ينظر هنا وهناك , وكأنه يفتش عن شيء , حتى شاهد كوخا صغيرا , فأبتسم وقال :

-         لابد انهما يعيشان هناك ! .

اسرعا نحو الكوخ , لكنهما لم يجدا احد فيه , فصاح الوزير حواس بصوت تردد صداه :

-         سندال ... تليفه ! .

لم يجبه احد , فقال كشمر :

-         لابد انهما قد غادرا ! .

-         كلا ... يبدو انهما ذهبا للصيد ... سنجلس وننتظرهما ريثما يعودان ! .

الذئب الابيض ! ح2

انتظرا طويلا , حتى لمحا قاربا يقترب من الشاطيء , فأسرعا نحوها , فاذا بسندال وتليفه وابنتهما نجود , لم يصدق سندال ما رأت عيناه , فأسرع نحو الوزير حواس , والتقيا بعناق دام طويلا , تفجرت فيه عيناهما بالدموع , ورحبت تليفه بالصديق القديم حواس , فوقع نظر الوزير حواس على الفتاة , فقدمها سندال له , لم تكن تعرفه , لكنها لاحظت حرارة ترحيب اباها وامها به , فصافحته ورحبت به بحرارة ايضا .

جلس الجميع داخل الكوخ , وقدمت تليفه الشراب لهم , شرع الوزير حواس بقص القصص عليهم , ,اخبره عن كل ما حدث وجرى عليه , فقال سندال :

-         اذا أبقيا معنا ... على الرحب والسعة ! .

لكن الوزير حواس كان له رأي اخر :

-         لم أت الى هنا للاقامة ! .

-         بماذا تفكر ايها السياسي اللامع ! .

-         افكر ان نقوم بثورة ضد الملك سبهان ... ونخلص شعبنا من براثنه ! .

-         لقد تركنا السلاح منذ عشرون سنة ! .

فتحت تليفه صندوقا كبيرا , وأخرجت منه عدة سيوف , وضعت احدها على الطاولة , امام زوجها سندال , وناولت اخر لابنتها نجود , واحتفظت بواحد لنفسها , فقد كانت من محاربي السرية , وقالت :

-         الى ثورة ... نخلص شعبنا من هذا الظلم والاجحاف ! .

أعترض الوزير حواس عليها وقال :

-         ليس هكذا ... بل يجب ان نفكر اولا ... ونضع خطة ! .

تناول سندال سيفه , قلبه , وقال :

-         اولا يجب ان نجمع سرية المحاربين القدامى ... سرية محاربي الذئب الابيض ! .

كان لكلماته وقع شديد على اذان زوجته تليفه والوزير حواس , الذي اعتصر بمرارة وقال :

-         لم يبق منهم الا ثلاثون محاربا ... عشرة منهم في جيش الملك سبهان ... والبقية تفرقوا في الاصقاع والامصار ! .

-         الان نحن ثلاثة منهم فقط ... وأبنتي محاربة جيدة ! .

-         نجود ! ...

-         نعم نجود ... لقد دربناها على استعمال كافة اسلحة الحرب ... وهي بارعة في صيد التماسيح واسماك القرش .

-         ان استطاعت ان تقتل قرشا او تمساحا ... بالتأكيد يمكنها ان تقتل جنود الملك سبهان ! .

-         أذا فلنرسل في طلبهم ! .

-         سنرسل كشمر الى الابعد ... ونرسل نجود الى الاقرب منهم ! ... اما انا وانت وتليفه فلا يمكننا مغادرة هذا المكان ! .

سلم الوزير حواس كتبا عدة لكشمر , وأرشده الى الاماكن المطلوبة , حيث فرسان سرية محاربي الذئب الابيض , وكذلك فعل مع نجود , فأمتطى كلا منهما جوادا , وأنطلقا , وحثهما على ان ينجزا مهامهما بأسرع ما يمكنهما , وان يكونا حذرين ! .

**************************************

كان الملك سبهان منغمسا في الاكل والشرب بضيافة الملك عنيجر , حين همس احد الضباط في أذنه :

-         سيدي ... ان الوزير حواس قتل الحراس وهرب ! .

لم يبال بالامر , لكن ضابطا اخر حثه على خطورة القضية , فقال الملك سبهان :

-         ما يمكنه فعله ؟ ! .

-         ان يقوم بثورة ضدكم سيدي ! .

ضحك الملك سبهان بصوت مرتفع , تردد صداه في القاعة الكبيرة , فألتفت اليه جميع الحضور , وعمّ السكون , فقال مستهزئا :

-         ثورة ! ... يثور بهؤلاء الجياع ... يثور بثلة من هياكل عظمية خاوية ! .

أرتفعت قهقهات الحاضرين , وأطرب لسماعها .

**********************************

بعد مرور سبعة ايام , عادت نجود وبصحبتها خمسة فرسان , وفي اليوم التالي عاد كشمر بصحبة احد عشرة فارسا , تبادلوا الترحاب والعناق , الابتسامات وحتى الدموع , فجلسوا غير مدركين على الارض , يسخر بعضهم من بعض , سخرية مزاح :

-         لقد اصبحت كهلا عديم النفع ! هههههههه .

-         عشرون سنة غيرتك كثيرا ! .

-         لقد صبغ شعرك المشيب باللون الابيض ! .

أنتهز الوزير حواس هذه الفرصة , وخطب فيهم , شارحا لهم الموقف , نهض احدهم ضاحكا وقال :

-         سنعود للحرب ... من اجل شعبنا ! .

نهض الجميع , وهتفوا بالايجاب , فقالت تليفه :

-         عددنا اصبح تسعة عشر محاربا من محاربي ذلك الزمان ... وهذا العدد غير كاف ! .

فقال الوزير حواس :

-         لقد انتهينا من الخطوة الاولى ... الان يجب ان نفكر في الخطوة التالية .

أنبرى احد المحاربي ليقول :

-         وماذا عن قائد السرية ... لقد سمعت انه لا يزال على قيد الحياة ! .

وجم الجميع , وغابت عن وجوههم البسمة , وظهرت عليها علامات التعجب والذهول , ونظر كلا منهم في وجه الاخر , فقال الوزير حواس بعد ان تمالك نفسه , واستجمع قواه :

-         أووووه الذئب الابيض ... نعم انه لا يزال على قيد الحياة ... انه يعيش في وادي بعيد جدا من هنا , لم يفلح احد بالوصول اليه .

-         لقد سمي الوادي على اسمه ( وادي الذئب الابيض ) ! .

-         على كل حال ... لقد اعتزل واحتجب عن الناس ... اما الذهاب اليه واقناعه باللحوق بنا سيستغرق الكثير من الوقت .. يجب الان ان نقنع الناس بالالتحاق بنا .

-         كيف نقنعهم بذلك وهم على هذه الحالة من الجوع والمرض ! .

اشار سندال الى البحر , وقال :

-         هناك المزيد من الطعام ! .

-         لقد صودرت جميع قوارب الصيد التي كانت بحوزة الصيادين ... لعدم مقدرتهم على دفع الضرائب ... فهجروا الصيد .

-         وما الحل اذا ؟ .

-         سنهاجم القوافل التي تجلب الطعام والشراب من الممالك المجاورة الى القلعة ! .

************************************

هناك طريقان , لا يمكن للقوافل سلوك غيرهما , لوعورة المكان , وكثافة الغابات , احدهما يربط المملكة بمملكة عنيجر , والاخر يربطها بمملكة سنافي , كان الوزير حواس على اطلاع بمواعيد وورود القوافل بحكم منصبه , فكمن هو ورفاقه لقافلة قادمة من مملكة سنافي لقرب ورودها حسب الموعد الذي يعلمه , فأنقضوا عليها أنقضاض الليوث على الفريسة , قتلوا حراسها , واخلوا سبيل من كان فيها من العبيد , واستولوا على الخيول والعربات وما حملت , واقتادوها الى كوخ سندال .

لم يمر وقتا طويلا , حتى كمنوا لقافلة قادمة من مملكة عنيجر , فقتلوا من كان فيها من جيش الملك عنيجر , واطلقوا سراح العبيد , واقتادوا ما استولوا عليه من الخيول والعربات المحملة بالبضائع الى كوخ سندال , الذي اصبح مقرا لانطلاقهم . 

وزعوا الحمولة على الناس , فأكلوا حتى الشبع , وشاع الخبر بينهم , وتناقلته الالسن بمزيد من الاضافات الاسطورية , فرحب الناس بعودة حماة الشعب , فرسان سرية محاربي الذئب الابيض , الذين كانوا يحضون بحب وعشق الجماهير لهم , فتمنى الكثير منهم الالتحاق بهم , والبحث عن مخبأهم السري .

********************************

وصل فارسا مثخنا بالجراح , لينحني امام الملك عنيجر , وقال :

-         سيدي الملك ! .

-         ماذا وراءك ؟ .

-         لقد هوجمت القافلة ... وقتل جميع الجنود ... واستولوا على كل ما فيها ! .

أستشاط الملك عنيجر غضبا , فنهض من كرسيه , وصرخ قائلا :

-         يا جبناء ... لم تتمكنوا من صد هجوم ثلة من اللصوص ! .

-         سيدي الملك ... لم يكونوا لصوصا عاديين ... لقد كانوا يتمتعون بمهارات قتالية عالية ... كأنهم فرسانا من ذوي الخبرة ! .

-         حمقى ! ... وكم كان عددهم ؟ .

-         تسعة عشر مهاجما ! .

-         تسعة عشر لصا ... يهزمون قوات النخبة ! .

أطرق الملك عنيجر الى الارض مفكرا , واردف :

-         هل من علامات مميزة ... فنرسل للملك سبهان كي يقضي عليهم ؟ .

-         كانوا يحملون راية فيها صورة ذئبا ابيض يمسك سيفا في كل يد ! .

حالما انهى الضابط كلامه , كأن صاعة نزلت على الملك عنيجر , فأرتمى على كرسيه الكبير , وسأله :

-         هل كان معهم فارسا يضرب بسيفين ؟ .

-         كلا سيدي ! .                               

أستغرق بالتفكير , يحدث نفسه :

-         كان عددهم خمسون ... عشرون ماتوا ... الان عشرة منهم في جيش الملك سبهان ... واحدا منهم يسكن في وادي الذئب الابيض ... الباقي تسعة عشر ! .

نظر الى الوزير خنيفر , وقال له :

-         انهم هم ! .

فقال الوزير خنيفر :

-         ان كانوا هم فلابد وانهم قد شاخوا ووهنوا ... او ربما ان ثلة من اللصوص وقطاع الطرق رفعوا رايتهم وتزييوا بزيهم ! .

حدق الملك عنيجر في الضابط , وسأله :

-         هل كان بينهم أمرأة ؟ .

-         لست متأكدا ... لكني رأيت ان شعر احدهم كان طويلا ... يضرب بقوة ويصرخ بصوت انثوي ! .

فصرخ الملك عنيجر قائلا :

-         انهم هم ... انها تليفه ! .

وضع الوزير خنيفر يده اليمنى على كتفه الايسر , فلاحظ الملك عنيجر ذلك وقال له بشيء من السخرية والاستهزاء  :

-         هي التي قطعت يدك اليسرى في احد تلك المعارك ... لكنها لم تجهز عليك ... لانك رميت سيفك وتوسلت بها كالاطفال ... هل لديك روح الانتقام ؟ ... ام بماذا تفكر ؟ ! .

ضحك الملك عنيجر بصوت عال , بينما جفل الوزير خنيفر في مكانه , فحاول استجماع قواه , وتمالك نفسه ليقول :

-         كانت معركة ضارية ... لقد اذاقونا حر السيوف ... وسقونا كؤوس الهزائم ... ووضعونا في مواضع الذل والهوان ! .

-         الان قد عادوا ... لقد كان الخطأ الاكبر اننا تركناهم يعيشون ... كان يجب القضاء عليهم جميعا ! .

-         خمس سنوات من القتال المرير ... كاد من شأنها القضاء على مملكتنا ! .

اطلق الملك عنيجر زفرة عميقة جدا , وقال :

-         كانت المعارك ضارية ... من جميع الاتجاهات على مملكة شكاحي ... الملك الطيب ... فعمد على تأسيس هذه السرية للدفاع عن مملكته ... وقد ابلوا بلاءا حسنا ... وكاد يقضي على الممالك الاخرى وارغامها للخضوع تحت حكمه مجددا ... بعد ان دب فيها العصيان ... ولولا اطماع الملك سبهان في الحكم لما قدر لنا البقاء في هذا العرش ! .

-         أجرينا الكثير من الاتفاقيات مع الملك سبهان الذي كان يقود جيوش الملك شكاحي ... وعدناه بحكم المملكة من بعده ... فوافق ... وبدأ الجيش بالتمرد على شكاحي من داخل مملكته ... وداخل قلعته ... فقتله سبهان ... ليجلس هو على العرش ... تاركا جيوش المملكة تغرق في الدماء ... وقتلت زوجة الذئب الابيض زعيم سرية محاربي الذئب الابيض ... وتخلخلت السرية وبدأت بالانحلال اثر موت عشرون من افرادها غيلة وغدرا ... وبدأت بالتراجع بعد ان سمعوا خبر موت الملك شكاحي واعتلاء الملك سبهان العرش ... فوجدوا ان مدنهم قد تحولت الى ركام بعد ان التهمتها النيران ... لم يقو الذئب الابيض على ذلك ... فأخذ جثة زوجته وهرب بعد ان اثخنته الجراح ... وشارف على الموت ... ليستقر في وادي بعيد جدا ... سمي بأسمه ... تحصن فيه ... وحصنه بالكمائن ... فلم يستطع احد من الدخول الى ذلك الوادي ... فعاش هناك حزينا ... وحيدا ... اما باقي فرسان السرية ... فتفرقوا وتواروا عن الانظار في اماكن لم يعرف بها احد ... عدا الوزير حواس وعشرة من المحاربين ... قرروا الموافقة للخضوع والاعتراف بالملك سبهان ... بعد ان رفض الباقون ... فقد كان الوزير حواس يفكر في خدمة شعبه وتخليصه من هذه الاعباء ... فأنحنى امام الملك الجديد سبهان ! .

-         اراك لا تزال تتذكر القصة جيدا ... ولم تؤثر الشيخوخة  على ذاكرتك ! .

-         يمكنني نسيان كل شيء ... الا قاطع يدي اليسرى ... لذلك اتذكر هذه الاحداث جيدا ! .

-         تليفه ... فخر محاربي مملكة شكاحي ... اتفكر بالانتقام منها ؟ .

-         ليس لدي القدرة لذلك ... لكني ارغب ان اراها اسيرة ... ذليلة ... لقد بحثت كثيرا عنها ... فلم اجدها ! .

-         الا زلت تخشاها ... او تخشاهم ؟ .

-         لقد اذلتني ! .       

أقترح الوزير خنيفر عليه , ان يرسل رسولا للملك سبهان ليبلغه بما حدث , وليستطلع الامر ! .

الذئب الابيض ! ح3

يستمع الملك سبهان بأنتباه شديد , الى الضابط الذي يقرأ التقارير بحضرته , في هذه الاثناء , دخل احد الضباط وقال بصوت مرتفع :

-         رسول الملك سنافي ! .

فأذن له الملك سبهان بالدخول , لكنه منعه من قراءة الرسالة , وأومأ الى الضابط ان يكمل قراءته للتقارير , فدخل نفس الضابط , ليقول :

-         رسول الملك عنيجر ! .

أذن له بالدخول , لكنه منعه من الكلام أيضا , واومأ الى الضابط ان يواصل قراءته للتقارير , بعد ان أتم قراءته , التفت الملك سبهان للرسولين وقال لهما :

-         اعلم ماذا يريد الملكان ... لكن انتظرا حتى احملكما رؤوس اولئك اللصوص ! .

نظر الى الوزير مريطي , وقال له :

-         هل علمتم اين يختبأ اولئك اللصوص ؟ .

-         نعم سيدي ... أنهم يختبؤون في كوخ سندال . 

-         وماذا تنتظر ... لماذا لم تهجم عليهم ؟ .

-         سيدي الملك ... ان الكوخ يقع على ساحل البحر ... ولا يمكن الوصول اليه الا عن طريقين ... الاول من خلال الغابات الكثيفة ... ثم من خلال ممر جبلي ضيق ... لم نسلكه خشية ان تكون هناك كمائن معدة لجيشنا ... والثاني عن طريق البحر ... ولا املك الامر بتحريك الاسطول نحوهم ... فأوامر الاسطول تصدر من الملك فقط ! .

-         نرسل اسطولا لقتال حفنة من اللصوص ... أرسل سرية واحدة فقط وليجلبوا رؤوسهم الى هنا ! .

أقتربت سرية تتكون من خمسين فارسا من الغابات , فعلم الوزير حواس ورفاقه , واستعدوا لمواجهتها , فقال الوزير حواس :

-         لسنا بحاجة الى قتل الفرسان ... بل نحن بحاجة الى سلاحهم والجياد ! . 

أشتبك الطرفان في قتال من غير هوادة , حديد يصطك بحديد , وحديد يقطع اللحم , ويكسر العظام , بعد ساعة , أنفض الاشتباك , وأنتهت المعركة لصالح الوزير حواس ورفاقه , جمعوا الجياد والسلاح , وأختفوا في الغابات .

وزع الوزير حواس السلاح على من التحق بهم من سكان المملكة , وأمر ببناء سورا من الخشب على ساحل البحر , قريب جدا من امواج البحر , وترك منفذين للبحر من خلاله , كان سندال قد استغرب الامر , فساله :

-         لماذا هذا السور ؟ .

-         سوف يقرر الملك سبهان القضاء علينا بأي وسيلة ... وليس له منفذ الى هنا سوى البحر ... ستأتي سفنه لتقف هناك ... ثم ترسل قوارب الجنود الينا ... فلابد ان نستعد قبل فوات الاوان ! .

***************************

أستشاط الملك سبهان غضبا لدى سماعه بهزيمة جنوده , فقال له الوزير مريطي :

-         لا يمكننا شن الهجوم عليهم من جهة الغابات ... بل نستطيع ان شنه من جهة البحر ! .

-         أرسل احدى سفننا .. وأقضوا عليهم هذه المرة ! .

أرسلت السفينة مرساتها قبالة ساحل كوخ سندال , وبدأت بأنزال الجنود الى قوارب صغيرة , فأمر الوزير حواس بصب الزيت على جذوع الاشجار , وأضرام النار فيها , ثم دفعها نحو القوارب , كان الموج مرتفعا , يدفع القوارب بقوة , وكذلك جذوع الاشجار , فأرتطمت ببعضها , وسقط الجنود في البحر , ليصبحوا فرائس سهلة لاسماك القرش ! .

أقبلت سفينة اخرى محملة بقوارب اكثر , وعددا اكبر من الجنود , فأنزلت قواربها , وبدأت تقترب عائمة من الساحل , عند اقترابها اكثر واكثر , أمر الوزير حواس بسكب الزيت في البحر , فسكبت كميات كبيرة منه , ثم أشعلت فيها النيران , فعامت بقع كبيرة من الزيت الملتهب على سطح البحر , وكانت الامواج هادئة , مما ساعد في التصاقها بالقوارب , حارقة اياها بما تحمل من الجنود , فقرر الكثير منهم خطئا ان يلقي نفسه بالبحر ليطفئ النيران , لكن اسماك القرش كانت لهم بالمرصاد ! .

عادت السفينتان تجران ورائهما اذيال الهزيمة , لكن سفينة اكبر حلت محلهما , وأنزلت عددا اكبر من القوارب المحملة بالجنود , لكن الزيت قد نفد , ولم يبق منه الا عدة براميل , فأمر الوزير حواس بوضعها بجانب السور , ثم امر النبالين ان يصوبوا نبالهم نحوها بعد ان أشعلوا النار في رؤوسها , وأنتظر حتى يقتربوا من السور , فرفع سيفه الى الاعلى ليصرخ امرا في الوقت المناسب :

-         الان ! .    

بمجرد ان سمعوا الصوت , أطلقوا النبال نحو البراميل , فأصابوها , فأنفجرت انفجارا مدويا , وارتفعت السنة النار عاليا في الفضاء , أحترق الكثير من الجنود , وحاول بعضهم التراجع , فأمر الوزير حواس نبالين كانوا متمركزين فوق الجبال , بتوجيه نبالهم , مستهدفين الضباط اولا , فعمت الفوضى بين صفوف الجنود , بعد ان شهدوا مصارع ضباطهم , تراجع بعضهم الى القوارب , بينما فضل اخرون ألقاء السلاح والاستسلام ! .

***********************************

أستمرت غارات الوزير حواس على القوافل المتجهة نحو قلعة الملك سبهان , ومصادرة ما فيها , فقرر الملك عنيجر ان يتدخل لمصلحة صديقه الوفي الملك سبهان , ويسعفه قبل ان ينفد ما لديه من الطعام والشراب , فأرسل قافلة محملة بالطعام , يحيط بها حراس النخبة , ما ان دخلت في المداخل الضيقة بين الجبال , شن الوزير حواس ورفاقه الهجوم عليها , ودارت معركة دامية , أنتهت كالعادة لصالحه , ثم سيقت العربات المحملة بالطعام نحو الغابات الكثيفة , لكنهم بالطريق مروا على قرية ريكان , التي يتضور سكانها جوعا , أغلقت بيوتهم وختمت بختم المملكة , بعد ان صودرت لعدم تمكنهم من دفع الضرائب , فلا يمكنهم دخولها , قرر الوزير حواس التوقف , وأطعامهم مما غنم , هبّ الناس نحوهم , فأكل الجميع , الاطفال والنساء , الشباب والشيوخ , لم يمر وقتا طويلا , حتى بدأ الجميع بالتجشؤ , وألقاء ما اكلوه , ليستسلموا اخيرا الى الموت .

ترجل الوزير حواس من جواده , وأخذ يحثو التراب على رأسه , ويقول باكيا :

-         لقد خدعنا ! .     

ترجلت تليفه , أقتربت منه , وقالت :

-         لو كان معنا لما استطاع احد ان يخدعنا ! .

ردد الجميع كلماتها , فقال الوزير حواس بغضب وحرقة :

-         نعم ... لو كان معنا الذئب الابيض لما استطاع احدا ان يخدعنا ! .

-         اذا ... فلنذهب اليه ! .

أعترت المرارة جسده وقال :

-         كيف سوف اذهب اليه ... وماذا سوف اقول له ... هل اقول له اني قتلت شعبي بسبب غبائي ؟ ! .

-         سيتفهم الامر ... لوجوده بيننا اثر كبير على الشعب ... وعلى جيش الملك سبهان ! .

-         حسنا سوف نذهب اليه ! .

**********************************

أستغل الملك سبهان هذه الحادثة , ليبث الشائعات بين الناس , ان هؤلاء محاربي الذئب الابيض الذين خدموا الشعب , ودافعوا عنه طويلا , لم يعودا كذلك , الان هم مجرد لصوص , وقتلة , وما جرى في قرية ريكان , لهو خير دليل على ذلك .

أثرت الشائعات في كثير من الناس , لكن كثيرا منهم لم يتأثروا , وأستمروا بالالتحاق بركب الوزير حواس , من اجل ان تستمر الثورة ! .

يتبع