خميس في بلاد العجائب

يحيى البشيري

الحلقة الأولى

توقف خميس طويلاً قبل أن يرسل جواب البرقية التي وردته من أمه، ولكن حبه لها، وحرصه على إدخال السرور إلى قلبها، دفعه لأن يخبرها بأنه قادم بعد أيام.

عاد إلى البيت، وجعل يتفحص مجموعة من الصور حتى وقف عند صورته التي وضعت على الجواز قبل خمسة عشر عاماً، كان مقطب الجبين، عابس المحيا، فقد التقطت بعد إخفاقه في الحصول على الثانوية العامة للمرة الثالثة، عندما عزم على الرحيل إلى بلاد "الديزل" للعمل فيها في أي عمل.. ثم أمسك صورة تضمه وأمه، والتي التقطها قبل عام تقريباً في أحد المتنزهات، وراح يحدّق فيها ويتصور أمه العجوز على فراش المرض، وقد أقعدها كبر السن.. إنها كانت تأتيه في كل عام بطلب زيارة فتمكث عنده شهراً أو أكثر، ولكنها في هذا العام عجزت عن المجيء.. لكم كان يتمنى أن تشاركه حياته هنا

بعيداً عن القرية ومعاناتها.

إنه ليكاد ينسى القرية وما فيها، إذ ماذا يمكن أن تفعل خمسة عشر عاماً في نفسه.. لقد حدث تغيير كبير بعد غيابه، فحتى اسم البلاد قد تغيّر من الجمهورية الفيحائية إلى (التقدراكية) "التقدم والاشتراكية".

* * *

جهّز نفسه خلال أسبوع واشترى ما يلزم من هدايا للأهل والأصدقاء، وتأكد من صلاحية سيارته للسفر الطويل، ومرّ على بعض أبناء منطقته من مدرسين وموظفين ممن يسافرون كل عام تقريباً ليأخذ صورة جديدة عن الوضع في بلاده، وليكون على معرفة بآخر ما استجد فيها! صحيح أنه يقرأ في المجلات والصحف، وبعضها من صحف المعارضة، ولكنه يريد أن يحيط بالأحوال عن طريق أولئك مباشرة!

* * *

الأول سأله: هل لك أحد من المعتقلين، قريب، صديق، ابن حارة، معارف؟

تذكر خميس أن ابن خالته هشام معتقل منذ عشرة أعوام، وهو في السنة الأخيرة في كلية الطب، وأن إمام القرية أخذ منذ سنتين، وقد أخبرته أمه أن مسجد القرية بلا إمام، وأن أهل القرية يذهبون إلى القرية المجاورة لحضور صلاة الجمعة؟!

الثاني: هل تعرف أحداً من المتنفذين؟

تذكر خميس أن المتنفذين الذين كانوا قبل خروجه قد تبدّلوا، وأن وجوهاً جديدة لابد أنها حلّت مكانهم.. ولكن أمه أخبرته في آخر زيارة لها أن "رفيق" زميله الذي رافقه في الرسوب ثلاث سنوات في الثانوية العامة أصبح ممن يشار إليهم بالبنان، فهو يقضي ويمضي على حد تعبير أمه- وكأنه حسيب آغا أيام زمان، ولكن هل يبقى رفيق ذاكراً المعاناة المشتركة بينهما.

الثالث: أتعرف أحداُ في المخابرات، يمكن أن ينتظرك في المطار أو على الحدود؟

تذكر خميس أن زميلاً له يدعى "حسيسون" كان قد تطوع في المخابرات بتوجيه من ابن عمه النقيب "علي" وأنه لابد- أصبح ذا مرتبة اليوم-، ولكن أين هو؟ ومن يصله به؟؟

الرابع: (على استحياء) لما خرجت من البلاد هل كنت تصلي؟

وقبل أن يجيبه بادره بسؤال آخر: هل كنت مواظباً على الصلاة في المسجد، بحيث يبدو عليك مظهر التديّن الذي يوحي لكاتب التقارير أن يصفك باتجاه معين؟!

تذكر خميس أنه تأثر بأحد مدرسيه في أثناء المرحلة الإعدادية، فبدأ يصلي، وأنه عندما حصل على الشهادة الإعدادية تقدم إلى دار المعلمين ولكنه رُفض، ولم يبيّن له أحد شيئاً عن سبب رفضه، إلا أن أحد معارف الأسرة نصحه بالصلاة في المنزل، وإلى ضرورة الانتساب إلى منظمة "شباب المسيرة" فقد يكون هذا هو سبب الرفض! إلا أن هذا الأمر مضى عليه أكثر من عشرين عاماً.

وقع خميس في حيرة وارتباك، فصمم على ترك أسئلتهم، وأن يستفتي نفسه، فهو أدرى بحاله، فصلاته أيام زمان كانت متقطعة، وكثير من أبناء القرى يصلون، وهذه اللحية التي أطلقها هنا يستطيع أن يزيلها قبل سفره، وهو بالأصل لم ينخرط في أي اتجاه.. أما جواز سفره فليس عليه أية تأشيرة إلى الجمهورية الرافدية، ولا المملكة الحسينية، لا في تجارة ولا زيارة..

أما الصحف والمجلات التي تهاجم النظام، وحتى صحف المعارضة فهو يقرأها عند الأستاذ عمار، ولا يشتريها، ولم يجدها أحد في يده.

* * *

أحس بالارتياح، وهو يستلقي على سريره، ولكن صورة ابن خالته "هشام" برزت أمامه، ومعها سؤال كبير: أليس هذا قريبك وزميلك في الدراسة، فبماذا تجيب إذا سئلت عن علاقتك به؟

ابتلع ريقه، وأحس بعينيه تزوغان، ثم انتفض ليجلس على كرسي قريب، وهو يردد:

ليس لي علاقة به ياحضرة المحقق- صحيح أنه ابن خالتي، ولكننا مختلفان تماماً، فأنا مثلاً أدخن وهو لا يدخن، وأنا أترصد بعض فتيات القرية، وهو لا يفعل ذلك، وهو يصلي وأنا لا أصلي إلا في المناسبات، وهو متقدم في الدراسة وأنا فاشل.

- ولكن هشام يقول غير ذلك!

- أبداً.. ليس صحيحاً.

- هل تواجهه بهذا الكلام؟

تلعثم خميس قليلاً، ثم تذكر أن هشاماً على الأغلب- قُتل في السجن، أو انتهت حياته بسبب الأمراض المتفشية، فقد سُلّمت جثث لشباب كانوا أقوى منه وأمتن، وهو شاب ضعيف رقيق.

تشجع خميس، وصاح: أتحداه، وأتحدى من يثبت أن لي أية علاقة معه.

دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، انتبه خميس إلى نفسه، وقد أحس بالارتياح لهذه النتيجة، فعاد إلى السرير ليغط في نوم مليء بالأحلام والكوابيس.

الحلقة الثانية

امتلأت سيارته الصغيرة بالأشياء الثمينة والرخيصة، وانتهى من حزم الأمتعة.. ثم وقف ينظر إلى السيارة التي ذكرته بصورة رآها في إحدى المجلات اللبنانية للمهاجرين في أثناء الاجتياح الإسرائيلي، ولكن كان ينقصها أطفال صغار يركبون على ظهرها! قبيل المغرب بلحظات انتهى من كل شيء، ثم دخل إلى المنزل ينتظر المودعين، ومرسلي الهدايا والأغراض لذويهم.. على العموم كانت زياراتهم قصيرة، وأغراضهم مقبولة، وهو لا يستطيع أن يرد لهم طلباً طالما أنه مسافر عن طريق البر.

(1) يا سيد خميس هذه علبة فيها أسبرين ومضاد حيوي، وتحميلات سخونة، وشراب للسعال، ومسكنات للنزلات الخفيفة.

- على الرأس والعين.. ولكن..!

- أنت بعيد عن البلاد ولا تعرف شيئاً عن فقدان الأدوية..

(2) أستاذ خميس، بعض الدفاتر والورق المسطر لبيت أخي محمود.

- دفاتر؟! ورق مسطر؟ هل أنت تمزح؟!

- لا والله لا مزاح ولا شيء من هذا القبيل.. فالدفاتر مفقودة، والورق غير موجود حتى في الدوائر الرسمية.

(3) أسطى خميس! هذا كيس فيه خمسة كيلو سكر، كان أبو جاسم أوصاني أن أرسلها له.

- يا جماعة، هل أنتم متفقون على هذا المزاح؟

- أي مزاح، يا أبا جمعة، أنت لا تعرف ما يجري في البلد!.

(4) أخي أبا جميع، لن أكثر عليك.. أرسلت فقط كيلو من القهوة، وكيلو شاي، وعشر علب مناديل ورق..

جحظت عينا خميس وقال: مناديل ورق؟ لماذا؟ إن سعرها هنا وهناك لا يختلف؟!!

ابتسم الرجل ابتسامة حزينة، وقد أحس باتهام مهين وقال: يا سيد خميس، ليست القضية قضية اختلاف في الأسعار، ولكن القضية أن المناديل مفقودة.

- مفقودة!!

وقبل أن يتم كلامه قال الرجل: أذكر لك حادثة عايشتها بنفسي في آخر زيارة للبلد، فقد أصيبت ابنة أخي الصغيرة برعاف شديد، وأردنا نقلها إلى مستشفى المحافظة، فلم نجد علبة مناديل في أي دكان! فقيل إنها تباع في المؤسسة الاستهلاكية، فذهبنا إلى المؤسسة، فقال البياع: لابد أن تأتوا بورقة موقعة من مدير الناحية، وذهبنا إلى مدير الناحية وأحضرنا الورقة لنحصل على علبة فيها خمسة وسبعون منديلاً! لقد تغيرت الأمور كثيراً يا سيد خميس.

انفضّ المجلس، وذهب الجميع إلا واحداً بقي ينفث دخان سجائره، ويشرب كؤوس الشاي التي لم تتوقف! فهو لم يأت ليرسل شيئاً مع خميس، ولكن ليقدم بعص النصائح، لأنه عاد منذ أسبوعين، وقد سافر ورجع عن طريق البر.

التفت إليه خميس وقال: إيه يا كامل! كيف ترى فَهْمَ هؤلاء الناس؟ لقد ظنوا أن معي شاحنة كبيرة، فبدؤوا يرسلون ما يحلو لهم.

كامل: لا.. يا خميس، إن كل ما أرسلوه معك يحتاج إليه الناس في بلادنا التقدراكية!!

قال خميس ممازحاً: وأنت ماذا سترسل؟

كامل: لن أرسل شيئاً، لأنني عدت منذ أيام كما تعلم- ولكن أريد أن أنصحك بعض النصائح، ولاسيما عندما تصل إلى الحدود.

- هات ما عندك..

- أولاً: لا تضع ما معك من المال بشكل بارز.

ثانياً: ادفع لموظف الجوازات مائة ليرة دون نقاش حتى يختم لك بالدخول، فهو لا يرضى بأقل من ذلك.

ثالثاً: ستمر على دوريات كثيرة للجمارك، فلا تجادلهم كثيراً وادفع لكل دورية خمساً وعشرين ليرة على الماشي- وإلا أتعبوك.

رابعاً: لا تأخذ معك أي كتاب أو مجلة أو صحيفة.

وهنا قاطعه خميس: ولكن الحاج عمر أرسل معي كتاباً للشيخ عبد الواحد إمام القرية المجاورة لقريتنا!

صمت كامل ولم يجب، فلم ينتظر خميس طويلاً، وقال بلهفة: بماذا تنصح؟؟

كامل: أرني الكتاب.

وراح يتفحصه ويقلب صفحاته، وخميس ينظر إليه بقلق منتظراً رأيه، فهو يثق به.. فكامل أكثر منه ثقافة واطلاعاً، وقد كان مديراً للمدرسة الابتدائية، ثم إنه قريب عهد بالبلاد.

أخذ كامل نفساً طويلاً، وهز رأسه وقال: أظن أن الكتاب ليس فيه شيء، فالفتاوى النووية كان موجوداً في المكتبات التجارية، ولكن بغير هذه الطبعة.. توكل على الله، والله تعالى يحفظك ببركة العلم.. كنت أظنه لابن تيمية ولكنه للإمام النووي.. النووي لم ينزل اسمه بعد في قائمة المطلوبين..

ثم أتبعها بابتسامة مريرة، وأشار إلى لحية خميس: وهذه اللحية؟

خميس: (دون تردد) سأزيلها.. سأزيلها صباحاً قبل أن أسافر.

كامل: أعانك الله.. وإن شاء المولى تسافر وتعود بالسلامة.

الحلقة الثالثة

وصلت السيارة إلى نقطة التفتيش على الحدود، ليقف خميس في طابور طويل، ويركن سيارته جانباً..

كان أثر السفر والتعب بادياً عليه، فهو لم ينم يوم أمس إلا سويعات قليلة.

أخرج مائة ليرة كما أوصاه كامل- وأخفاها داخل الجواز، وبعد مضي ثلاث ساعات وصل إلى النافذة، ومد يده إلى الموظف الذي أرجع له الجواز مباشرة، مع عبارة سريعة: لازم تنتظر أكثر!

لم يستطع خميس أن يسأله عن السبب، فالذين خلفه كانوا أكثر منه تضايقاً وانتظاراً.. فانسحب ذاهلاً، ووقف جانباً يقلب صفحات الجواز؟! فمائة الليرة موجودة!! إذاً لماذا أعاد الجواز؟ ولماذا هذه العبارة الخشنة؟

التفت حوله فوقعت عيناه على أحد المسافرين، وهو يهم بركوب السيارة بعد أن انتهى من الإجراءات.

- يا أخ.. يا سيد..

- خير.. تفضل.

- لو سمحت..

واقترب منه، وهو يحاول أن لا يراه أحد:

- قل لي.. الله يخليك، ماذا أفعل؟ لقد أعاد الموظف إلي الجواز، وقال لي لازم تنتظر أكثر..

ابتسم الرجل وقال له: وضعت البخشيش في الجواز؟

- نعم..

- كم وضعت؟

- مائة ليرة.

- هذا هو السبب، فنحن قبلك وقعنا فيها، انتظرت أربع ساعات مع الأولاد في هذا البرد القارس، لأفاجأ بأن البخشيش صار مائة ريال!

صاح خميس: مئة ريال!! يعني عشرة أضعاف؟ لا.. لا.. لابد أن أراجع المسؤولين.

قال الرجل: لا تتعب نفسك، لقد جربت قبلك، فقال لي رئيسه المباشر: إذا ما عجبك فانتظر.

فانتظرت.. ثم مر بي موظف آخر ليهمس في أذني:

- ما في فائدة من الانتظار.. ادفع بالريال حتى يمشي الحال..

ودفعت..

خميس: دفعت مائة ريال؟!!

تركه الرجل في حيرته وارتباكه، وامتطى سيارته متوغلاً في بلاد العجائب؟!!

لم ينتظر خميس طويلاً، حتى استبدل مائة الليرة بمائة ريال، وعاد ليقف في آخر الطابور لأكثر من ساعتين ونصف.. ودفع الجواز، وهو يخشى أن يكون السعر قد ارتفع في هذه البورصة الحدودية.

أمسك الموظف بالجواز يقلب أوراقه، فوقعت عينه على قطعة من ذات مائة الريال.. فابتسم دون أن ينظر إلى خميس وقال مهمهماً: ماشي..

* * *

أنهى خميس جميع الإجراءات، وجاء دور التفتيش، فتذكر أن ليس معه شيء يثير الانتباه سوى كتاب الحاج عمر، ولكن كامل طمأنه بأنه كتاب عادي جداً..

فلم يكد ينتهي، ويهم بركوب السيارة، حتى فاجأه أحد العناصر يدعوه لمقابلة النقيب!؟؟

لا يستطيع خميس أن يتجاهل هذه الدعوة، ولكن كامل لم يذكر له شيئاً عنها!!

نظر النقيب في وجه خميس، ثم سأله بهدوء مفتعل: شو جايب معك؟؟

عدد له الأغراض والهدايا، وذكر اسم الكتاب وهو يحسب أن النقيب سيطلب منه إحضاره، ولكنه لم يعره أي انتباه، فاطمأن خميس قليلاً، وبدأ وجهه يستعيد لونه الحقيقي.

أعاد النقيب السؤال بصيغة أخرى وفي همس رقيق: شو جبت لنا معك؟

لم يعد خميس محتاجاً إلى توصيات كامل التي لم تكن كاملة، فأنزل يديه بهدوء يخفيهما عن نظر النقيب، وخلع ساعة يده التي اشتراها قبل أسبوع، ثم وضعها في جيبه، وحاول أن يرسم على شفتيه بسمة ارتياح.. ثم دفعها للنقيب قائلاً: ما في شي على قد المقام.. ساعة يد سويسرية، آخر ما نزل إلى السوق.

ابتسم النقيب، وهو يحدق النظر فيها قائلاً:

- أنا قلت إنك ما بتنسانا..

ثم ضغط على زر، فدخل العنصر.

- رعد! لا تؤخروا السيد خميس، كل شيء معه رسمي.

- حاضر سيدي..

وخرج خميس وهو يتنفس الصعداء..

الحلقة الرابعة

انطلق خميس بالسيارة من نقطة الحدود، وهو يحمد الله على هذه النتيجة.. صحيح أنه فقد مائة ريال، وساعة ثمينة وتأخر قليلاً، إلا أن أعضاءه ما تزال سليمة، ولم يفقد شيئاً منها! وكذلك لم يسمع كلمة نابية، ولا فقد شيئاً من الأمانات المرسلة معه..

كانت اللوحات الفوسفورية تلتمع تحت أضواء السيارة، فيتابع قراءتها ليخفف عن نفسه من وحشة الطريق، وقد لفت نظره ثلاث لوحات كانت أكثر بروزاً من غيرها!

"بالروح، بالدم نفديك يا خابز"

"ألف تحية للقائد ناسج الحصيرة".

"ولو أن خبزاً في السحاب لنلتَه وليس عجيباً أن تُسمّى خابزا"

استعرض خميس الشعارات التي كانت قبل سفره، فلم يذكر أن من بينها تكريم الخابز وتبجيله، فراح يبحث عن العلاقة بين الوطن والخابز، ويقدح زناد عقله حتى كاد يصيح من شدة فرحه: وجدتها.. وجدتها..

فعن أي شيء تفتقت عبقرية خميس، وإلى اي شيء توصل؟!!

ابتسم خميس ابتسامة المنتصر، العارف قدر نفسه، وحدة ذكائه، وأحس بشيء من الاسترخاء وهو على مقود السيارة.. فبعد الآن لن يسأل عن كل شيء استجد في البلاد، طالما أنه يملك ذهناً تحليلياً يستنتج الأمور ويحللها.

فاليابان التي تعيش قفزة صناعية جبارة، تقدر المعلم، وتعتبره رمزاً لباعث النهضة فيها، وبلاده التقدراكية تعيش في ثورة ولابد أن يكون خابز هذا رمزاً من رموز حل أزمة الخبز؟!

* * *

فيما كان خميس مرتاحاً لهذه النتيجة لمعت لوحة جديدة لم يمر على مثلها من قبل.

"التقدراكية قلب العشيرة النابض، بلد الحرية والمساواة والمواطنة الحقة، وكرامة المواطن من كرامة الوطن".

قرب اللوحة وقفت دورية للجمارك، جعلت تشعل المصباح اليدوي وتطفئه إشارة للتوقف.

أوقف خميس السيارة، وترجل منها ليفاجأ بثلاثة عناصر:

- من وين جاي أبو الشباب؟

- من بلاد الديزل.

ابتسم رئيس الدورية ونظر إلى أحد المرافقين وقال: صيدة ثمينة، يا جورج.

كان خميس مصمماً ألا يدفع أكثر من خمس وعشرين ليرة مهما بلغ الأمر.

- معك شيء ممنوع؟

- أبداً..

- ما في هيك، هيك..

خميس: فتشني لتتأكد بنفسك، وقد فتشوني على الحدود.

رئيس الدورية: طيب، ما في شي للشباب (وأشار إلى عنصريه)؟

أخرج خميس القطعة ذات الخمس والعشرين ليرة، وكبسها بيد رئيس الدورية، فأخذها وقال: انقطعنا من السجائر منذ ساعة!

فهم خميس أنهم يريدون سجائر أجنبية، فمحطة الوقود قريبة منهم، وفيها دكان لبيع السجائر، فأخرج من سيارته ثلاث علب من سجائر "كنت" وقدمها لهم، وانطلق لا يلوي على شيء.

* * *

أحس بالتعب الشديد، والنعاس يداعب جفنيه، ولكن ما هي إلا ساعة حتى يصل إلى القرية..

على أبواب القرية لم يتغير في طريقها شيء يلفت النظر سوى كثرة الحفر التي تطلبت من خميس أن يهدئ السرعة، وقفت دورية مسلحة، قطعت الطريق بوضع بعض البراميل؟!!

خشي خميس أن يكون أخطأ في الطريق، ولكن صوتاً ما زال يذكره صاح من خلف أحد المرتفعات الصغيرة: قف.. يا خميس.. أطفئ الأنوار.. وترجّل..

تذكر خميس أنه صوت عبد الحميد ابن المختار الملقب "بالمفعوص" لدمامته وقصره.

فقال: يا مفعوص، طالما أنك عرفتني فكيف تستوقفني.

صاح المفعوص: هذي أوامر قيادة الفرع.. لو مرّ المختار في آخر الليل لاستوقفناه للتفتيش.

اقترب المفعوص من خميس، وتعانقا، فقال له معتذراً:

- لا تؤاخذني فإن القطر يخوض معارك شرسة ضد الإمبريالية، في الداخل والخارج، فنحن نفتش داخل القرية وخارجها..

قال خميس: كيف عرفت أنني قادم اليوم؟

قال المفعوص: أخبرتني أمك بذلك فخرجت في الدورية حتى لا يؤذيك أحد من الرفاق.

فأشفق عليه خميس وناوله علبة محارم كان يستعملها في الطريق، وعلبة سجائر كانت في جيبه، فتناولهما المفعوص شاكراً على استحياء، وتابع خميس طريقه..

الحلقة الخامسة

مضت أيام ثلاثة على وصول خميس إلى القرية، ولم ينقطع توافد المهنئين والزائرين، غير أن زميله القديم (رفيق) لم يأت ليسلم عليه، فأسرها خميس في نفسه!!

وفي اليوم الخامس جاء رئيس المخفر ليبلغه بالحضور إلى فرع المخابرات 707 بالعاصمة.. فوجئ خميس بهذه الدعوة، ودارت به مختلف الظنون، وبدأ يراجع كل كلمة قالها أمام زائريه، فلم يعثر على شيء يذكر..

في بيت عبد الحميد حيث التقى به منفرداً قال خميس: علمت بتبليغ الشرطة لي؟

- نعم علمت (وأحس عبد الحميد من لهجة خميس أنه يتهم الرفاق) فأردف:

- يا خميس.. بيننا خبز وملح، وأقسم بشرفي ومعتقدي ونضالي مالي خبر، ولا عندي علم، ولا أعرف من هذا الوسخ الذي رفع عنك تقريراً.

خميس: أنت صادق بالنسبة لك، ولكن ألا يمكن أن يكون أحد الشباب فعلها؟ (مشيراً بذلك إلى رفيق).

عبد الحميد: صحيح أن رفيق قذر وانبطاحي ووصولي، ولكن لا أظن أن يصل إلى هذا المستوى.. ثم أنت إنسان حيادي ليس لك اتجاه ضد الثورة.. ربما يكون سؤال أو اشتباه أو استفسار عن أحد.

خميس: (متنهداً) يمكن؟!!

عبد الحميد: متى ستسافر إلى العاصمة؟

خميس: غداً إن شاء الله.

عبد الحميد: نحن أيضاً سنسافر، وربما ذهبنا معك في سيارتك لأنه مطلوب منا حضور المسيرة وخطاب الرفيق ناسج الحصيرة.

خميس: أليس عندكم سيارة؟!!

عبد الحميد: بلى! ولكن رفيق أخذها في مهمة حزبية منذ يومين مصطحباً زوجته وحماته، وترك الرفاق!

* * *

عند أبواب العاصمة كانت الدوريات المسلحة تستوقف جميع السيارات القادمة، ودوريات أخرى تمنع السير في الشوارع الداخلية، وعلى الجميع أن يسيروا من ساحة (البسّامين) إلى مكان الاحتفال.. فافترق خميس عن الرفاق الذين تحدد لهم مكان معين لضبط الأسماء ومعرفة الغائبين، وانطلق إلى الفرع 707.. وفي أثناء الطريق كان يتوقف أمام أجهزة التلفزيون التي وضعت على طاولات مرتفعة وصوت ناسج الحصيرة يهدر بالسب والشتائم للمعارضة؟!

لم يكن خميس مرتاحاً للوقوف طويلاً، لكن حركات ناسج الحصيرة الغريبة جعلته يطيل الوقوف لمتابعة ما سيفعله بعد التهديد والوعيد، وهو يصيح:

- أين المعارضون الجبناء؟ إنني أتحداهم..

فتلتهب الأكف بالتصفيق!! وعند آخر تلفزيون وقف خميس قربه، كان ناسج الحصيرة قد امتطى بعض الرفاق، وأصر على الذهاب إلى مجلس الشعب متحدياً المعارضة أن تمسه أو تتحرك ضده!!

* * *

وقف خميس عند البوابة الخارجية للفرع 707 يقدم نفسه للحرس على أنه مطلوب للرائد شرف الدين، فأخبره أن الرائد غير موجود اليوم وعليه أن يعود غداً.. تراجع خميس عائداً فناداه الحارس ليسأله عن الجهة التي جاء منها، فقال: أنا قادم من قرية (يا ظالم لك يوم) فاتصل بالبوابة الداخلية ليجيبه العريف شيخو: ينام اليوم هنا، وغداً يقابل الرائد.

وفي الصالة استقبله ضبعو، وهو يشتم ويلعن، ليدخله إحدى الزنزانات برسم الأمانة حتى نهار الغد.

وفي صباح اليوم التالي فتح باب الزنزانة، ومضى به أحد العناصر لمقابلة الرائد الذي أبدى أسفه لتصرف العناصر، وأنه كان بإمكانه العودة في اليوم التالي، ثم طلب له فنجاناً من الشاي، وناوله سيجارة..

أحس خميس بأن كثيراً من الخوف قد زال عنه، ولاسيما أن الرائد كان صبيح الوجه، يتكلم بصوت هادئ وعبارات مؤدبة! وبيّن له أن القضية لا تتعدى سؤالاً وجواباً..

انتهى خميس من تناول الشاي، فطلب له فنجاناً من القهوة، وبدأ يسأله عن أحواله، ومتى سافر؟ وكيف وجد عملاً، وكم يحصّل في الشهر؟

فانطلق خميس على سجيته لا يخفي شيئاً.. صمت الرائد قليلاً ثم قال: هل تزور السفارة؟

خميس: قليلاً، عند تجديد الجواز فقط.

قال الرائد: هل طلب منك أحد زيادة على الرسوم أو هدية، أو القيام بعمل؟

خميس: لم يطلب مني أحد مالاً، ولكن القنصل الجديد الأستاذ (كمين) أوقف الجواز بعد إخراجه، واشترط لتسليمه أن أصنع له بركة مع نافورة في حديقة منزله، وأفهمني أن القنصلية وملحقاتها جزء من الوطن، ولابد أن أقدم شيئاً أبرهن به على وطنيتي.

الرائد: (بلهفة) وماذا صنعت؟

- صنعت له بركة مع نافورة بكلفة سبعة آلاف ريال.

- دفع لك شيئاً؟

- أبداً، ولكن سلمني الجواز بعد الانتهاء..

- لأ.. يا ابن الشر...

- والله، يا سيادة الرائد أنا لا أعرف ابن الشريرة أو ابن الشريفة.

- اكتب لي حرفياً ما حدث معك؟

توقف خميس وقد أطمعه ما وجد من ملاطفة الرائد وقال: الله يخليك أرجو أن تعفيني من الكتابة، أنا إنسان درويش، وأريد أن أرجع إلى عملي وأجدد الجواز بدون مشاكل.

ابتسم الرائد وقال: طيب.. كما تريد.. لكن كل ما جئت من السفر مر عليّ لأنني أخشى أن يطلب منك (كمين) في المرة القادمة أن تصنع له بحيرة..

احمرّ وجه خميس وقال: سيادة الرائد من الآن لست سنين ما أحد يدري من يموت؟ ومن يعيش!!

الحلقة السادسة

اتجه خميس بعد خروجه من الفرع 707 إلى ساحة (الموجة) فقادته قدماه إلى مقهى (التوازن الاستراتيجي) المطل على الساحة التي تضج بالحركة والحياة.. وبينما كان يتناول فنجان القهوة وهو ينفث دخان لفافته، ويستعيد ما حدث له في اليومين الماضيين، دخل "صبري" بأناقته المعهودة، وجعل يبحث عن مكان يطل على أكبر قدر من الساحة، فالتقت عيناه بعيني خميس وهو لا يصدق نفسه، فاتجه إليه ليعانق كل منهما صاحبه.

صبري: أهلاً أهلاً بالسيد خميس.

خميس: مهندس صبري يا مرحباً..

صبري: أأنت هنا وأنا لا أعلم؟

خميس: حضرت منذ أسبوع تقريباً.

وراح صبري وخميس يتذكران الأيام الخوالي التي قضياها في بلاد الديزل، وأبدى صبري أسفه لانتهاء أعمال الشركة، واضطراره للعودة إلى التقدراكية، ووجد خميس من يثق به ويجيبه على كثير من التساؤلات بصراحة ومعرفة.

خميس: أنا لا أعرف كثيراً مما يجري في البلد؟!

صبري: ستعرف عندما يمر عليك بعض الوقت.

وأتبعها ابتسامة محاولاً اختصار الحديث على غير عادته.

أحس خميس أن صبري لا يحبذ الكلام في هذه الموضوعات في الأماكن العامة، فاقترح عليه الخروج في نزهة مشياً على الأقدام وراح يمطره بأسئلته واستفساراته، وصبري لا يبخل عليه بجواب.

خميس: ظننت أنني أستطيع التعرف على ما يجري في البلد بمفردي!

صبري: لا.. حتى يمر عليك سنة على الأقل.

صاح خميس مندهشاً: سنة؟! لا قدر الله، أنا يا أخي- أريد أن أرجع إلى عملي، وما رأيته في أسبوع يكفيني هماً لأكثر من سنة!

لم يعقب صبري بشيء، وانقضت فترة من الصمت قطعها خميس بقوله:

- على ما يبدو أن التغيرات التي حدثت في بلدنا وصلت إلى الشعارات أيضاً.

صبري: صحيح.. ولكن ما الذي لفت نظرك أكثر من غيره؟

خميس: من الشعارات مثلاً: خابز.. ناسج الحصيرة!!

ابتسم صبري بخبث وقال: ألا تعجبك؟؟

خميس: وهل إعجابي أو عدمه يغير من الواقع شيئاً؟ ثم مالك ولإعجابي إذا كنت لا أعرف ماذا تعني هذه التسميات.

قال صبري: سأبدأ معك واحدة واحدة من القمة إلى القاعدة.

استعد خميس للاستماع، وبدا عليه الاهتمام: تفضل يا أستاذ صبري!

صبري: كلمة "خابز" أصبحت تطلق منذ أزمة الخبز على أعلى رأس في النظام، فقد قرر الزعيم أن يتدخل مباشرة لتخفيف المعاناة عن الجماهير الكادحة، فأطلقت وسائل الإعلام عليه لقب "خابز".

خميس: ولكن سمعت أن ثمن كيلو الخبز قد ارتفع من (150) قرشاً إلى (350) قرشاً؟!!

صبري: هذا صحيح! تقول وسائل الإعلام إن تدخل خابز أوقف ارتفاع الثمن عند (350) قرشاً، ولولا أن تدخل وأجهضت المؤامرة لما وجدنا خبزاً بتاتاً.

خميس: (في تباله) صحيح!!

صبري: على ذمة الإعلام.

خميس: وماذا تعني ناسج الحصيرة؟!

صبري: ناسج الحصيرة أيضاً من ألقاب القمة، فالقائد الرمز أراد أن ينهض بالصناعات المحلية اليدوية بعد أن توقفت أكثر المصانع، فاتخذ نسج الحصيرة عنواناً للمواجهة، ورمزاً للتصدي في وجه الحصار الاقتصادي، كما اتخذ (غاندي) من لبسه (للفوطة) وحمله للمنسج رمزاً على تحدي الاستعمار، وعدم الحاجة إلى صناعاته.

خميس: هذا في القمة، فحدثني عن القاعدة..

صبري: على الخبير وقعت يا خمّوس.. اسمع يا عزيزي.. عندما أطلق اسم خابز وناسج الحصيرة على الزعيم، وجد بقية المناضلين أنه لابد من اتخاذ قرار ثوري تمشياً مع متطلبات المعركة، ومقتضيات التحدي المفروض، والتآمر الموجه ضد التقدراكية، فرأوا أن خابز وناسج على وزن فاعل، وهو يدل على الفاعلية، فجعل كل واحد من المناضلين بحسب المرتبة الثورية، يتخذ لنفسه تسمية على هذا الوزن، وأما الذين تأخروا وكان عندهم برود ثوري وعجز نضالي وقصور ديالكتيكي، فإن الثورة المضادة استغلت تأخرهم، وأطلقت عليهم التسميات التي تحلو لها.

خميس: لقد شوقتني كثيراً يامهندس صبري- إلى معرفة هذه التسميات، حتى أعلم كيف أخاطب الفئات المختلفة، وأعرف لكل إنسان مقامه وقدره.

صبري: اسمع يا خموس، عندنا رافع وهابش ولابط، ورافس وعانس وباسل وعاصم وتاجر وغانم و..

خميس:ماذا يعني رافع؟

صبري: رافع لا يطلق إلا على فرد واحد، ويكون أقرب المقربين للزعيم.. ورافع هذا يستطيع أن يرفع العريف إلى رتبة لواء، والذي يفك الخط بصعوبة إلى مرتبة دكتور جامعي. وأما عاصم فتطلق على المناضلين في القطر المجاور، وكلمة (باسل) على قائد الحرس الخاص.. وأما عانس فتطلق على المناضلات القديمات العاملات في التثقيف الثوري.

قال خميس وهو يبتلع ريقه: وماذا عن هابش ورافس وغيرهما؟

قال صبري: لابط تطلق على الأمن العسكري في التقدراكية، وهابش على أمن الدولة، ورافس على الأمن السياسي.

خميس: طيب! والمخابرات الخارجية؟

صبري: تسمى (والغ).

وهنا خطر لخميس أعضاء مجلس الشعب فقال: والذين في مجلس الشعب؟

قال صبري: يطلق عليهم (هامش) وهناك أيضاً تسميتان مختصتان بشخصيتين وهما تاجر وغانم، فتاجر تطلق على مسؤول المخابرات العسكرية في المحافظة عندكم، وغانم على مدير السجن الصحراوي لتصفية المعارضين، ولعلك بعد مدة تتعرف على مدلول هاتين التسميتين من خلال الواقع!!

تذكر خميس أبناء قريته ممن ليس لهم أي تأثير على مجريات الأمور، كما تذكر رفيق والشيخ عبد الواحد، فأحس صبري أن في نفس خميس تساؤلات فقال: هل بقي شيء؟

قال خميس: وماذا عن أبناء قريتي وأمثالهم؟

أجاب صبري: هؤلاء يطلق عليهم اسم "صابر".

قال خميس: وخطباء الجمعة كالشيخ عبد الواحد؟

توقف صبري قليلاً، وأطلق زفرة ثم قال: هؤلاء يقال لأحدهم (صالح) فإذا مدح الزعيم ودعا له، يقال له (مادح) وقد يصبح مع كثرة المديح والدعاء مفتياً.

قال خميس: والذين يرفعون التقارير؟

قال صبري: هؤلاء قسمان: هابط وتطلق على من يرفع التقارير بالغرباء عنه، وسافل وتطلق على من يرفع التقارير بأقربائه.

وقبل أن يسأل خميس شيئاً قال صبري مداعباً: وأنت يا خميس نسميك أم تسمي نفسك؟

قال خميس: أنا لاجئ.

قال صبري: لقد سبقوك إليها.

قال خميس: أنا نازح..

قال صبري: كذلك نال شرفها غيرك؟

قال خميس: في الحقيقة يا مهندس صبري، هذا الوطن يحتاج إلى إعمار، فأنا لم أجد فيه شيئاً سليماً على الرغم من قصر زيارتي فأنا عامر.

قال صبري: اترك هذا اللفظ فإنهم لا يحبونه.

قال خميس: (بنزق) الأمر يدعو إلى الزهد في كل شيء فأنا زاهد.

قال صبري: وكذلك لا يحبونه.

قال خميس: (وقد أحس بالضجر) أفضل شيء إذاً أن أشتق من اسم والدي (جمعة) فأنا جامع.

قال صبري: (وهو يضغط على الحروف) هات غيرها يا أستاذ- فهنا لا يحبون لا العامر والزاهد ولا الجامع.

قال خميس: (وقد نفد صبره) إذاً أنا "طافش".

قال صبري مداعباً وهو يشد على يده: طافش.. مناسب، ولكن بشرط أن تقطع زيارتك، وترجع من حيث أتيت، وأنا أوصيك بذلك حتى لا تفجع أكثر..

ثم افترقا.

الحلقة السابعة

لم يمض سوى يومين على عودة خميس من العاصمة، حتى توالت الأخبار إلى القرية من القرى المجاورة أن أسراً كثيرة قد حصلت على بطاقات لزيارة أبنائها في السجن الصحراوي! وكانت خالته أم هشام أكثر أهل القرية اهتماماً بهذا الخبر، وتصديقاً له!! فهي تريد أن تكحل عينيها برؤية هشام حياً ولو في السجن، بعد أن حرمت من رؤيته طبيباً كما كانت تحلم من قبل.

كان خميس يخشى أن يكون الخبر مجرد إشاعة من ورائها خدعة، ولكن خالته وأمه غلبتاه، فوافق على مرافقتهما للحصول على البطاقة؟! وأعد السيارة للسفر إلى مدينة (اللازوردية) الساحلية، ومن هناك إلى قرية (الهندي) حيث تقيم أم قائد السجن الحربي التي ترفض أن تستلم نقوداً مقابل رسالة إلى ابنها للسماح برؤية السجين الملتمس.. ولكنها تصر على الأساور والعقود الذهبية أو ما شابههما.

في صباح يوم باكر انطلقت سيارة صغيرة تضم شاباً وعجوزين، من قرية (يا ظالم لك يوم) تعبر الطريق الزراعي باتجاه مدينة (الصهباء) ثم (اللازوردية)، فلفت نظر خميس وجود مساحات كبيرة من الأراضي عند مدينة (قزاز) تختلف في تسويرها والعناية بها عن بقية الأراضي، فقال مقاطعاً الصمت الذي خيم على السيارة: كم جميلة هذه الأراضي! إنني ما زلت أحن للزراعة، على الرغم من أنني لا أجيدها!

ابتسمت أمه، وعلى وجهها مسحة من الأسى وقالت:

- وأين لك يا ابني ولأمثالك مثل هذه الأراضي، إنها للعقيد (تاجر) ألا تعرفه؟

لم يجب خميس بكلمة، بل انصرف ذهنه إلى لقائه مع صبري في مقهى التوازن الاستراتيجي بالعاصمة، وتذكر ما قاله صبري بالحرف: ستعرف يا خميس بعد ذلك لماذا يطلق اسم تاجر على مسؤول المخابرات؟!

* * *

مع اقتراب السيارة من قرية (بير الليمون) ثم الصهباء، ومع ضجيج الحياة تلاشى من ذهنه أي أثر للحديث، بينما انطلقت خالته باكية حين اقتربت السيارة من كلية الطب، وأطلقت آهات متوجعة:

- هنا كان هشام يدرس يا أم خميس.

فراحت أم خميس تخفف عنها وتؤملها بعودة هشام قريباً، لتراه طبيباً مشهوراً بين الناس..

قبيل الظهر كانت السيارة على أبواب (اللازوردية) فألحت أم خميس عليه أن يترك سيارته فيها، لينتقلوا إلى سيارة أجرة، خشية أن تطمع أم غانم بهم، ولا ترضى بالإسوارتين عندما ترى السيارة الخاصة.

وبعد أقل من ساعة كانت سيارة الأجرة تقف عند قصر ضخم في قرية (الهندي) وعلى الباب الرئيسي كان يقف شاب وسيم ينظم عملية الدخول..

في البهو الداخلي فوجئ خميس بعدد كبير من النساء والرجال من مختلف المحافظات، وبسلال كثيرة من الفواكه، وعلب حلوى الأفندي والمستت، ولكن أحداً لم يكن يلقي لها بالاً أو يهتم بها!!

أشار الشاب الوسيم لأم خميس وأختها بالدخول، فتأكدت أم هشام من وجود الإسوارتين، وما هي إلا دقائق حتى خرجتا وقد بدا الانشراح عليهما، ففهم خميس أنهما حصلتا على البطاقة..

في ساحة (الشيخ ظاهر) باللازوردية، فوجئ خميس بأن السيارة ليست في مكانها، فأوقف أمه وخالته قرب بائع للعصير، ومضى يبحث عن سيارته!

انقضى من الوقت نصف ساعة.. ساعة.. ساعة ونصف!! ولم يعثر على أي أثر لها! فعاد إلى أمه وخالته وأخبرهما بالأمر، وطلب منهما أن ينتظراه قليلاً ليبلغ الشرطة.. لاحظ خميس أن شخصاً دميماً كان يتبعه، فتذكر أنه رآه قبل ذلك قرب بائع العصير.

- يا أستاذ.. يا سيد..

التفت خميس: خير! في شيء؟!!

- عندنا فندق مريح.. غرف نوم مع حمام مستقل.

خميس: (بنزق) أخي أنا مسافر اليوم.

- على كيفك.. لكن في أي خدمة!؟؟

خميس: لا.. ما في شيء.

- نحن بالخدمة أستاذ..

خميس: اتركني بحالي، لأرى أين أصبحت السيارة.

ابتسم الدميم عن أسنان صفراء وقال: نمرة 4051235..

خميس: إيه.. إيه هو الرقم نفسه!

- ولا يهمك..

خميس: أين السيارة؟

- موجودة عند الرفيق توفيق.

خميس: توفيق!؟ توفيق مين؟!

- توفيق ابن شقيق خابز..

ابتلع خميس ريقه بصعوبة، ودوى في داخله صوت! خسرت سيارتك.. فقال:

- كيف أحصل عليها؟

- بالبخشيش..

خميس: طيب.. عجّل.. أريد أن أسافر..

- هات خمسة آلاف ليرة.. وخمسمائة خدمات لمحسوبك.

وبعملية حسابية سريعة قدّر خميس ثمن السيارة في الحراج، فوجد أنها تساوي عشرة آلاف ريال، فعزم على أن يضحي بخمسمائة وخمسين ريالاً أي ما يعادل المبلغ الذي طلبه الدميم، وقال:

- هات السيارة وتعال خذ البخشيش.

ابتسم الوغد ذو الأسنان الصفراء وقال: سلّم واستلم.

قال خميس: كيف أسلمك المال وأنا لم أحصل على السيارة..

أشار الدميم إلى بياع العصير وقال:

- هذا شخص ثالث، ضع المبلغ عنده، وستأتيك السيارة.

ذهب خميس إلى بائع العصير الذي لم يكن أقل وقاحة من الدميم، فابتسم له وقال وهو يضع المبلغ خلف الإناء الزجاجي:

- سيارتك في شارع 8 آذار، يا حبيب!

* * *

انطلق خميس، ولم يشأ أن يخبر أمه وخالته بشيء، كي لا يعطل عليهما فرحتهما بالبطاقة، وحين اطمأن أنه تجاوز حدود اللازوردية أوقف السيارة قرب مقهى صغير رُفعت عليه لافتة باهتة كتب عليها "مقهى الذوق" وجلس يشرب القهوة، وينفث دخان سيجارته ويستعيد حديث صبري معه في مقهى التوازن الاستراتيجي، لقد اكتشف اليوم ماذا تعني كلمة تاجر.. وماذا تعني كلمة غانم؟؟ فضرب فنجان القهوة بكأس الماء الذي أمامه، وقال:

- كاسك يا وطن..

الحلقة الثامنة

عاد خميس مع أمه وخالته حزين القلب، كاسف البال، بعد أن أخبره أحد السجانين على حين غفلة من مرؤوسيه أن هشاماً ومئات معه قد قتلوا في صبيحة يوم من شهر حزيران، وأنه لا فائدة من البحث عنه، وبحركة سريعة حدد له المكان الذي دفن فيه المئات قريباً من سفح جبل "عويمر".

أحس خميس أن صدر هذا السجان لا يزال يحتوي قلباً، وقد يكون قلباً رقيقاً يعمل في الحراسة الخارجية، ويكتفي بأخذ معلوماته عن أحوال السجن من زملائه في الداخل!

ووقف خميس حائراً! ماذا يقول لأمه وخالته؟ أيخبرهما بما قال السجان، وهذا ما يميل إليه، أم يتركهما تعيشان على أمل لقاء هشام فيخبرهما بما قال مساعد "غانم" أن هشاماً نقل إلى سجن (الهزة) بالعاصمة، وهو باب من أبواب الابتزاز، لا تقوى خالته الفقيرة على ولوجه؟؟

فحسم الأمر سريعاً واختار حكاية وسطاً من الروايتين وقال لخالته:

- إن هشاماً نقل من هذا السجن قبل مدة إلى العاصمة، وهم لا يعرفون في أي سجن هو؟!!

لم يكن خميس يتصور أن العجوزين الريفيتين الصلبتين ستنهاران بهذه السرعة، وأن عليه أن يسرع بهما إلى القرية قبل أن تلقى إحداهما أجلها في الطريق، فمضت سيارته تنهب الطريق الصحراوي باتجاه مدينة "الوليد" وفي اليوم التالي كانت العجوزان طريحتي الفراش لا تقويان على الحركة فمضى بهما إلى الطبيب الذي ملأ الوصفة بأسماء الأدوية، مما جعله يشك في معرفة الطبيب بحالتهما، ومع ذلك انطلق لجلب الدواء عسى أن يخفف عنهما.

* * *

دخل خميس صيدلية "نتمنى لك الشفاء" ومد يده بالوصفة، فجعل الصيدلي يلتهم السطور، وهو يحرك حاجبيه بالنفي دون أن يتلفظ بكلمة، فاغتاظ خميس من أسلوبه وقال بحدة:

- أليس عندك ولو دواء واحد منها؟!!

ابتسم الصيدلي بمرارة وقال:

- يا سيد! هذه الوصفة تحتوي على دواء واحد، ولكن الطبيب كتب خمسة بدائل، ويؤسفني أن أقول لك: ليس موجوداً أي نوع منها..

ثم أحس أنه تورط عندما نفى وجود الدواء فاصطنع ابتسامة وقال:

- أقصد يعني.. يعني غير موجودة عندي، لكن من الممكن أن توجد في صيدلية أخرى.

ثم أدار ظهره لينفض الغبار عن بعض العلب القديمة الفارغة.

خرج خميس باتجاه شارع (قارون) المزدحم، ليدخل إلى صيدلية (الاكتفاء الذاتي) فأخذ الصيدلي الوصفة وقال: سألت في صيدلية أخرى؟

أجاب خميس بالإيجاب.

- ماذا قالوا؟

- قالوا إن الدواء موجود عند غيرهم!

- إذا كانوا قد قالوا ذلك فهو صحيح، الدواء موجود في القطر، والأزمة مفتعلة، لابد أن تجده، أتمنى لك التوفيق، مع السلامة أستاذ..

* * *

ركب خميس سيارته واتجه إلى الأحياء الشعبية لعله يجد الدواء فيها، بعد أن أقنع نفسه بوجوده في صيدلياتها لندرة من يشتري دواء هناك، وفي صيدلية "الوقاية خير من العلاج" التي هي أشبه ما تكون بدكان في قرية بائسة، وجد خميس كهلاً يأكل صحناً من الفول، ويلتهم قطعاً كبيرة من البصل، فلم يستطع أن يحدد أهو الصيدلي؟ أم مساعده؟ أم رجل يعمل في تنظيف الصيدلية؟!!

انتهى الكهل من الطعام، وأعاد إشعال سيجارته.. ثم تجشأ مرة أو مرتين، ونظر إلى خميس ليقول:

- الفول غذاء كامل، والبصل يمنع تصلب الشرايين..

وراح يعدد فوائد البصل وما يمكن أن يستحضر منه، مما جعل خميس يظن أنه الصيدلي فدفع إليه الوصفة، فأخرج الكهل نظارتين سميكتين، وراح يقرأ ما فيها، وابتسامته تزداد كلما أوغل في القراءة.. ثم وضع يده على فمه وتجشأ، ونظر إلى خميس مبتسماً وقال:

- الأستاذ من الريف؟!

- نعم!!

- يا أهلاً وسهلاً..

وطوى الوصفة وكأنه يريد أن يبدأ حديثاً لا علاقة له بالدواء، ولكن خميس عاد إلى موضوع الدواء وقال:

- هل أجد الدواء في صيدليات المدينة؟

قال الكهل: الحقيقة يا ابني- الدواء غير موجود.. أقصد عندنا ونحن متفائلون بوصوله إلى مستودع أدوية (بومة- ميكس) التي تولت التوزيع، وهي شركة على قدر كبير من النجاح، استطاعت بجهود المسؤولين أن توقع "غراب-ميكس" في خسارة كبيرة..

فبدا لخميس وقد يئس من الحصول على الدواء أن يساير الرجل فقال:

- ولكني سمعت أن شركة (جردون-ميكس) ستتولى توزيع الأدوية بعد الانتهاء من تنظيف المستودعات؟!!

استغرب الكهل مما يسمع وقال: وهل هناك شركة بهذا الاسم؟

قال خميس: طبعاً.. وهي لكثرة ما لديها من أدوية، لم تدر ماذا تفعل بها فاستأجرت غرفاً في (خان الحرير) و(قبو النجارين) ولكن الحشرات تسلطت عليها، فاضطرت إلى تعريضها للشمس، ورش الغرف والمستوعات بالمبيدات، وستعيد توزيع الأدوية لتغمر بها الصيدليات..

ثم تنهد بحرقة وقال:

- ولكن ماذا أقول لهذا المرض الذي جاء في غير أوانه، ولم ينتظر قليلاً.

قال الكهل: الحقيقة أنني أسمع مثل هذا الكلام لأول مرة.. فالأستاذ (موفق) عندما سلمني الصيدلية لم يخبرني بشيء من هذا؟!!

قال خميس: أليس حضرتكم الصيدلي؟!!

قال الكهل وقد بدا عليه الحرج-: أنا يا ابني- مساعد الصيدلي وأكون زوج خالته، موظف سابق في السجل العقاري.

قال خميس: وأين ذهب الصيدلي؟

قال الكهل: افتتح محلاً في شارع (الثورة) لبيع العطور وأدوات التجميل.. وهو موفق جداً، فقد أصبح الوكيل الوحيد لمعجون (تشرين) لإزالة الشعر، وبودرة (التصحيح) وعطورات (المد الجماهيري).

هز خميس رأسه بأسى، وقال: ولكن ألا يوجد بديل عن هذا الدواء؟

قال الكهل: لاشك أنه يوجد، وطالما أنت من الريف فأنا سأريحك من الذهاب للأطباء والوقوف على أبواب الصيدليات.

خميس: دلني.. الله يطول عمرك.

الكهل: في البرية عندكم كثير من النباتات من مثل خف النملة، وسنام الديك، وضرس العصفور، وحنك البطة.. هذه النباتات لو طبخت ثم عصرت، واستعملت دهناً أو شرباً تنفع في كثير من الأمراض.

نهض خميس وشد على يد العجوز شاكراً، ثم قال:

- خبرتك واسعة يا عم- ما شاء الله، طبيب وصيدلي.

قال الكهل: الله يخليك.. هذا من لطفك.

قال خميس: ولكن بقي شيء واحد، أريد أن أستفسر عنه.

قال الكهل: (بلهفة) تفضل..

خميس: إذا كان معجون تشرين مجرباً في إزالة الشعر، فهل من الممكن مثلاً- استعماله في إزالة آثار العدوان؟!!

ابتسم الكهل، وقد أدرك ما يقصده خميس، وقال:

- اتركها مستورة.. لا أريد أن أضيع شبابي في السجون!!

الحلقة التاسعة

أمام إلحاح أمه، وإلحاح المفعوص عبد الحميد وافق خميس على زيارة رفيق ولا سيما أن منزل أمه القديم يحتاج إلى ترميم، و(رفيق) الوحيد في القرية الذي يستطيع أن يؤمّن له الإسمنت!!

في بيت رفيق جلس خميس صامتاً بعد الاستقبال الفاتر الذي لقيه من زميله السابق الذي رافقه ثلاث سنوات في الرسوب بالشهادة الثانوية! وبكثير من التكلف نظر رفيق إلى خميس وقال: مضى على قدومك خمسة عشر يوماً، وما جئتنا لنراك يا أستاذ خميس!!؟

ابتلع خميس هذه الإهانة باصطناع ابتسامة، مع تمتمة بعض الكلمات التي تقال عادة في مثل هذه الحال. بينما راح يحدث نفسه قائلاً: أنسيت الخبز والملح يا رفيق، وأيام الفقر؟ هل من اللياقة والذوق أن تسألني لماذا لم أحضر إليك، مع أن الواجب هو أن تأتي أنت إلى بيتي لتسلم عليّ، لأنني قادم من السفر؟!!

كان عبد الحميد يحاول أن يزيد من حرارة اللقاء بإلقاء بعض النكات والتذكير بشقاوة الطفولة والذكريات القديمة، ليجد الجو المناسب للدخول في الأمر الذي حضر مع خميس من أجله، ولكن رفيق كعادته انطلق يتحدث عن النضال والثورة والصراع الطبقي وإنجازات الحزب، ومثاليات القائد الرمز، وكأنه يقرأ من كتاب!! الأمر الذي جعل خميس يندهش؛ فعهده برفيق سقيم الذهن، قليل الحفظ.

كان عبد الحميد متأكداً من أن خميس أصبح متضايقاً، فيحاول بين الفينة والفينة أن يغمز بعينه مشيراً إليه أن يصبر قليلاً..

انتهى رفيق من محاضرته التي سمعها عبد الحميد للمرة المائة مع قناعته بأن رفيق لا يعرف غير هذه العبارات، فهو مثلاً- لولا أن منافسه انتقل إلى المدينة، وشغر المكان لما أصبح أمين فرقة الحزب.. ولكنها حظوظ؟؟!!

استغل عبد الحميد فترة الصمت التي رافقت شرب الشاي، وقال:

- يا أستاذ رفيق! خميس يريد أن يرمم منزل والدته، ويحتاج إلى ثلاثين كيس إسمنت.. والرفاق في مؤسسة مواد البناء لم يردوا على الطلب الذي تقدمت به والدته منذ أكثر من سنة..

ابتسم رفيق ابتسامة استطال معها شاربه، وأخذ ورقة وقلماً وكتب:

- الرفيق سليمان.. تحية النضال وبعد: فالرفيق خميس أحد الكادحين من مناضلي حزبنا العظيم، يحتاج إلى ستين كيس إسمنت لترميم منزله البروليتاري.. لكم تحياتي، والمجد والخلود للتقدراكية الرائدة..

ثم التفت إلى خميس وقال: إذا كانت الكمية أكثر من الحاجة فتصرف بالباقي.. ما كل يوم يا خميس- يستجاب لنا، نحن هنا مثل الواقفين أمام محطة الوقود.. ليس شرطاً أن يبقى الأول أولاً.. بمجرد ما يملأ ويمشي سيقف في آخر الطابور.

* * *

ركب خميس سيارته، وانطلق إلى المدينة، ومعه رسالة رفيق وبطاقات تموين سكر ورز وزيت نباتي..

عند باب المؤسسة الاستهلاكية، وقف حشد كبير من مختلف الأعمار وراحوا يتدافعون.. وراح خميس يراقبهم باستغراب؟! ومن خلال هذا الحشد استطاع رجل أن يشق طريقه بصعوبة بالغة وهو يحمل ما حصل عليه ويشده إلى صدره، وقد انحل حزامه وأصبح "البنطلون" بين ساقيه، فتقدم أحد معارفه ورفعه له لأنه لا يستطيع، ولا يفكر أن يفلت الأغراض!

تحسس خميس حزامه الجلدي، ثم ترك نفسه للدفع والضغط من أمام ووراء، ليصل بعد ذلك إلى طاولة البيع، فأدهشه أن البائع كان يستعمل عدداً من الأحجار مع بعض أوزان الحديد! حاول أن يجد تفسيراًُ لذلك، فانصرف ذهنه بعد كد إلى ثورة الحجارة في الأرض المحتلة.. لكن ما العلاقة بينهما؟ أيكون هذا من باب التعاطف مع أطفال الحجارة كما يفعل بعض الناس حين يلبسون السواد مشاركة لأهل الميت في أحزانهم؟ ربما؟

صاح الموظف القريب من الميزان: ما في رز.. انتهت الكمية.. لم يبق إلا الزيت النباتي.

سأل أحد الواقفين (وقد بلله العرق، وبدا عليه ضيق التنفس): ولا كيلو واحد؟!

أجاب الموظف: ولا حبة..

صاح الرجل وقد انتفخت أوداجه: هذا هو الشهر الثاني الذي لم أستلم فيه رزاً..

* * *

كانت زجاجات الخمر تملأ الرفوف العليا، وقد ظنها خميس أول الأمر زيتاً، فهو يعرف من قبل أن الخمرة تباع في الخمارات، وبعض المقاهي والمطاعم.. ولكنه تأكد من إحدى الزجاجات القريبة من البائع، وقد كتب عليها عرق الريان، من أفخر الأعناب في التقدراكية.. مصانع الفؤيداء.

قال الرجل الذي لم يجد رزاً للموظف (بانفعال): هات بطحتين "زجاجتين".

ناوله الموظف وهو يبتسم قائلاً: ما في رز؟ في عرق!! المهم أنك لا تخرج خالي اليدين يا أبا سمير.

أمسك الرجل بالزجاجتين، ونظر خلفه فإذا خميس، فقال:

- والله في حياتي ما ذقته، لكن ما ينسيني ما أنا فيه إلا (وأشار إلى الزجاجتين).

أجاب خميس (بعد أن تأكد أن أحداً لا يسمعه هامساً): أوهام.. يا مساكين!!

في هذه الأثناء حاولت إحدى العجائز الخروج فتمزق كيس البلاستيك الذي يحتوي على ثلاثة أرباع الكيلو من الزيت النباتي.. بدا عليها التأثر لضياع الزيت أكثر من تأثرها لما أصاب خميس والآخرين.. يبست الكلمات على فم خميس وهو ينظر إلى العجوز وإلى ثيابه الملوثة.. خيّم الصمت على الجميع وقد آلمهم المشهد.. فأخرج بطاقات التموين التي في حوزته وناولها للعجوز.. تمتمت شاكرة وكان صوت الموظف (وقد وصل طعام الفطور) يدوي: ارجعوا بكرة.. انتهى الدوام اليوم..!!؟

الحلقة العاشرة

اعتذر المفعوص عبد الحميد لخميس عن عدم مرافقته إلى مؤسسة مواد البناء لاستلام الإسمنت، لأنه سيكون مشغولاً بالإعداد لمهرجان ترشيح ناسج الحصيرة لولاية جديدة؟! ثم همس في أذن خميس:

في هذا الأسبوع سيتوقف مصير ترفيعي إلى مرتبة عضو عامل، وهي فرصة لا تتاح لي كل مرة.. يجب أن أكون مستنفراً في يوم الانتخاب وكذلك يوم الاحتفال بنجاح ناسج الحصيرة، الذي سيصادف مناسبة (الحركة التفحيطية).

قال خميس: إذا كان خابز هو المرشح الوحيد، وتعلمون أنه سينجح كما في ولايته الأولى والثانية فلماذا هذه الانتخابات التي تكلف الوقت والمال؟!!

أجاب المفعوص عبد الحميد (ببرودة أعصاب متكلفة):

القضية لا تتوقف عند بذل المال والوقت أو عدم بذلهما، فهذا لا يساوي شيئاً مقابل أن يأخذ الشعب دوره في التجربة الديمقراطية، ويمارس حقه في الانتخاب..

لم يعقب خميس على كلام عبد الحميد فقد كان ما شاهده خلال إقامته كافياً لأن يجعل مثل هذا الطرح مألوفاً في كلام الرفاق؟!!

* * *

في ساحة القرية احتشد عدد كبير من الرفاق، مع أعضاء فرع الحزب في المحافظة، وتناوب الخطباء الحديث عن أهمية استمرار القائد الرمز رئيساً للتقدراكية، وحامياً لمسيرة الديمقراطية.. كان خميس الذي استجاب لطلب عبد الحميد بضرورة الحضور حتى لا يفسر غيابه معارضة للنظام، يحاول أن يجد المبرر لمثل هذه التجمعات طالما أن النتيجة معروفة مسبقاً، وقد هالته المفارقة بين ما يحدث في بلاده في أثناء الانتخابات، وبين ما يجري في دول العالم، فوجدها كالفرق بين المفعوص عبد الحميد بجسمه الضئيل، وبين (عواد الواقف) ممثل الفلاحين الذي اعتلى المنصة واقترب من

الميكرفون بجسمه الضخم، وراح يتحف الموجودين بكلمات لو سمعها أنصار الحرية لقالوا: هنيئاً للعبيد الصامتين؟!

"أيها الرفاق، يا أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة، إن الأنظمة السابقة كانت تمزق شخصية المواطنين بكثرة المرشحين.. فيحتارون مَنْ ينتخبون.. أما اليوم فإننا نجمع على مرشح واحد بعد أن توحد التوجه في تقدراكيتنا العزيزة.. فلا ينشغل المواطن، ولا يضيع جهده وماله ووقته في الصراع بين المرشحين".

ثم اعتدل قليلاً، وأصلح وضع العقال وتابع:

إن بعض الدول التي تفتخر بالديمقراطية، وتصنف في مصاف الدول المتقدمة، لم تستطع إلى الآن أن توحد المرشح.. وهي في أقصى الحالات يترشح فيها اثنان يتصارعان.. ولم تصل بعد إلى ما وصلنا إليه".

انتفض عبد الحميد، وقد ران الصمت على الحضور، ووجدها فرصة مناسبة للفت الأنظار إليه، فصاح:

- نعم نعم للمرشح الوحيد..

وضجت الساحة بالتصفيق والهتاف!

سر رئيس الفرع من نباهة عبد الحميد، ومال إلى أحد الأعضاء ليسأله إن كان يعرف الشاب الذي هتف..

رجع عواد الواقف إلى مكانه، وصعد شاب انحشر في بنطلون ضيق، وقد تدلت على جبينه خصلة من الشعر، وفوجئ خميس باسمه حين قدمه عريف الحفل قائلاً:

- كلمة شباب المسيرة وأشبال ناسج الحصيرة يلقيها الرفيق المناضل (فايز أبو عيون كحيلة)..

فعاد خميس بذاكرته عشرين عاماً إلى الوراء، وكاد يصيح من دهشته: أهذا أنت يا فيوز ابن أم خضرة؟؟!

ووقف ابن أم خضرة سابقاً، أبو عيون كحيلة لاحقاً وقد رفع إصبعيه بإشارة النصر، وخاطب الموجودين قائلاً:

"إن حركة التقدم في بلدنا هي جزء من حركة التقدم في العالم الثالث، وإن الصراع ضد التخلف على ساحة وطننا لا ينفصل عن الصراع ضد الإمبريالية.. وإذا أردنا مزيداً من التقدم، ومزيداً من المكاسب الشعبية، ومزيداً من الديمقراطية، ومزيداً من الكرامة فلنقل جميعاً في يوم غد: نعم نعم.. نعم نعم لناسج الحصيرة..

وقبل أن يسبقه أحد الهتافة فيسرق الأنظار صاح عبد الحميد: "نعم نعم للرفيق خابز".

فردد الحاضرون كلماته دون تباطؤ!!

كان عبد الحميد في تلك اللحظات يحس أنه أصبح أكبر حجماً من عواد الواقف، ولا سيما عندما ابتسم له رئيس الرفع وهو يهز رأسه..

انتهى الرفيق أبو عيون كحيلة من كلمته، وعاد وهو يرفع إصبعيه بعلامة النصر، ويوزع الابتسامات على الحاضرين وتقدم العريف ليقدم رئيس فرع الحزب الرفيق نجيب النجيب، فقفز عبد الحميد ليحمله على كتفيه وهو يعلم أنه لا يقدر على ذلك، فهب رفيقان من حجم عواد الواقف، وحملاه إلى المنصة، ولكن عبد الحميد كان قد سجل هدفاً، وأيقن أنه أصبح عضواً عاملاً..

وقف الرفيق نجيب النجيب، وصمت برهة ثم قال بصوت شاعري:

- ماذا أرى؟ ماذا أرى؟

فصاح الحاضرون خلفه: (ماذا أرى، ماذا أرى).

ظناً منهم أنه هتاف مثل نعم نعم نعم نعم. أحس الرفيق نجيب بحرج، وابتلع الموقف بابتسامة رياضية فنهض عبد الحميد وصاح:

زخماً وزحفاً ثائراً..

وتابع الرفيق نجيب قائلاً:

- إنني أحمل لكم أكثر من بشارة أولها: أنه تقرر افتتاح مؤسسة استهلاكية في قريتكم..

فهمس خميس بينه وبين نفسه:

"إذن تعطلت أعمالكم، وكثرت مشاكلكم، وضاعت أوقاتكم".

وثانيهما: أنني أطمع أن أرى في المستقبل القريب مسرحاً تعرضون فيه إبداعكم.

فهمس خميس في سره:

"من عشرين عاماً لم ترمم المدرسة الابتدائية الوحيدة في القرية، وهي آيلة للسقوط..

وثالثهما: أنني أحمل إلى نساء القرية خبراً مفرحاً بأننا سنفتتح قريباً فرناً لبيع الخبز.. وهو هدية القائد إلى المرأة، فلن تعجن بعد ذلك ولن تقف أمام التنور.. ولن.. ولن.. ولن..

ردد خميس في نفسه: "ستجوعون بعد شبع، وتمحلون بعد بركة وستضيع المرأة من الوقت في انتظار دورها أمام الفرن أضعاف ما كانت تصرفه أمام التنور.."

وأما البشارة الأخيرة..

وسكت قليلاً متهيباً من المفاجأة- ثم أردف:

- أهدت إليكم بلدية (قزاز) تمثالاً..

ثم رفع صوته إلى أقصى درجة..

- نصفياً للقائد الرمز ناسج الحصيرة، فهنيئاً لكم، وألف مبروك عليكم"..

صاح عبد الحميد.. وصاح عواد الواقف.. وصاح أبو عيون كحيلة:

- عاش.. عاش.. القائد الرمز.. يا.. يا.. يا..

وأعطى رفيق إشارة إلى الطبال والزمار فانطلقا، وانطلق الحاضرون معهم.

كان الرفيق نجيب في تلك اللحظة يرفع كيساً بلاستيكياً عن التمثال وقد كتب عليه:

"بلدية قزاز تبارك للتقدراكيين أفراحهم".

انسل خميس وقد أصابه صداع شديد، وتابع الآخرون هتافاتهم مهللين للمكاسب التي ستحل في القرية بعد الانتخاب؟!!

الحلقة الحادية عشرة

قضى خميس ليلته في ألم شديد سببه الصداع وارتفاع درجة الحرارة، ولم تكن ليلته لتخلو من الأحلام التي دارت كلها تقريباً عن الانتخاب، فتارة يرى عشرات الصناديق الفارغة التي تمتلئ بلمحة عين، وتارة يرى عدد الأوراق الموافقة خمسة أضعاف سكان القرية؟

ومرة يرى عبد الحميد وقد تخشب جسمه وامتد كالجسر بين ضفتي الساقية ليعبر عليه عواد الواقف ونجيب النجيب وهو يردد:

تقضي الرجولة أن نمد جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا

وأخرى يرى نفسه أمام موظف تأشيرة المغادرة، وقد أعاد له الأوراق لأن هويته ليست مختومة بخاتم الانتخابات.

أفاق خميس على صوت المذياع، وقد ركزت أمه المؤشر على إذاعة القرآن الكريم، فكان أول ما لامس مسامعه:

"وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً".

* * *

في الطرف الآخر من القرية كان صوت عبد الحميد يلعلع بالشعارات والأشعار الحماسية، يدعو أهل القرية إلى الإدلاء بأصواتهم، لم يجد خميس في نفسه رغبة في التحول عن الفراش، فعاد وطمر رأسه تحت اللحاف، وكأن الأمر لا يعنيه.. وبعد أقل من ساعة جاء عبد الحميد يدعوه إلى الانتخاب، فاعتذر له وأعطاه هويته ليضع عليها الختم.

قال عبد الحميد وهو يرشف فنجان القهوة:

- الأمر خطير يا خميس- فأهل القرية بكروا كعادتهم، وخرجوا إلى الحقول، والنسبة متدنية جداً، وكأن ما قيل ليلة أمس لم يلتفت إليه أحد..

قال خميس: وماذا يضركم هذا؟!

انتفض عبد الحميد كمن لسعته أفعى: كيف لا يضرنا؟ أتدري بماذا سيفسرون عدم الإقبال وما أثر ذلك على القرية؟

وقبل أن يسأله خميس قال: من رأى العبرة في غيره فليعتبر.

أولاً: سيحاسب جميع الرفاق على تقصيرهم، وسيتهمون بعدم استيعاب الجماهير الكادحة.

ثانياً: لن ترى القرية أي مشروع في المستقبل، ويمكن أن يحصل لها ما حصل لمدينة (التين والزيتون) التي عاقبوها بتحويل خط القطار الذي كان مقرراً أم يمر فيها بسبب احتفالها غير اللائق بمناسبة البيعة والتجديد..

وأردف عبد الحميد: القضية أخطر مما تتصور يا خميس؟!!

في هذه الأثناء أرسل رفيق لعبد الحميد بضرورة الحضور فوراً إلى مقر اللجنة، ولم يدر عبد الحميد بعد وصوله أن أحد الرجلين اللذين يلبسان لباساً مدنياً هو المقدم مسؤول الأمن السياسي، الذي طلب الاختلاء بأعضاء اللجنة، وحمّلهم مسؤولية رفع النسبة إلى 75% قبل الثانية والنصف، و90% في الرابعة و99% قبل إغلاق الصندوق.

هز أعضاء اللجنة رؤوسهم، ووعدوه بمضاعفة الجهد الثوري والتعبئة الجماهيرية؟!!

أحد الأعضاء وهو حديث عهد بالنضال قال:

- ولكن يا حضرة المقدم، أهل القرية في البساتين، ولا يعودون إلا مع غياب الشمس.

نظر إليه المقدم بتعال وقال: هذه مهمتكم، وليست مهمتي، والقرية قريتكم، والنتائج تنعكس عليها أولاً وأخيراً.

وعد "رفيق" المقدم خيراً وقال: سترون ما يسركم، فأهل القرية جميعاً بلا استثناء مع الخط الثوري الذي تنتهجه التقدراكية، وهم لا يرضون بغير القائد الرمز بديلاً..

تناول المقدم طعام الغداء الذي أحضره (عواد الواقف) من حساب الجمعية الفلاحية، وما إن غادر القرية مع عناصره، حتى أعلن رفيق إغلاق الصندوق، وبدء فرز الأصوات.. وفي جلسة مغلقة قال للأعضاء:

- كأن أهل القرية يريدون أن يسودوا وجوهنا عند قيادة الفرع؟!

قال عضو اللجنة الذي يحضر لأول مرة: وما العمل يا رفيق؟

ابتسم رفيق وقال: نعمل كما يعمل الآخرون في القرى المجاورة، وكما عملت اللجنة في الانتخابات السابقة، فنبيّض وجه القرية وننجح في مهمتنا، أليس كذلك يا رفيق عواد؟!

هز عواد رأسه، وأخرج قوائم الأسماء، وناولها لعبد الحميد قائلاً:

- أنت تقرأ الاسم وتشطب عليه، وأنا أضع ورقة في الصندوق.

ولم تمض إلا ساعة واحدة حتى كان عبد الحميد استعرض أسماء الأحياء والأموات والمغتربين، وأتخم الصندوق بالأوراق الموافقة.

قال العضو الجديد: لنبدأ الفرز.. فاستغرب الحاضرون وقال رفيق:

لماذا نتعب أنفسنا؟ فهل تظنون أن في الصندوق بطاقة واحدة غير موافقة؟

أجاب عواد: طبعاً لا يوجد!!

قال رفيق: إذاً النسبة معروفة، وأرى أن نخرج النتيجة، وأقترح أن يعلنها الرفيق عبد الحميد.

أحس عبد الحميد أن هذا آخر امتحان له، لينال مرتبة العضو العامل، فأمسك بالمكرفون وصاح:

- نداء.. نداء.. إلى أهل قرية "يا ظالم لك يوم" سنزف إليكم بشرى سارة بعد قليل، وهذه البشرى طالما انتظرتموها بفارغ الصبر..

وأتبعها بأغنية "يا عوازل فلفلوا" وبعدها ببيت من الشعر يحب عبد الحميد أن يردده بمناسبة وبغير مناسبة:

تقضي الرجولة أن نمد جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا

نزف إليكم ما يلي:

بعد الفرز الذي قامت به اللجنة المحلفة تبيّن أن عدد الأصوات الموافقة بنسبة 99.99% وأنتم مدعوون لحضور الحفل الفني الذي سيقام بهذه المناسبة العظيمة في ساحة القرية في تمام الساعة العاشرة..

كان خميس يستمع إلى أخبار السابعة والربع التي استهلها المذيع قائلاً:

- شهدت محافظات ومناطق وقرى التقدراكية إقبالاً منقطع النظير على صناديق الاقتراع.. حيث جرت الانتخابات في جو من الحرية المسؤولة، والديمقراطية الواعية.. وتم فرز الأصوات بوجود لجان محلفة، فكانت نسبة البطاقات الموافقة (99.99%) هذا.. وقد أثبتت الجماهير أنها عند حسن ظن ناسج الحصيرة بها و.. و.. و..

* * *

انطلقت مكبرات الصوت تنقل وقائع الحفل الفني الساهر، وظل خميس قابعاً في منزله، وعلى الرغم من الصداع الشديد فقد استطاع أن يتابع بعض فقرات الحفل، حيث وقف العريف ليقول:

- الفن للشعب، الفن للنضال، هو الفن الصادق.

وراح يستعرض أسماء المشاركين والمشاركات، ففوجئ خميس بأسماء جديدة لم يسمع بها من قبل:

مطربة التسيير الذاتي تغريد صويصاتي..

الفنانة المكافحة شفيقة المسامحة.

عازف التأميم سمير أبو الهماهيم

فرقة الرقص الاشتراكي بقيادة عبود التقدراكي.

إلا أن المفاجأة الكبرى هي أن يكون عبد الحميد فقرة من فقرات الحفل، إذ انطلق صوت العريف ليقول:

- ومن كلمات الرفيق نجيب النجيب، وألحان الرفيق فايز أبو عيون كحيلة، نستمع إلى الرفيق عبد الحميد مع المجموعة في أنشودة بعنوان: "فرحة الجماهير".

لم يكن خميس يعلم أن عبد الحميد له صوت جميل، ولا يستطيع أن يصدق ذلك.. بينما انطلق عبد الحميد يصيح:

يانا.. يانا.. يا ناسج الحصيرة..

يا حا.. ياحا.. يا حامي المسيرة..

يا ناسج الحصيرة يا حاميَ المسيره

أنت للخبز ملحٌ أنت له خميره

أحس خميس بالصداع كأشد ما يكون، فأدخل رأسه تحت اللحاف وهو يقول:

مبروك يا عبد الحميد لقد أصبحت مطرباً، وستكون عضواً عاملاً!! ويالها من مكاسب؟!!

الحلقة الثانية عشرة

طرق عبد الحميد الباب في وقت متأخر جداً من الليل، وفوجئ به خميس يهمس:

- افتح الباب بهدوء، أريد أن أكلمك في أمر هام!!

فتح خميس، وأدخله إلى غرفته الصغيرة، وقد بدا عليه آثار الإجهاد والخوف. فقال:

- كنت في مدية "قزاز" مع رفيق في اجتماع هام وخطير، فقد وزعت المعارضة منشورات تعترض على التجديد لناسج الحصيرة، وأرسلني رفيق إليك لأخبرك أن حملة تفتيش وتمشيط كبيرة ستبدأ قبل شروق الشمس، وتشمل المنطقة كلها، فإذا كان عندك بعض الكتب التي لا تروق لرجال "رزايا الصداع" فإنه يرجوك أن تخفيها حتى لا تسبب لنفسك ولنا المتاعب، وتحمل القرية نصيباً منها..

أحس خميس بشيء من الخوف يدب في أوصاله، فقد تذكر ما قرأه عن حملات التفتيش في الصحف بالخارج، والعنت الذي يلاقيه المواطن لمجرد أن لديه مصحفاً في بعض الأحيان!!

قال عبد الحميد قاطعاً عليه شروده:

- وكذلك إذا كان لديك سلاح ولو بندقية صيد، أو ساطور كبير.. أنت لا تعرفهم يا خميس- ولم تحضر التفتيش قبل هذه المرة!!

ركّز خميس ذهنه على موضوعات الكتب التي في حوزته، فلم يتذكر أن هناك ما يثير الانتباه، ويدعو إلى الشبهة، ومع ذلك أخرج ورقة وسجل أسماءها ليعرضها عبد الحميد على رفيق..

انطلق عبد الحميد مسرعاً باتجاه منزل رفيق، ولم يطل غيابه حتى عاد وهو يرتجف! فجعل خميس يهدئ من روعه وهو يقول:

- كنتَ ستخرب بيتنا وبيتك يا خميس- لو أنك أبقيت هذه الكتب!

استغرب خميس وقال:

- وهل "رياض الصالحين" و"تفسير النسفي" و"سيرة ابن هشام" خطيرة إلى هذا الحد!؟؟

هز عبد الحميد رأسه بالإيجاب، وهو يبتلع ريقه بصعوبة: نعم يا أستاذ!!

خميس: عجيب!!

عبد الحميد (يخفض من صوته): لقد اعتقلوا أكثر الصالحين وما زالوا يتعقبونهم، فكيف تترك عندك رياض الصالحين؟

خميس: لم يخطر لي هذا على بال!

عبد الحميد: وكيف تترك عندك "تفسير النفسي" وكلمة نسف وحدها كفيلة بخراب البيوت!

خميس: إلى هذا الحد؟

عبد الحميد: وكيف تترك عندك "سيرة ابن هشام" التي يمكن أن تذكر بهشام ابن خالتك، الأمر الذي قد يؤدي إلى السؤال عنه من جديد، وإظهار القرية بأن فيها معارضين، مع أننا رفعنا نتائج الانتخاب في القرية مائة بالمائة موافقة؟!!

خميس: والله! ما تذكرت هذا..

عبد الحميد: اطمر هذه الكتب في الخربة القريبة، وخذ هذين الكتابين فاجعلهما في الواجهة..

وناوله كتاب "المنطلقات النظرية" و"قرارات المؤتمر الثالث عشر الاستثنائي".

نهض خميس وفعل ما أشار به عبد الحميد، ثم عاد إلى صندوق قديم وضع فيه بعض الكتب التي اشتراها أيام مراهقته.. فجعل ينفض الغبار عنها، وكان أكثرها صالحاً للقراءة من مثل "لا أنام" و"رُد قلبي" و"النظارة السوداء" و"طفولة نهد" و"قالت لي السمراء".

اطمأن عبد الحميد قليلاً ثم جعل يدير نظره في أنحاء الغرفة، فوقع بصره على صورة كبيرة لوالد خميس وهو يتمنطق بصفين من الرصاص، وعلى كتفه بارودة.. أدام النظر فيها طويلاً ثم قال: أين البندقية التي كانت عند أبيك؟

قال خميس: أهذا وقت المزاح يا عبد الحميد- فهذه صورة قديمة للوالد رحمه الله- يوم كان المستعمرون في بلادنا، وكان هو مع الثوار يقاتلهم.. ثم إن البندقية التي تراها في الصورة أكلها الصدأ، ولا أذكر أنني رأيتها!!

عبد الحميد: وإذا لم يصدقوا هذا الكلام؟!!

خميس: من هؤلاء؟؟

عبد الحميد: التفتيش يا محترم- ربما طالبوك بها مع الطلقات التي معها.

خميس (وقد تغيّر لونه): والعمل؟؟

عبد الحميد: أخرِج الصورة من الإطار، وأنا سآتيك بصورة لناسج الحصيرة، حبيبي لا تنم في القبور حتى لا ترى أحلاماً مزعجة..

* * *

مع أول ضوء للشمس كانت السيارات العسكرية تحيط بالقرية من كل جانب، ومكبر الصوت ينادي على الأهالي ألا يخرجوا من منازلهم.. اتجه قائد الحملة إلى منزل رفيق، وسأله إن كان يشك في أحد أو يتصور أن في القرية معارضين للنظام!! فأنكر رفيق ذلك فأخرج الضابط قائمة تضم عدداً من الأسماء، وسأل عن هشام وهل له أقرباء؟؟

قال رفيق: ليس له سوى أم عجوز، وسأرسل لك في طلبها لتتأكد بنفسك.

- أين هشام يا عجوز؟؟

- ذهب للجامعة ولم يعد..

- لا تكذبي!! أنت تعرفين أين هو؟

- عيب يا ابني، أنا مثل أمك! فكيف تقول لي هذا الكلام؟!!

أطرق الضابط رأسه ثم قال: أين أبوه، أو أخوه؟

- ليس له أب ولا أخ..

- طيب.. اذهبي إلى بيتك، ونحن سنأتي للتفتيش.

وفي البيت سألها عن أغراضه، عن أوراقه، فأشارت إلى مكتبة بسيطة تضم كتبه الدراسية في كلية الطب.

- لماذا تحتفظين بها إلى الآن؟

- لعله يعود ويتابع دراسته..

ومد يده إلى كتاب متوسط الحجم، فجعل يتفحص أوراقه، ثم قذف به وهو يقول:

- لقد أتعبنا كثيراً طلاب الجامعات..

في منزل المختار وبعد تناول القهوة سأل الضابط عن إمام القرية فأخبره المختار بأنه معتقل منذ أكثر من سنتين.. قال الضابط:

من الذي يخطب الجمعة؟

فأجابه المختار: لا أحد.. ولكننا طلبنا من مدير الأوقاف أن يرسل لنا خطيباً ولو على حساب القرية، وقد راجعته قبل أسبوعين، فأخبرني أن الطلب تحت الدراسة، وسيرفعه إلى الوزير الجديد.

دخل أحد الرقباء وقال: سيدي.. انتهى التفتيش، والقرية نظيفة..

قال الضابط متهكماً: من كل شيء.. حتى من الإمام؟

الحلقة الثالثة عشرة

أحس خميس أن بقاءه في التقدراكية لمدة أطول سيكون نوعاً من العبث وضياع الوقت، ولاسيما بعد أن رأى من العجائب والمفارقات ما رأى؟!! فحزم أمره على السفر والعودة إلى بلاد الديزل لمتابعة عمله هناك..

كان عبد الحميد المودع الوحيد الذي ظل مقطب الجبين، عابس الوجه، فهو بالإضافة إلى حزنه على فراق خميس، لم يحصل على مرتبة عضو عامل في الحزب على الرغم من الجهود التي بذلها، والوعود التي قطعها له الرفاق!!

قال خميس مداعباً وقد أراد أن يخفف عنه وعن نفسه:

- لماذا تحزن يا عبد الحميد- فالنضال يحتاج إلى تضحية وإيثار، وها هم الرفاق قد عبروا، وبقيت أنت جسر العبور المنتصب؟؟

نظر عبد الحميد إلى وجه خميس بعينين ذابلتين: بالله عليك، لا تذكّرني ولا تفتح جراحي، فهؤلاء لم يكونوا إلا خونة ومستغلين تسلقوا على أمثالي للوصول إلى المناصب والمكاسب.

قال خميس (متصنعاً الحكمة): والنضال، والثورة، وخدمة الجماهير؟!!

عبد الحميد: تركتها للمناضلين من أمثال رفيق ونجيب النجيب.. تصور يا خميس- أنهم أخذوا مهمات حزبية، وقبضوا عنها تعويضات ولم يحسبوا حسابي، وقدموا أسماء أصحابهم وأقربائهم لمرتبة العضو العامل، ولم يفوا بما وعدوني به!!

خميس (متصنعاً الوقار): المناضل الحق يا عبد الحميد- لا ينظر إلى المراتب فهو يناضل في القمة وفي القاعدة، وفي كل الظروف..

كان هذا الكلام كافياً لاستفزاز عبد الحميد فراح يكيل الشتائم والاتهامات للرفاق بدءاً من أعضاء القيادة وانتهاء بعواد الواقف ثم أردف:

- لقد أحرجوني أمام والدي وأصدقائي.. أتعلم ماذا قال لي والدي يوم سمع صوتي أغني مع المجموعة؟!!

خميس: ماذا قال؟

عبد الحميد: بصق في وجهي وقال: تمنيت لو أن الأرض انشقت وابتلعتك ولم أسعك تندب وتنوح في تلك الليلة، وتمنيت لو أنك لم تخلق.. لقد سودت وجهي في المنطقة كلها.

خميس (في محاولة استزادة لمعرفة ما جرى بينه وبين أبيه):

- أبوك مخطئ على كل حال، وهو لا يقدر الفن المرتبط بالنضال والجماهير.

عبد الحميد: أي فن يا رجل؟ فأنا كنت أضحك على نفسي، وأعلم أن الذين كانوا يسمعون يضحكون عليّ!! ولكن ماذا أعمل هكذا أراد الخبيث نجيب النجيب، وأصر على مشاركة أهل القرية ولو بفقرة..

خميس (جاداً): أما أنا فوالله- كنت أبكي عليك، ولعلي أكون الوحيد في القرية الذي فعل ذلك.. على كل حال ما فات مات، فحاول أن تعتذر من أبيك، أو توسط له أحداً من أصدقائه.

عبد الحميد: أبي رجل عنيد، ففي الأمور التي يتصور أنها تمس كرامته لا يقبل اعتذاراً ولا وساطة..

خميس (وقد عاد إلى المزاح): وسّط له نجيب النجيب مثلاً؟

عبد الحميد (وقد فتح فمه بسيل من الشتائم الثورية المناسبة):

- نجيب النجيب هو سبب البلاء، ومنه أتتني المصيبة!!

خميس: كيف؟!!

عبد الحميد: يصر أبي أنه ما أحس بالإهانة في حياته كما أحس بها يوم قفزت لأحمل نجيب، ويقول إنه لا يستطيع أن يتصور أن عبد الحميد حفيد حمدو الجمراني الذي قاتل المستعمرين خمس سنوات متواصلة، وقتل بوشاية من سعدو النجيب جد نجيب النجيب، يهرول ليحمل حفيد الخائن!!

خميس: أبوك ليس محقاً في هذه، فإذا كان سعدو عميلاً للمستعمرين أيام زمان فإن حفيده أحد المناضلين في عهد الثورة والتقدم؟!

عبد الحميد: (متجاهلاً كلام خميس) الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فوالدي يقول إنه يعرف نجيب النجيب منذ أكثر من عشرين سنة.

خميس: ومن أين هذه المعرفة؟

عبد الحميد: يوم كان نجيب وكيل معلم في قرية (الأمانة) المجاورة لقريتنا، وجاء المفتش وأثبت عليه أنه باع الوقود المخصص لتدفئة التلاميذ، وسرق نصف ما في صندوق المدرسة، فكفوا يده عن العمل..

خميس (في سخرية): ما شاء الله؟ تاريخه حافل بالنضال؟!!

عبد الحميد: ويقول والدي إن هناك أشياء لا تحكى، ولا سيما بعد أن انتقل نجيب إلى المدينة وعمل حارساً في ملهى (القط الأسود) الليلي، ومرافقاً للراقصة (شريفة بركات).

خميس: إذاً من هنا جاء حبه للفن، وتفتقت عبقريته الشعرية؟!!

لم يضف عبد الحميد شيئاً جديداً سوى أن قال: أحس أنني لا أستطيع الاستمرار في هذه القرية، وأن نظرات أهلها أشد علي من كلام أبي..

ثم قال بتوسل: هل تستطيع أن تدبر لي (فيزا) للعمل في بلاد الديزل؟!!

خميس: ليس ذلك صعباً، فأنا على كفالة رجل طيب جداً، ولكنه يكره الرفاق كرهاً شديداً فقد سبق له أن زار التقدراكية، وسرق الرفاق سيارته المارسيدس، وحين سأل عنها سجن ثلاثة أشهر، وأخشى إذا علم أنك رفيق أن يعطينا تأشيرة خروج نهائي بلا عودة؟!!

عبد الحميد: أقسم بالله إنني تركت الرفاق منذ أول أمس ..

خميس: أنا أصدقك، ولكن زيادة في التأكيد خذ هذا (الجالون) فيه ماء زمزم، فاشرب منه على نية أن يطهر الله قلبك.. وتوضأ منه أيضاً لعل الله يطهر سمعك وبصرك.. ثم صل ركعتين واصدق التوبة.

ذرفت عينا عبد الحميد وكاد يقبل يد خميس بعد أن عانقه مودعاً وهو يقول:

- والله أنت أحسن صديق يا خميس- وكلهم كذابون ومنافقون.

الحلقة الرابعة عشرة

أصرت أم خميس على أن تزوده بما يذكره بوطنه وقريته من زعتر وفستق وقمردين، إضافة إلى زوجين من الحمام قائلة: إن الحمام كثير الحنين ولعل هديله يحرك مشاعرك كلما فكرت أن تتكاسل في كتابة الرسائل لأطمئن عليك.

خميس: إن شاء الله سأحصل لك على إقامة، وتبقين معي هناك ولا نعود إلى التقدراكية بعد ذلك.

أم خميس: (وهي تودعه وتقبل وجنتيه) أسأل الله أن يقدم لنا ما فيه الخير يا ولدي..

* * *

عند أول محطة للوقود فوجئ أن سعر الصفيحة من البنزين قد تضاعف منذ ليلة أمس مع عدد من المواد التموينية، فهمهم وهو يستلم بقية المبلغ من العامل:

- بدأت المكاسب والخير لقدام..؟

كانت الساعة تشير إلى السادسة والربع صباحاً، فحول مؤشر المذياع لسماع نشرة أخبار التقدراكية، فتأكد من صدق عامل المحطة، وتبيّن له أن كثيراً من الضروريات في بلاد العالم أصبحت كماليات في بلده.. فحمد الله على أنه لن يشهد تطبيقات القرارات الجديدة.

* * *

التفتيش بعد (1000م) خفّف السرعة.. التفتيش بعد (500م) تباطأت السيارة.. التفتيش بعد (250م) مركز التفتيش، فتح الغطاء الخلفي للسيارة ونظر الموظف ثم صفّر صفرة طويلة قائلاً: شو هادا أستاذ؟ حمام؟!

خميس: نعم!! حمام!!

الموظف: لا.. لا.. لا يمكن.. غير مسموح.. إخراج الحمام يهدد الثروة الحيوانية في البلد..

ثم نادى على زميله الذي أخذ دور الوسيط بينهما.

خميس (وقد بهتته المفاجأة): إذا كان إخراج زوجين من الحمام يهدد الثروة الحيوانية في البلد، فسأفتح القفص، وأتركها تطير.

الموظف: لا تستطيع أن تفعل ذلك! لأنه من الممكن أن تدخل حدود دولة مجاورة.. ثم من يضمن أنها ستبقى في المجال الجوي للتقدراكية.

أحس خميس بأنهما يضيقان الخناق عليه: إذاً أذبحها أمامكم.

الموظف: ومن يضمن لنا أنك ستأكلها ضمن حدود التقدراكية؟ ممكن جداً أن تدخل بها إلى دولة أخرى.

خميس (وقد ضجر): خذوهما.

الموظف: أعوذ بالله؟! نحن لا نأخذ شيئاً من أغراض المغتربين؟!

الموظف الوسيط: أنا أحل هذا الإشكال.. اتركها معك وهات خمسين ليرة..

خميس (ناوله الخمسين، ومضى مردداً): هذا أول استفتاح..

لم يمض طويلاً حتى فاجأه حاجز تفتيش متحرك، فنزل وقد خبأ في يده خمسين أخرى:

- صباح الخير.

- أهلاً.. أهلاً.. شو معك أستاذ؟؟

- خمسون ليرة..

- التسعيرة أكثر من هيك بكتير.. اجعلها مائة وخمسين.

- يا جماعة ما معي شيء له قيمة.. مفرمة لحمة وأغراض بسيطة.

صاح أحدهم: مفرمة لحمة، وما معك شيء؟؟!

عنصر آخر: إخراج آلات ممنوع إخراجها من القطر يعني إضعاف القطاع الصناعي!!

خميس: لا تكبروها يا شباب- واتركونا متيسرين..

أحدهم: نحن ثلاثة، وإلى الآن ما أفطرنا، أنت يسرها.

لفَّ الخمسين المتعرقة مع مائة أخرى، ودفعها لأحدهم الذي قال له بتثاقل: عن طيب نفس.. مو هيك يا أستاذ؟؟

خميس: طبعاً عن طيب نفس..

ودفع سيارته وهو يوطن نفسه على تكرار التفتيش والدفع.

* * *

عند نقطة التفتيش الثالثة لم يسأله أحد عن شيء، بل اكتفى المسؤول أن دار حول السيارة، وهو يحدق بالعجلات، وقال لخميس وهو يبتسم:

- لن نسألك عن شيء، ولن نأخذ منك شيئاً!!؟

سر خميس لهذه الأريحية التي لم يكن يتوقعها، إلا أنه عاد وانقبض حين قال له مسؤول النقطة:

- مصنع العجلات عندنا متوقف منذ سنتين، والاستيراد ممنوع! هل تعلم هذا؟؟

خميس: نعم!! أعلم..

المسؤول: وأنت ما شاء الله- مغترب، وذاهب إلى بلد فيه كل أنواع العجلات.

خميس (وقد تضايق من هذه المقدمات): والنتيجة؟؟

مسؤول النقطة: (بتراخ) النتيجة يا أستاذ- نريد أن تبدل لنا العجلات لأنها من نفس القياس.

ثم أردف:

- صحيح أن عجلات سيارتنا قديمة، ولكنها توصلك بالسلامة إن شاء الله!

ومع ابتسامة هي أقرب للتهديد: ولا تؤخرنا حتى لا نضطر آسفين أن نؤخرك.

هز خميس رأسه موافقاً، لأنه لم يجد بداً من ذلك، ولم تمض سوى دقائق حتى كانت العجلات قد بدّلت، فجعل يدعو الله ألا تنفجر إحداها قبل وصوله، واستبدالها بعجلات جديدة.

* * *

تألم كثيراً حين برزت أمامه لوحة كتب عليها "رافقتكم السلامة" فأخذ قطعة فحم وكتب بجوارها "إلا عجلات السيارة، والحساب بيننا يوم القيامة".

عند آخر حاجز استوقفه عنصر يبدو أنه لم ينم طوال الليل فسأله:

- معك دولارات أو جنيهات أو دنانير أو.. أو.. أو..

فأجابه خميس بالنفي.

- معك من عملة البلد؟

- مبلغ بسيط.

- تحب أن أسجله لك لتستلمه عند العودة أم تجود به علينا؟

أعجب خميس بصراحته، كما سره أن أسلوبه اختلف عن أسلوب الآخرين، فأعطاه المبلغ ومضى وهو يحس بالارتياح، لأنه لم يبق أمامه أي نقطة للتفتيش، وبعد أقل من كيلو متر أوقف السيارة قرب لوحة فكتب تحتها:

(لا حياة في التقدراكية إلا للتقدم والاشتراكية).

ثم انطلق يسابق الريح، وهو يدندن"

(يا ظالم لك يوم مهما طال اليوم)