سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي 10

بدر محمد بدر

سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (الحلقة 10)

كانت وقائع التعذيب في أيام من حياتي هي الصدمة التي هزت ضمير طلاب الجامعات

على الواقع الأليم الذي عاشت فيه مصر قبل هزيمة 1967 النكراء

بدر محمد بدر

[email protected]

وفي النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي, بدأ كتابها " أيام من حياتي " ينتشر بصورة كبيرة خصوصا بين الشباب, وبدأ الجميع يتساءلون: هل حدث هذا الإجرام فعلاً في عهد عبد الناصر؟!. وهل تعرضت سيدة مسلمة بسبب اعتزازها بدينها, ودفاعها عن عقيدتها, لكل هذه الأهوال؟! وما هو الذنب الذي اقترفته حتى تتعرض لكل هذا التعذيب الرهيب؟! وأياَ كان الجرم الذي ارتكبته, فهل هذا يعطي السلطة الحق في التعامل معها بهذه الدرجة من القهر والتسلط والوحشية؟!.

لم يجد الشباب أي تبرير للعدوان الآثم الذي ارتكبته السلطة في حق هذه الداعية, فزاد ذلك من تعاطفهم مع زينب الغزالي, وما تمثله من فكر ومنهج ورسالة ودعوة.. دعوة الإخوان المسلمين التي أسسها الإمام حسن البنا, وبدأت تتشكل الملامح الأولى لشباب الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية على منهج الإخوان المسلمين, الذي يتميز بالربانية والوسطية والشمول, وزاد الإعجاب بمواقفهم وصبرهم وثباتهم على الحق, وتحملهم الاضطهاد والاعتقال والتعذيب في السجون.

وقتها كنت طالباً في كلية الإعلام جامعة القاهرة, ووقع في يدي كتاب " أيام من حياتي " الذي يتحدث عن التعذيب والهوان الذي لقيته زينب الغزالي في السجن, وقرأته على مدى عدة أسابيع.. لم أستطع أن ألتهم الكتاب كعادتي في ليلة واحدة, فقد كانت الكلمات والمشاهد المؤلمة تمنعني من الاسترسال في القراءة.. كانت قسوة الكلمات والصور المتخيلة فوق كل احتمال, لشاب يرى الصورة المريرة لأول مرة في حياته... كنت أبدأ القراءة, وسرعان ما تنهمر الدموع من عيني, وتفور الدماء في رأسي وجسمي, ولا أقوى على الاستمرار في القراءة والمتابعة, وتخونني أعصابي ورجولتي عن التحمل, وكنت أسال نفسي: كيف بمن حدث هذا معها فعلا.. كيف تحملت كل هذا العذاب والألم وهي المرأة الرقيقة الضعيفة ؟!

كانت كلمات الداعية زينب الغزالي في كتابها " أيام من حياتي " والوقائع المثيرة التي دونتها, هي الصدمة التي هزت ضمير وعقل ووجدان طلاب الجامعات في مصر, على الواقع السياسي الأليم الذي كانت تعيش فيه البلاد, خصوصا قبل هزيمة 1967 النكراء, بل وربما كان أحد أهم أسبابها هو شعور المواطن المصري بالهوان والإذلال على يد النظام الحاكم, فبدأت أعداد المتدينين والملتزمين بالإسلام بين الشباب والفتيات تزداد بكثرة, وبدأ جمهور الصحوة الإسلامية يتسع وينتشر ويلفت اهتمام المجتمع والقوى السياسية والسلطة.

وبدأت تظهر كتب أخرى تتحدث عن المآسي التي تعرض الإخوان في السجون, بأقلام بعض من عاشوها واصطلوا بنارها وأفلتوا من الموت تحت لهيبها, منها كتاب " عندما غابت الشمس " للدكتور عبد الحليم خفاجي, وكتاب " مذابح في سجون عبد الناصر " للأستاذ جابر رزق, وكتاب " لماذا اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا؟ " للدكتور عبد المتعال الجابري, ثم " البوابة السوداء " للأستاذ أحمد رائف وغيرها, لتكون وقوداً يشعل حماسة الشباب ويزيد من عزيمته ورغبته في تحمل الأعباء وبذل النفس والنفيس لنصرة هذا الدين العظيم.

كانت مدرسة الإخوان المسلمين هي أقرب المدارس الإسلامية إلى شباب الجامعات في مصر منذ بدأت الصحوة الإسلامية في السبعينيات وحتى الآن, وكانت الداعية زينب الغزالي علامة من علامات الصحوة الإسلامية في مجال المرأة, ومع نهاية السبعينيات من القرن الماضي, بدأت السلطة تكشر عن أنيابها ضد التيار الإسلامي المتنامي بين الشباب, وضد الدعاة المعروفين وقتها بانتمائهم إلى الإخوان المسلمين, ثم وقعت أحداث سبتمبر عام 1981, التي اعتقلت فيها السلطة عدداً كبيراً من قيادات العمل الإسلامي, وعلى رأسهم بل وأغلبهم قيادات ورموز وأعضاء من الإخوان المسلمين ( أكثر من 1500 معتقل, ثم تضاعف العدد أكثر من مرة بعد حادث اغتيال رئيس الجمهورية ), وتسارعت الأحداث باغتيال الرئيس أنور السادات يوم السادس من أكتوبر 1981 في أثناء استعراضه لوقائع العرض العسكري الدوري الذي كان يعقد في هذا اليوم احتفالا بانتصار أكتوبر 1973.

وكان من بين المعتقلين الأستاذ الكبير عمر التلمساني ـ المرشد العام للإخوان المسلمين آنذاك ـ وكان قد جاوز السابعة والسبعين من العمر, ولم يشفع له ذلك في أن يخرج من السجن إلا بعد أن أمضى أكثر من أربعة أشهر! واعتقلت الشرطة أيضا عددا من أعضاء مكتب الإرشاد, كما اعتقلت المئات من قادة التيارات السياسية الأخرى, مثل الوفد والشيوعيين والعلمانيين وبعض الأقباط.. ونشرت الصحف وقتها أسماء أكثر من ألف وخمسمائة ممن اعتقلتهم أجهزة الأمن تحت مسمى " التحفظ عليهم في مكان أمين "!

وسرعان ما واصلت الشرطة القبض على الآلاف من الشباب مجدداً حتى امتلأت السجون بالمعتقلين وأعلنت حالة الطوارئ  ـ التي استمرت إلى اليوم ـ ثم هدأت الأحوال نوعا ما.

أفرج الرئيس الجديد حسني مبارك عن معظم رموز العمل السياسي والصحفي, من الوفديين والعلمانيين والشيوعيين واليساريين, بعد نحو ثلاثة أشهر من الاعتقال, واستقبلهم في قصر الرئاسة تكريما لهم وإزالة لما لحق بهم من أذى, دون أن يستقبل أحداً من قادة ورموز التيار الإسلامي الذي بقى رهن الاعتقال, ولم يبدأ الإفراج عنهم إلا بعد أكثر من أربعة أشهر.

كانت الداعية زينب الغزالي بفضل الله بعيدة عن هذه الاعتقالات, لكنها عاشتها في كل لحظات حياتها, كانت تتألم مما يجري في الوطن ضد دعاة الإسلام وشبابه الغض المتوقد حماسة.. كانت تتضرع إلى الله عز وجل أن يرفع عنهم البلاء, وأن يمن على الأمة الإسلامية والوطن العزيز بعهد راشد وحكم عادل, يعز فيه أهل الطاعة والإيمان, ويذل فيه أهل الضلال والخسران, ويؤمر فيه بالمعروف وينهي فيه عن المنكر.

كانت تشتاق إلى العدل, وإلى تنسم عبير الحرية لكل أبناء الوطن, وإلى سيادة الرحمة والرفق في التعامل مع الجميع, وفي نفس الوقت كانت تؤمن بأن السجون والمعتقلات هي مصانع للرجال, ومدارس للتربية الجادة على التحمل والصمود في وجه الفتن والأعاصير.. كانت ترى أن السجون والمعتقلات هي معسكرات إيمانية, ومدارس تثقيفية وتوجيهية.. إنها مدرسة سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ لمن عرفها واستفاد من عطائها وتحمل آلامها, حسبه لله تعالى وحده, ورغبة في نيل الأجر والثواب الجزيل..

كانت ترى أن اشتداد الظلم هو أمارة من أمارات النصر والتمكين لأصحاب الدعوات, وبشارة من بشارات الأمل في تحقيق الهدف المطلوب.. ويوم أن أصدر نظام الرئيس الحبيب بورقيبة في تونس الخضراء أحكاماً بالسجن والإعدام بحق عدد من قيادات ورموز حركة النهضة التونسية في منتصف الثمانينيات, أرسلت الداعية الكبيرة برقية إلى أبناء الحركة الإسلامية في تونس, تؤكد فيها أن إراقة الدماء الزكية في سبيل الله هي أولى الخطوات على طريق النصر وتمكين الإسلام, كما أنها نهاية لعصر الظلم والظلام والاستبداد والقهر والطغيان, وبالفعل انتهى عصر بورقيبة بعدها بعدة أشهر.. ولا تزال الحركة الإسلامية في تونس هي الأمل الذي ينتظره الشعب التونسي, لتخليصه من الاستبداد والقهر والتغريب ومحاربة الإسلام, الذي يقوده نظام الحكم الحالي.

واصلت الداعية المجاهدة طريقها في الدعوة إلى الله, واستجابت لكل الدعوات التي كانت تأتيها للمشاركة في المحاضرات واللقاءات والندوات والمؤتمرات التي تقام في مصر أو في الخارج, وسافرت إلى أوروبا وإلى أمريكا وإلى دول عدة في آسيا وأفريقيا, حباً في الإسلام العظيم ودفاعاً عن شريعته الغراء, كما شاركت بالكتابة في العديد من الصحف والمجلات منذ منتصف السبعينيات, بدءاً من مجلة " الدعوة " الغراء التي أصدرها الأستاذ عمر التلمساني عام 1976 وكانت تشرف على زاوية " نحو بيت مسلم ", حتى أغلقت المجلة ـ  رد الله غيبتها ـ في سبتمبر 1981, ثم كتبت أيضا في مجلة " المجتمع " الكويتية, و " الشروق العربي " الجزائرية, و " المسلمون " السعودية, وغيرها, كما أدلت بمئات الأحاديث الصحفية والإذاعية والتليفزيونية, خصوصاً للإعلام الأوروبي والأمريكي.

وفي أواخر عام 1982 جاءتها دعوة من منظمة الشباب المسلم العربي في الولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء عدد من المحاضرات أمام الجالية المسلمة هناك, التي تقيم مخيماتها السنوية في إجازات شهر ديسمبر من كل عام, وعندما توجهت إلى مطار القاهرة الدولي, كي تستقل الطائرة إلى أمريكا, منعتها سلطات الأمن من السفر, فاضطرت للعودة إلى بيتها, وأقامت دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري لإلغاء قرار وزارة الداخلية بمنعها من السفر دون سبب قانوني, وحصلت على حكم بإلغاء قرار المنع على السفر, واستأنفت الحكومة واستأنفت هي أيضا, وظلت القضية عدة أشهر حتى حصلت على حكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا بإلغاء القرار وتمكينها من السفر, وبالفعل وصلت دعوة جديدة من نفس المنظمة للمشاركة في أنشطة المخيمات للعام التالي ( 1983 ), وتوجهت مرة أخرى إلى مطار القاهرة, وتقدمت بجواز السفر إلى ضابط الأمن, الذي أبلغها مجددا بمنعها من السفر!.

لكنها أبرزت له حكم المحكمة الإدارية العليا الذي حصلت عليه, ويقضي بعدم جواز منعها من السفر, وأحكام القضاء الإداري في مصر عموما واجبة النفاذ, وطلبت من الضابط  المسئول أن يقوم بعمل محضر " إثبات حالة " بمنعها من السفر.. كانت الداعية الكبيرة تتحدث بلهجة قوية واثقة وشامخة, وراجع الضابط المسئول قيادته, فأذعنوا لتنفيذ حكم المحكمة, وسافرت الحاجة زينب إلى الولايات المتحدة الأمريكية, لتقضي هناك قرابة الأسبوعين في إلقاء المحاضرات, في طقس شتوي شديد البرودة, وصلت فيه درجة الحرارة إلى نحو 50 درجة تحت الصفر, وهو مناخ تتوقف معه الحياة تماما.