الشيخ عبده الربابعة قدَّس اللهُ سرَّهُ

د. حسن الربابعة

الشيخ عبده الربابعة قدَّس اللهُ سرَّهُ

د. حسن الربابعة

قسم اللغة العربية

جامعة مؤتة

[email protected]

فانه لما تسلسل بسلسلة السادة القادرية بمنة من الله وبفضله، نسبُنا الرَّبَّاعي الكيلانيُّ ، وقد عرضنا له في ما سبق ، فعنَّ لنا أن نعرض إلى احد أحفاد أحفاده الشيخ الولي لله عبده بن محمد بن سلمان بن عامر بن خليل بن إبراهيم بن محمود بن عامر بن عبيد بن موسى بن الشيخ ربّاع بن علي بن عبد الرزاق بن عبد القادر الكيلاني،بن موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داوود بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض ، (لحضوته بجديه الحسن ظًُهرا والحسين بطنا )،ابن الحسن السبط بن الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب ، وأمهم فاطمة الزهراء رضي الله عنها وذراريها الممتدة التي تُقدَّسُ الذات العلية، أقوالا وأفعالا، وهي في ديمومة توحيد الله وتسبيحه عبر القرون ، وقد اتصل الذكر بربِّ الأذكار الخالق العلي، الذي لا ينمحي ذكره، وهو الأوحد الباقي عزَّ شأنه وجلَّ وصفه ولَذكرهُ من الله العلي تكرمة وزيادة في تحببه " ولذكرُ الله اكبر " قدَّس الله أسرارهم جميعا وأسرارَ أولياء الله أجمعين.

 وُلِدَ الشيخ عبده في بلدة اجديتا قبل نحو أربعة قرون على الظن من اليوم(2008م/1429ه) في العهد التركي ، وترعرع فيها وتنسّك وتعبّد ، وفيها قبره وعليه قبة ما تزال قائمة ، وقد ظهرت له كراماتٌ منها ، انه أبطل سحر حدادين ، كانوا ينفخون سحرهم في كيرهم ، فتنطلق ألسنةٌ نيران من أفواههم ، فأضلوا من الناظرين إليهم عددا ، فاستنجد بعض أهل قرية اجديتا آنذاك بالشيخ عبده،لعله يقلبُ عليهم سحرهم ، وينصر دين الله الواحد الأحد، جاؤوه يشكون إليه أمرهم ": شيخ عبده مجموعة سحرة ينفخون النار من أفواههم ، أضلوا من الناس فريقا " فأجابهم الشيخ عبده إلى طلبهم ، توضَّأ وصلَّى ، ثم حضر سراعا إلى كير الحدادين، وهم يتشاغلون بإضلال الناس ، إذ ينفخون أمامهم من أفواههم فيخيَّلُ للناظرين إليهم أنَّ من أفواههم نارا ودخانا، وبعض الحضور افتنُّوا بسحرهم فأشركوا بالله أو كادوا به يشركون ،فتدخلت عنايةُ الله لوليه الشيخ عبده الرَّبَّاعي، فقرأ عليهم آياتٍ من القرآن الكريم، كما فعل موسى عليه الصلاة والسلام بالسحرة ، ورسالة الإسلام ، وكرامات الولي تعادل في دلالاتها ومعانيها معجزاتِ نبي ، ذاك على التشبيه ، لا على تنزيلها منزلة المعجزات النبوية ، فكلاَّ وحاشا أن يكون الولي مهما بلغت درجته علوا نبيا ، تلا الشيخ عبده قدس الله سرَّهُ آياتٍ من القرآن الكريم ، مما تبطل السحر ،وقال لهم:" باسم الله، بطل كيرك يا حداد " فبدا الحداد ينفخُ في كيره على عادته، فخرج من فمه بُصاقه، لوّث لحيته (وليّسها)، فقرفَ المشاهدون منه ،لسوء منظر بصاقه الملون المشوب باسوداد الكير من جهة ، ولريح الكير منه و من فيه من جهة أخرى، وشعر الحداد الساحر ومن معه من الحدادين ، بخزي و دحور ،وخرجوا من بلدة اجديتا على عجل مقهورين ، واقسموا ألا يعودوا إليها ، طالما الشيخ عبده قدس الله سره حي يرزق فيها . هذه هي الكرامة الأولى

 أمَّا الكرامة الثانية ، فبلغه أنَّ (التحصل دار) العثماني حضر إلى بلدة عُرْجان التي تقعُ إلى الجهة الجنوبية الشرقية من بلدة اجديتا على نحو من خمسة كيلو مترات، وبدا يقدِّرُ عليهم ضرائب ظالمة ،تئطُّ منها الأغنياء فما بالك بالفقراء ؟ فهُرعَ بعض الفقراء من عُرْجان ؛ يشكون أمرهم لله ،ثم لأولياء الله الصالحين، منهم الشيخ عبده ، فتحرَّك من اجديتا إلى عُرْجان على عجل، يسألُ الله بسرِّه وعلنه ،أنْ يمكِّنَهُ بفضله تعالى ومننه ، من أن يرفع الظلم عنهم ،وعلى الطريق انساب أمامه ثعبان أسود، فناداه :"آمرُكَ باسم الله الأعظم الذي لو شاء لجعل الظل ساكنا ،أن تسكن وتمتثلَ لأمر الله " وأشار إليه، فسكن الثعبانُ ،والتفَّ على نفسه ، مستجيبا لأمر ولي الله طائعا ، مطأطئا رأسه بين طيات جسمه المتلفلف ، فحمله الشيخ عبده معه، واضعا إياه في عبِّه ،ووصل به إلى عُرْجان ، حيث كان( التحصل دار) متربِّعا حول منسف بلدي من سميد ولبن ، والناس يتملقونه لتخفيف الضرائب، عن عباد الله الفقراء خاصة ،وهو متعنِّت في أمره ، (يتنفترُ) بالناس تنفترا ؛ لا يعجبُهُ منهم العجب، ولا صيامُهم في رجب، كما يقال ، والناسُ يشكون لله أمرهم ،و ينتظرون على أحرَّ من الجمر منقذا لهم ، أو فرجا يحلُّ بفنائهم قريبا .

وما إن دنا الشيخ عبده من المائدة بهيبة شيخ وقور ، عمامتهُ خضراء على عادة من يعتمُّ من آل البيت الشريف في وقته ، لحيتُه بيضاءُ، شعشعانية بالحناء، مسبحته في عنقه يخفيها إلا عندما يخلو بنفسه ، فيعدُّ بها أوراده ، التي هي بالآلاف ، لا بالمئات فحسب ، حسب برنامجه اليومي ، معه محجانه ، من شجر اللوز، اتخذه ؛ لزجر الشيطان، ووكزه عند الحاجة ، وللتوكؤ عليه ، يشعُّ النورُ الرَّباني من قسماتهِ ، شيخٌ طُوال ُمهابٌ ، على جبينهِ سماتُ السجود الطويلِ لله،" سيماهم في وجوههم من أثر السجود" و في قسماتِ وجهه نور وضَّاح، من أصالة ذراري الرّسول الكريم عليه الصلاة والسلام وآله ، وهي التي ختمته بها نسبا طهورا وتعبُّدا ، لاسيما أنَّ المسجدَ الأول في البلدة، كانَ قريب المسافة من منزله ، وكان يؤدي أكثرَ صلواته فيه، و يئمُّ الناسَ في صلاتي العتمتين خاصة ،ولهاتين الصلاتين نور في الجبين، لو اطلع المؤمن على فضلهما لآتاهما ولو حبوا .

ما إن دنا الشيخ عبده منهم ، فعرفوه ، حتى توقَّفوا عن الطعام برهة ،يتأملون طلعته البهية ،وهيبته، و صباحة وجهه، والإيمانُ يغمرُه ، وثقتهم بالله لحلِّ مصيبتهم ، ها هي قد حانت ، فقالوا تفضلْ يا شيخُ عبدَهُ ، فطرح عليهم السلام، و ما كاد يجلس، حتى أخرج من عبِّه ثعبانَه ُ، رفيقَ دربهِ منذ نصفِ ساعةٍ مضت، وقال لرفيقه الأسود ، الذي بدأ يطلطل رأسه من عبَّ رفيقه الشيخ حينا ثم من طرف كمِّه حينا آخر، ثمَّ أخرج لسانه يتنشقُ به روائح القوم وموائدَهم ،ثمّ خاطبهم الشيخ عبده :" معي عبدٌ لله أسود، صاحبني على الطريق إليكم ، وها هو يسمعني بعينه ، بإشارتي إليه، لا بأذنيه ، فهو الأصم كما تعلمون ، تكفل بان يصبُّ لكم الشراب على مواكلكم بإشارتي إليه :"هيا يا عبدُ ، شرِّبْ لهم "، وأشار إليه؛ فانساب الثعبان الأسود بأمر الله بطوله ، وتمدَّدت عضلاته المرنة ، وبدأ يسعى بينهم ، وينظرُ إليهم، من نقاب عينيه ، اللتين لا يتحرك بؤبؤهما ،فاستقام قدُّهُ ، وتمادى شدُّه، كأنه العصا أو الرقم واحد في حساب العرب والهنود ،بعد أن كان يسعى في البطين متعرِّجا يكتب من الأرقام أربعة بعد أربعة ، ويقال كما يروى كابرا عن كابر:" لقد عبَّ من الشَّراب ، حتى ملأ شدقه المتواسع منه ،وانتشى ريقه، ثمَّ ضخَّه في مأكل

( التحصل دار) خاصة ، وقال له الشيخ عبده :" كلْ يا (تحصل دار) هنيئا مريئا ، وإلا أطلقتُه عليك ليعانقك ": فمدَّ (التحصل دار) يده نحو الزاد مذهولا ، فاخطأ لهول ما رآه ، موقعَ المِنسف ، لانَّ عينيه صارتا تحدقان بمعزِّبه الجديد الواقف على ذيله، كمعزِّبٍ نشط ، شمَّر عن ساعديه ؛احتفاء بخدمة ضيفه العزيز ، أخطأ موقع المِنسف، ولمست يدُهُ حصى وترابا ، كاد يتناولهما لقما سائغة لفيه ،وهو لا يشعر ، و اتَّسعت عيناه ، لمرأى العبد الأسود، القادم من اجديتا مع شيخه الرَّبَّاعي.

رفع (التحصل دار)والحضورُ أيديهم عن المأدبة، وصمتوا ، كأنَّ على رؤوسهم الطير ، ينتظرون اللحظة التي ينصرفُ عنهم هذا الضيف الواغل "المنسدح" بكبرياء أمامهم ، هذا الذي يرفعُ رأسه فقط ، ويضخُّ من شدقه ما شاء من شراب، على من شاء ، مما كان ملأه من شراب لهذه المَهمة الخطرة، التي أسندها إليه سيِّدهُ الرَّبَّاعي نسبا ،الرِّفاعيُّ طريقة ، والطريقة الرَّفاعية هي طريق جده الشيخ ربّاع قدس الله سره على ما هو مدوَّنٌ على شجرة النسب التي هي بحوزة العقيد المهندس جهاد بن بدر الدين بن الشيخ احمد الرّبَّاعي، قالوا عنه في أنفسهم :" هذا هو ثقيل الدم،لكنه ربما ينقذنا من إتاوات ممن هو أثقل منه دما ؟ "ويتساءلون أبخَّ الثعبانُ هذا سُمَّه بالشراب ؟ أنأكل من الزاد بعده ؟ نحن جياع ، هل يسمُّ نفثُه وبخُّهُ ؟ لماذا لا نتسمَّم إذن من ماء بئر، وقد شربنا منها كثيرا، وكانت تسبحُ فيه أفاع كثار؟ كنا نسقي شياهَنا من مائها فلا تتسمَّم ؟ هل السمُّ في نابه أم مما يضخُّه من شدقه ؟ أم أن كثرة الماء في البئر سبب رئيس،في أن لا يضرَّ السمُّ الشاربين من مائها ؟ أنحنُ في حُلُم ٍ ووهم، أم نحن في حقيقةٍ وعلم ؟

وأجمعوا على أن لا يأكلوا من المِنسف بعد الذي مجَّ فيه الثُّعبان ، من بركات ُسمِّهِ،ولعابه ما يزال فيه، إلا إذا أمرهم السيد الولي ،الشيخُ عبدُهُ بالأكل منه ، وتقولُ الرواية :"إنّ الشيخ أكل من المنسف، فتابعوه على مضض ، فهم ليسوا بأحسنَ منه حالا ، ولا أنقى منه اتصالا ، ولم يحدث لهم من شرٍّ يؤذيهم "،فخالد بن الوليد رضي الله عنه سمَّى اسم الله على سمٍّ وشربه ولم يضرَّه ، وان كان قد تصبَّب عرقا فحسب، كل ذلك كان لعناية الله بهم ، في السابقين واللاحقين ، أكلوا منه على الرغم مما رأوه من تضييفات الثعبان المقززة ،والمخيفة بآن واحد .

أمر الشيخُ عبده ( التحصل دار ) تخفيفَ الضرائب عن عباد الله ، وأن يوقفَ أرض الحاوي وبرقش لعشيرة الربابعة وقفا، لأنهم من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وسبق أن كان لهم في (جزل) بيسان أرض وقف، قبل العثمانيين ، وبتداعي المعاني ،والشيء بالشيء يذكر، أنّ الأب الثالث ل( كاتب هذه المقالة) المرحوم أحمد السعيد الرَّباع ابن الشيخ عبده مدار الحديث ،قد استشهد خطأ بطلقة خرطوش عشوائية ، من ابن عمه لزما في حقل ( الجزل) المزروع ،آنذاك ذرة ،كان القاتل والمقتول يحرسانه وقفا للربابعة ، فوافق (التحصل دار )على شروطه فورا ، وأشار الشيخ عبده للثعبان بالانصراف ،فانساب الثعبانُ من بينهم على بركة الله في البراري، لا يلوي على أحد.

أمَّا ارض الحاوي وبرقش فتقعان إلى الجهة الشمالية نحرا ،باتجاه 360 درجة مغناطيسية ، من اجديتا على مسافة أفقية تقدَّرُ بستة كيلومترات ، وما تزال أكثرُ هذه الأراضي ملكية لعشيرة الربابعة حتى اليوم ، وان كان بعضُها قدِّم مهرا لعرائس من عشائر أخرى، وظلَّ الأمر كذلك إلى أن قضى أمر ملكي حديث ،من نحو عشر سنوات مضت، استملاك كثير من أراضيهما ،لبناء قصر ملكي بالقرب من شجرة برقش ، وللسماح للغزلان بأن تسرح وتمرح في محميات الحاوي ، وقد صدر أمر ملكي جديد بشراء دويرات قديمة متداعية ، مهجورة في خربة الحاوي ، للكاتب منها بعض الخشيشات، ولغيره من بعض أقربائه نصيب مماثل ، منها مثلا لا حصرا ممتلكات للمرحوم الحاج علي الحسين الربابعة ،والد الدكتور احمد علي حسين الربابعة "أبي سيف " وشقيقه المرحوم الحاج احمد الحسين ، والمرحومين ابني عمهما صهرنا احمد إبراهيم احمد الرباعي ،ختن شقيقي سليمان ،أبي مصطفى ، والمرحوم سليم الإبراهيم الأحمد الربابعة، والمرحوم الحاج أبو نور محمد الصالح الربابعة، جار شجرة الحاوي التي ذكرناها في كتابنا المشترك "أسرة ناصر الباعوني العلمية دراسة في سيرهم وآثارهم " والمرحوم الحاج مصطفى محمد المرمش الذي عمَّره الله تعالى نحو مائة و خمسة عشرين عاما ، والمرحوم سليمان احمد المصلح الربابعة ، والمرحوم فالح محمد المصلح الربابعة، ولشاكر عبد القادر محمد الربابعة وأعمامه ، وصالح احمد مصطفى الربابعة ، شقيق الأستاذ شفيق احمد الربابعة ُ أستاذ الإعلام في جامعة اليرموك ، جارنا الخشَّة بالخشّة ، ولغيرهم ممن فاتني ذكرهم ، وللأمانة فانَّ هذه المساكن المتداعية لها معزة خاصة في نفوسنا، لو خيِّرنا ما بعناها ،لأنها مهاجعُ الآباء الصالحين، ومضاجع الأولياء ، ممن سجدوا لله عليها ،وعبدوه على ترابها ، لا تقايض بالدينار الأردني ، وان غلا، ولا بالدولار الأمريكي وإن سفُلَ نحو السقوط نزولا ، بعد احتلال العراق عام 2003م .

تزوَّج الشيخُ عبده قدس الله سره امرأة خطابية من عشيرة الخطاطبة من بلدة اجديتا ، ورزق منها بأربعة رجال وأنثى وحيدة في ما وصل إلينا من أخباره ، ويقال لذرته التي تعد اليوم بالآلاف "أبناء الميتة"، ويُعزى سبب التسمية إلى آن زوجته الخطَّابية ، دخلت في غيبوبة طويلة ، آو قيل توفيت فعلا ، فدنا منها الشيخ عبده وقرأ آيات من القرآن الكريم في أذنيها ، واستعان بالله العظيم الذي يجيب المضطر إذا دعاه فأفاقت وقال لها :" قومي بإذن الله لا بإذني ،لي منك ذرية صالحة بإذن الله "فانتهضت بإذن الله لوقتها، كأنما نشطت من عقال ،نهضت ؛ نشطة طائعة لله تعالى وزوجها ، ويبدو أنَّ الشيخ عبده صاحب الكرامات الكثار ، كان يحفظ اسم الله الأعظم ، الذي إذا دعا به ، استجيب طلبه،بالأمر الرباني المستكنِّ بين الكاف والنون ، وهذا شانٌ يعرفه بعض المتَّصلين بالله عزَّ وجلَّ ، فهو من معنى الحديث القدسي

أما اكبر أنجاله فيوسف ، وكنيته أبو يوسف ،ومن أبرز أحفاد أحفاده المعاصرين من بيته المسمى "بيت الشيخ حسن "الذين عاصرتُهم ، الشيخ حسن العلي المحمود ، ابن خال أبي ، وجدتي لأبي اسمها غزالة المحمود العلي الرباعي ، كان الشيخ حسن رحمه الله من قرَّاء القران ، وكان يروي لي ولمن يسأله ، وأحيانا لمن لا يسأله، انه يختم القرآن مرتين يوميا ، من مصحف كبير الخط ، فقلت له يوما يا سيدي عرفتَ فالزم ، لئلا تحسد ، فقال الأمر لله يفعل ما قضاه ، وربما كان يقصد أن يشجع السامعين على الإكثار من تلاوة القرآن الكريم ،لا التباهي ، فمثله لا يعرف الكبر ولا التباهي ، ولعله أراد أن يحثَّ على تلاوة القرآن ،إذ بكل حرف يتلوه منه عشر حسنات، وله في من اخذ بموعظته أجره ، من غير أن ينقص من احور غيره شيء، وقد عمَّره الله تعالى فوق ال( 120) عاما ،وتوفي قبل نحو عشر سنين من اليوم (2008م)، لم يصبه الخرف ، أكرمه الله تعالى بقوتي السمع و البصر ، فظل يقرا القرآن وهو فوق المائة والعشرين ، بعين واحدة، كان ذا لسان طلق ، سريع البديهة ؛على سنه العالية ، يلاطف الصغار ، ويلاين الكبار ، كان يقتني دفوفا ، وكاسات من أدوات دق العدة ، وكان صاحب محجان من لوز ، وكان يسكن في غرفة من طين ، وسقفها خشبي ومن قصيب ، وكانت الجلسة على فراشه الصوفي، من أمتع الجلسات التي نشعر معه فيها بالأنس ساعة نجالسه ، كان يكثر من ذكر الله ، وأحيانا يستحضر ، فينقرُ على الدُّفِّ ، ويُنشدُ مع نقراته عليه أماديح نبوية ،وعلى كاسات العدة حينا ، و بإيقاع يشنِّفُ الأذان ، ويزيل الرَّان عن أغلفة القلوب ، كانت تصيخ لها باهتمامٍ آذاننا ، وتدمعُ لها في كثير من الأحيان عيونُنا ،كان له بستان في الدلب من أراضي اجديتا وباعون المشتركة ، وكان يعزِّب في بستانه أحيانا ، على سنِّه التي تجاوزت المائة ، وكانت ترافقه زوجه الحاجة فضة المريعي من بني مفرِّج ، رحمها الله تعالى ، امرأة هادئة الأعصاب ، صبيحة الوجه،جثلة ،طويلة الجسم ، مدققة على لحيتها بوشم ، علامة زينة ،كأمي الحاجة مريم مفلح محمد السعيد الربّاع العبده ،"أم علي " ابنة عم أبي الحاج محمد علي الأحمد السعيد الربابعة ، رحمهم الله تعالى وأسكنهم وأموات المسلمين رياض جنانه.

كان يستشهدُ بزوجته فضه أحيانا ،لتصحيح ما رأتْهُ من كراماتٍ له، ويستحلفُها على صدقها ، للتذكر والعبرة ، وأحيانا كانت تروي لغيرها بعضَ كراماته دون أن علمه وأمره ، فقد روت الحاجة فضة أن زوجها الحاج حسن ، كان يقلِّم يوما إحدى أشجاره ب"فاروعة " فانصلّت شظية منها ،أصابت عينه ، فأغمضتها ،وورم وجهه ، فنصحته زوجه بالذهاب إلى المشفى في اربد ، فقال لها تمهلي يا فضة، ريثما أتوضأ واصلي لله ركعتين ،وصلَّى ، وأخذته سنة من النوم ، فتركته زوجته برهة ليستريح، وانتظرت يقظته ، بفارغ الصبر لمعالجته ، لكنه فجأة شبَّ من غفوته ، كأنه فتى في الرابعة عشرة من عمره، وهو ابن تسعين عاما ،يقول :"الله الله الله " ثلاث مرات ، وإذ بالورم قد اختفى ، وبعينه قد فُتحت ، والألم قد تلاشى، كأن لم يكن من قبل ،وبين غفوته وصحوته عدة دقائق فحسب ، فتعجبت امرأته فضة من حاله ، وكادت تكذِّبُ ما كانت رأته من حالته السابقة قبل دقائق ،فسألته بالله، عمَّ جرى له ؟ فقال لها :رأيتُ أني أدقَُّ العدة على ُدفٍّ في مقام سيدي الشيخ ربَّاع ، بحضرة الشيخ عبده قدَّس الله أسرارهم،وبينما أنا اضرب على ُدفِّ ذكر الله "ولذكرُ الله أكبر " أكرمني الله ببركات ذكره، فنهضتُ من نومتي على ما ترين أقول الله الله الله، ولا ادري يا فضة هل كنت في حلم أم في حضرة قدوس العلم ".

 لقد كنا نشهد مجموعة من أهل الولاية منهم الشيخ حسن مدار الحديث والشيخ عبده محمد الصالح من أهل بيته،وابن عمِّ أبي الشيخ محمد السعيد الأحمد الرباعي ، وغيرهم ، يحتفلون في الأعياد الدينية ، في أول يوم من عيدي الفطر والأضحى في مضافة عشيرة الربابعة ،تلك المضافة التي بناها رجل صالح يدعى ربَّاع قبل نحو

( 300 )عام ، مضافة لها ساحة ، كانت تتَّسع لنحو مائة شخص في داخلها وخارجها ،وفيها مناقل ، طعامها الفحم والخشب ، ودلاَّت القهوة تتسعّرُ على نار هادئة، تنتظر ضيوفَها على مثل حر الجمر التي تغلى عليها ، وفيها فرُشٌ وألحفة خُصِّصتْ للنوم ؛ للضيفان ولحرَّاسها ، وكان فيها أعلام لبعض الصالحين منهم، علم لسيدنا عبد القادر الكيلاني ولابن عمه الشيخ احمد الرِّفاعي ، وعلم لسيد العشيرة الشيخ ربّاع بن علي ، ولحفيديه الشيخ عبده ، وللشيخ محمد أبي ذابلة الرَّبَّاعي ، وللشيخ الحاوي احد أولياء الله ،قدس الله أسرارهم ، وكان العلم يتألف من سارية خشب لا اعرف نوعه ، يلتف بقطعة قماش من لون خاص يعرف به صاحبه ، ويكتب على قطعة القماش اسم صاحب العلم ، وفي رأس السارية هلال عليه لفظ الجلالة ، تتصل السارية بمثبت خشبي يوضع على بطن حامل العلم ، وتدق العدة ، وينادى على أصحاب الأعلام بنشيج ونحيب أحيانا، بعد أن يُذكرَ اسم ُالله ويصلَّى على نبيه الحبيب الشفيع ،وتحمّى المزاهر على نار هادئة ،وتحضَّرُ الكؤوس ، ويخصَّص لكل آلة َمنْ يتقن الضربَ عليها ، ويبدأ سيِّدُ الحضرة بالتشويق إلى لقاء الله والصالحين من عباده فيقول :

شرب الكأس طابي
لـيـنـا  يا المقادم
مـحـمـد  iiنـبينا
بـكـرة يشفع iiلينا



مـن خمر iiالأحباب
والأربـع  الأقطاب
سـاكـن  iiالـمدينا
فـي  يـوم iiالميعاد

وتُردَّدُ من البردة أبيات ، وعلى عصف موسيقي من كأس ومزهر ودُفٍّ ، وألحانٍ شجية من حناجر الصالحين ،يتحرَّك حملة الأعلام من المضافة باتجاه الجد الأكبر الشيخ ربَّاع ،يتقدَّمهم علما الشيخ عبد القادر الكيلاني ثم علم الرفاعي وأحيانا علم الشيخ احمد البدوي ثم علم الشيخ ربّاع ويتبعه علما حفيديه عبده ومحمد أبي ذابلة والحاوي ،يتحرَّكون بأعلامهم التي ترتفع وتنخفض مع ترديدات لا اله إلا الله محمد رسول الله ، إلى أن تصل إلى مقام كلِّ ولي ، منهم المخفي ، فيستراحُ عنده برهة من الوقت ،وتُدقُّ عددٌ من الطوابق عند كل ولي، فيها دلالات من واجبات زيارة الموتى التي تذكِّر بالموت كما في قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .وكان من حملة الأعلام على ما اذكره الشيخ مجلي احمد المجلي الربابعة ، رحمه الله تعالى ، وهو رجل من حفظة القرآن الكريم ،سميت المقبرة الجديدة باسمه، لأنه أول من دفن فيها قبل نحو تسع سنوات ،والمقبرة تقع جنوبي شرقي بلدة اجديتا ، في منطقة تسمى المشرّ،ُ ومن حملة الأعلام الحاج بدر الحامد العيسى رحمه الله تعالى ، ومنهم آخوه صادق ،والشيخ الولي بكر محمد الربابعة ، أما من نُقار الدفوف فالسيد علي محمد سليمان أبو صلاَّل ،"أبو جهاد " واحمد محمد السعيد ، رحمه الله تعالى ، و أما من متقني ضرب الكؤوس فالحاج عبده محمد الصالح رحمه الله حيث كان يلفَُّ حول نفسه عشرات المرات ، دون أن يُغمى عليه في حضرة الذكر ، و منهم الشيخ الولي طاهر محمد محمود، شقيق العقيد المتقاعد ، عصري محمد محمود الربابعة ، صديقي ورفيق دربي طالبا وتلميذا عسكريا منذ طفولتنا وحتى اليوم ، أطال الله بقاءهما،ونفع بهما .

 وبعضهم كان يحمِّي الدُّف ، ويقف عليه غير واحد فلا"ينفختُ " أي يهبط بهم ، وبعضُهم كان يوقد النار ويتربَّعُ فيها ومعه صف "فشك" ، فلا يؤذى ، وبعضهم كان يُضرب بالشيش، يدخل من خدٍّ ، ويخرجُ من الآخر، ثمَّ يُمسَحُ عليه فيعود كما كان ،ويبدو أنَّ هذه كانت قليلة التطبيق ، إلا في حالات ُتلتمس السخرية، من بعض الحضور، بعباد الله الذاكرين الله على طريقتهم ،فتظهر لهم كرامات ، ولم نكن نشعر بأنها سحر أو شعوذة .

 لقد حفزني ذات يوم ،سؤال إلى الحاج حسن عن توقيت دخولهم النار ، فقال يا بني ندخلها عندما نقرا عليها آيات منها :"يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " مرات ومرات حتى تخضرَّ ، وهي إشارة لنا لدخولها دون أذى ، كما حصل من قبل لسيدنا إبراهيم معجزة وهي للولي كرامة ، وإلا فمن هو المجنون الذي يعرض نفسه لنار الله الموقدة دون تحضير لها ، انه اسم الله الذي به تنكسر النواميس ،فتصبحُ النار علينا بردا وسلاما ، وما سيدنا إبراهيم إلا خير مثال .كان عند الشيخ حسن عدة دفوف ، يعلقها بمسامير ، على حيطان غرفته ، وكان يسمع أحيانا نقرة خفيفة او نقرتين ،عليها من غير أن ينقرهما احد ، فكان يفسِّرُها بوفاة رجل صالح او امراة صالحة من إفراد عشيرة الربابعة ، وكان ميقات الضربة ، يعيِّنُ له موعد الوفاة تقريبا ، ليستعدَّ لنقر الدفوف على الجثمان المرتقب بعد غسله وتكفينه ، و عليه أن لا يطيل غيبته إذا أراد السفر ، ورغب في حضور الجنازة ، وما زالت هذه العادة تطبق على كثير من أموات العشيرة ، إذ يدقون العدة على المتوفى من عشيرة الربابعة إلا إذا طلب أهله غير ذلك ، او بوصية منه .

لقد دأب الشيخ حسن رحمه الله على حضور العدة وإعدادها طيلة قرن بأكمله وربما يزيد ،وكان يحفظ مدحات الأقطاب المتدركين الأربعة قدس الله أسرارهم وهم الشيخ عبد القادر الكيلاني ، والشيخ أحمد الرفاعي ،والشيخ إبراهيم الدسوقي والشيخ احمد البدوي، كانت تبدأ تحضيرات العدة بعد إحماء المزاهر والدفوف بكلمة التوحيد لا اله إلا الله ، محمد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،ثم بمدحة سيدنا عبد القادر الكيلاني أبي صالح، قدس الله سره صاحب المقولة المشهورة :" قدمي على عنق كل ولي لله تعالى " لعلو منزلته من جهة ولأنه جد الشيخ ربَّاع من جهة أخرى ، فلا ينبغي أن يذكر الحفيد رباع قبل جده الولي الشيخ عبد القادر سلطان الرجال الأولياء لله ،وتنشد هذه الأبيات مجموعة او مجموعتان على إيقاع الكاسات والمزاهر والدفوف:

الله  الله الله iiيــاغــيـور
ابـتـدي بـمدح طاها iiسيدي
من  رسول الله بانت iiمعجزات
يا  رسول الله يا زاكي iiالنسب
قوموا ياهل الله شدوا وانهضوا




عبد القادر يا شديد العزم ايثور
يـا  رسولَ الله يا بدر iiالبدور
كـذبـوه القوم وادعاهم iiدثور
يا  سميح الوجه ياجعد iiالشعور
حضرة  المختار يدعونا iiنزور

ويبدؤون بمدح الشيخ رباع ، إما في المضافة أو عند زيارة قبره، ويذكرون من أحفاده وليين هما :الشيخ عبده أبو يوسف والشيخ محمد أبا ذابلة ، وفي النص فخر برسول الله جدنا صلى الله عليه وسلم وهو أصل الشجرة النورانية الشفيع الأوحد لبنيه وأمته بقولهم :

الله  الله الله يـا iiموجود
شـيء  لله يا بو موسى
شيخ عبده يا بو يوسف
أبـو  ذبـلة ربَّى iiاسود
جــدنـا رسـول iiالله
يـشـفع  لينا iiبالميزان
انـتم اجدادنا iiمنسوبون






شـيء  لـله يا iiربَّاعي
حـقـا  خلفت iiأسباعي
كـم عاص منكم iiطاعي
سـره  في الدنيا iiشاعي
يـوم  الـحشر iiشفاعي
تـحت رصيف iiاقلاعي
بـالانـسـاب iiالـمناع