(( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلاّم للعبيد ))

محمد شركي

من المعلوم أن الإنسان منذ وجد على سطح هذا الكوكب واعتقاده لا يخرج عن أحد أمرين : إيمان بالله عز وجل وباليوم الآخر أو كفر بهما ، وعلى أساس أحد هذين الاعتقادين  تكون  طريقة أو أسلوب خوضه غمار الحياة ، ذلك أن المؤمن بالله تعالى واليوم الآخر لديه قناعة راسخة بأنه مخلوق وأنه مسؤول ومحاسب أمام خالقه  بعد المشوار الذي يقطعه في حياته الأولى المنتهية والتي تفضي به إلى حياة أخرى أبدية ، بينما المنكر لله تعالى ولليوم الآخر تكون  قناعة أنه موجود ككل الموجودات ،و أنه إنما وجد صدفة أو عبثا ، وأن أمره ينتهي بنهاية حياته الأولى ، وقد تحدثته نفسه بأوهام الخلود الدنيوي الذي  يظن أنه حاصل في يوم من الأيام بسبب تطور العلم والمعرفة ،وبذلك  يقهر فناءه .

ومهما تكن مكابرة  وإصرار المنكر لله تعالى ولليوم الآخر، فإن هاجس وجودهما حقيقة يلاحقه  باستمرار ، ومن المؤكد أنه يواجه سؤالا  ملحا يطرحه على نفسه وهو : ماذا يكون مصيره  لو وجد يوم آخر يحاسب فيه أمام خالقه  ؟  وهذا يعني أنه يعيش اضطرابا نفسيا وعقليا بسبب قلق التردد بين إنكاره خالقه واليوم الآخر  و بين إلحاح هذا السؤال التي يقلقه على الدوام أو يقلقه بين الحين والآخر.

ومقابل القلق الذي يعيشه هذا المنكر أو الجاحد بالله تعالى وباليوم الآخر، يعيش المؤمن بهما طمأنينة نفسية وعقلية ، ولا تقلقه سوى  التفكير في صعوبة المساءلة والمحاسبة من خالقه يوم القيامة  إذا ما لقيه مقصرا فيما افترضه عليه .

ومعلوم أن مجرد الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر لا يكفي ليفوز الإنسان في الآخرة بالخلود في النعيم ، وبالنجاة من الجحيم بل لا بد له من أن يكسب في إيمانه خيرا مصداقا لقول الله تعالى : ((  هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانه لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )) .

وبمقتضى هذا النص القرآني لا اعتبار لعمل دون إيمان ، ولا اعتبار لإيمان دون عمل ، علما بأنه لا يذكر الإيمان في القرآن الكريم إلا مقترنا بالعمل الصالح ، فهما توأمان لا ينفكّان عن بعضهما.

ومعلوم أن الله تعالى يرغّب خلقه  في محكم التنزيل الإنسان في الإيمان، وفي كسب الخير فيه بطريقة تقنع عقولهم حيث جعل سبحانه وتعالى منفعة العمل الصالح الذي يعمله الإنسان وهو مؤمن به جل في علاه وبيوم المعاد إنما تعود عليه هو وحده   .

 والعاقل من الناس من يعي جيدا هذا الأمر، فينطلق من قناعة راسخة  مفادها أنه لا ينفع سوى نفسه بما يقوم به من صالح الأعمال ، وأنه في المقابل لا يضر إلا نفسه بما يقوم به من سيء الأعمال كما جاء في قول الله تعالى مرة في سورة  فصلت : (( من عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساء فعليها وما ربك بظلاّم للعبيد )) ومرة في سورة الجاثية : (( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون )) .

والغافل  من الناس من يعتقد أنه إن أحسن العمل عاد بالنفع على غيره ،وإن هو أساء ضرّ غيره . وغالبا ما يمر كثير من الناس بهذا الذي حذر منه الله تعالى وهم في غفلة  عنه دون تدبّره، فينفقون أعمارهم  وهم غافلون عن كونهم في هذه الحياة إنما يحسنون لأنفسهم إن أحسنوا ، ويسيئون إليها إن أساءوا .

ولعل التمثيل لذلك يكون أجدى وأنفع ، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر إنسانا مؤمنا استأمنه الله تعالى أمانة مهما كان نوعها ،فحملها كأحسن ما يكون الحمل ، فهو إنما بذلك  يخدم نفسه وينفعها ،وإن كان حمله لتلك الأمانة فيه منفعة غيره  ذلك أنه بقدر ما ينفع غيره فهو يحقق منفعة نفسه ، وعكس ذلك  أنه بقدر إساءته لغيره يسيء إليها .

 وغالبا ما يتحدث كثير من الناس عما يقدمونه لغيرهم من خدمة إما رغبة في سماع ثنائهم  والطرب له أو حبا في شهرة  يحلمون بها أوبدافع  مباهاة يرومونها ... أو غير ذلك مما تعشقه نفوسهم مما هو زائل  لكنهم يغفلون عن حقيقة أنهم إنما لأنفسهم يمهدون كما جاء في قوله تعالى : (( ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون)) .

والأكياس العقلاء من الناس هم الذين يتفانون في حمل الأمانات التي يقلّدونها  وهم على وعي تام  وقناعة راسخة بأنهم يفعلون ذلك من أجل نفع أنفسهم أولا قبل أن ينتفع من ذلك غيرهم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو الحدث الوطني الذي عرفته بلادنا  حيث تنافست الأحزاب السياسية من أجل الحصول على مقاعد في البرلمان أو في الجهات أو في الدوائر لتدبير الشأن العام تشريعا أو تنفيذا .

ولا يمكن ونحن في بلد مسلم يؤمن أهله بالله تعالى وبالمساءلة والمحاسبة بين يديه في اليوم الآخر ألا نذكر هؤلاء المتنافسين ولهم علينا حق النصح  أنهم لا يجب أن يغفلوا  طرفة عين عن كونهم  إما سيحسنون إلى أنفسهم بتقديم خير يجدونه عند ربهم أو أنهم سيسيئون إليها بتقصير أو بتفريط أو بإهمال... وهم يشرعون أو يدبّرون أويسيّرون.

ورب متنافس من هؤلاء  أطربه الفرح بفوز لم  يسلك إليه سبيله المشروع ، وهو لا يبالي بأن نفسه هي أول متضرر بذلك . ورب متنافس قد خسر الرهان للحصول على ذلك المقعد وهو نادم على أنه لم يسلك ما سلك غيره من سبل غير مشروعة  من أجل الظفر به  ، وقد حزّ ذلك في نفسه ، وهو لا يدري أنه إنما نجاه الله تعالى بذلك من الإساءة إلى نفسه، والجاهل  الخاسر من يفعل بنفسه ما يفعله عاقل بعدوه كما يقال .  

ولا يوجد فائز بمقعد من تلك المقاعد المتنافس عليها إلا وهو مقبل على مغامرة قد تكون وخيمة العواقب إن كان فوزه غير مستحق أو كان دون مستوى المسؤولية التي يقتضيها شغل ذلك المقعد ،لأنه سيعرض نفسه للإساءة ، وبئست الإساءة إليها يوم العرض على الله عز وجل للمساءلة والمحاسبة عملا بقانون الله تعالى : (( ومن أساء فعليها وما ربك بظلاّم للعبيد )) .

 ومثل هذا أيضا الذي ضاع منه المقعد الذي كان حازه من قبل، ولم يؤد واجبه على الوجه الأكمل ،ولم تبق  أمامه  فسحة عمر، ولا لديه فرصة استدراك يستدرك بها ما فرط فيه من أمر أمانة قلّده الله تعالى إياها، وهو يواجه بذلك مصيرا مشئوما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة ".

وهذا الحديث كقول الله تعالى السابق ، يؤكد أن من غشّ غيره، فإنه في الحقيقة غاش لنفسه ،لأن وعد الله الناجز هو ما جاء في قوله تعالى : (( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا )) ، وهذا يدل على أن ما يقدمه الإنسان إنما يكون خصيصا لنفسه ، فطوبى لمن قدم لها ما يسرّها ، ويا خسارة من قدم لها ما يسوءها، وهو ظالم مبين لها بين يدي رب عظيم ليس بظلاّم للعبيد .

اللهم إنا نسألك الإحسان إلى أنفسنا ، ونعوذ بك من الإساءة إليها . اللهم أرنا الإحسان إحسانا ووفقنا إليه ، وأرنا الإساءة إساءة وباعد بيننا وبينها رأفة ورحمة منك بنا يا أرحم الراحمين ،ويا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .