أثَر الهجرة في التاريخ

د. مصطفى السباعي

[ من مقال للدكتور مصطفى السباعي، في افتتاحية العدد العاشر من مجلة حضارة الإسلام،   ذو الحجة 1384هـ ]

إن عامنا الجديد يذكرنا بحادث الهجرة التي أُرِّخ بها تاريخ الإسلام. والهجرة نتيجة جهود مضنية قام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتحويل العرب عن وثنيتهم وأصنامهم وجاهليتهم إلى حياة الإسلام الخيّرة المباركة التي أحْيَتْهم من جديد وأدخلتهم میدان الخلود.

لقد هاجر سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه الصديق الأكبر رضوان الله عليه، بعد أن أجمعت قريش على قتله تخلصاً من دعوته، وبعد أن أصبح للإسلام دار وأنصار، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سراً من بيته، وقد خلّف في فراشه ابن عمه عليّاً البطل الفتى المؤمن، وسار وصاحبه أبو بكر حتى دخلا غار ثور وأقاما فيه أياماً مُستخْفيين عن أعين قريش التي صعقت لإفلات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يدها، وبثت الأعين والرقباء في كل مكان يتبعون أثره، ولكن الله الذي أراد بالإسلام أن يهدي الناس حفظ رسوله وصاحبه من كيد أعدائهما ووصلا سالمين إلى المدينة. واستقر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها وبدأ يبني فيها أسس دولة الإسلام.

إذاً فليست الهجرة حدثاً عادياً كان الباعث عليها الحرص على الحياة، أو الرغبة في المال والحياة. لم تكن الهجرة فراراً من جهاد ولا تخلفاً عن رسالة، ولا تقاعساً عن واجب، بل كانت استئنافاً لجهاد جدید وتضحية من نوع جديد، بعد أن استنفد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل وسائل التضحيات قبلها، فكانت الهجرة بدء مرحلة جديدة، وانعطاف جديد خطير في تاريخ الإنسانية، فلولا الهجرة - ولو تمكن الوثنيون من وأد الدعوة في مهدها والقضاء على رسولها - لظلت جزيرة العرب حتى اليوم وثنية تعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولظل العرب على هامش الحياة لا تَحفِلُ بهم أمة، ولا يذكرهم تاريخ، ولظلوا أشتاتاً متفرقين. منهم من يخضعون للفرس يقاتلون في سبيل أمجاد کسری وأطماعه، ومنهم من يخضعون للروم يقاتلون إخوانهم أولئك في سبيل أمجاد قیصر وأطماعه.

لولا الهجرة بعد ذلك لما قامت دولة الخلفاء الراشدين، ثم حضارة الأمويين والعباسيين.

ولولا الهجرة لما كانت حضارة الإسلام الرائعة في الأندلس، التي انبعثت منها أوروبا من غفلتها في القرون الوسطى وقد كانت يومئذ من أحط الشعوب.

لولا الهجرة لما كانت لنا بغداد ودمشق - وإن كانت موجودة من قبل - والقاهرة وقرطبة والزهراء، وبخاری وسمرقند والآستانة والقيروان.

ولولا الهجرة لما كانت لنا القادسية واليرموك وبدر وأحد وحطين.

ولولا الهجرة لما كان لنا أبطال في الحكم كأبي بكر، وأبطال في السياسة كعمر، وأبطال في الحروب كخالد وعمرو وصلاح الدين.

تلك هي الهجرة - أيها الناس - وذلك هو أنزر اليسير من فضائلها وآثارها، فلنذكرها جيداً في بدر عامنا الجديد.

اذكروها یا شباب، واذكروها یا فتيات، واذكروها یا شیوخ، فكل هؤلاء من أمثالكم أسهموا في وقائعها وأمجادها.

اذكروها لتذكروا الفداء والتضحية والتعب في سبيل الحق والخير حتى نرجع كما كنا خير أمة أخرجت للناس.

اذكروها لتعرفوا فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علينا وفضل صحابته الذين جاهدوا معه في الله حق جهاده، حتى أصبحنا نعبد الله وحده لا شريك له، ونحمل خير رسالة أنزلت للناس، وإن لها علينا اليوم حقاً كما كان لها على سلفنا الصالح من حق. فهل نقوم بهذا الحق كما قاموا، وهل نعمل لخير أمتنا والعالم كما عملوا لنلحق بهم في الخالدين ونكون عند الله من السعداء الموفّقين؟!.