حركة التاريخ بين النسبي والمطلق "في رسائل النور"(7)

أديب إبراهيم الدباغ

حركة التاريخ بين النسبي والمطلق

"في رسائل النور"(7)

بقلم: أديب الدباغ

التاريخ.. والواجب

انتهينا من خاتمة المقطع السابق إلى رأي "النورسي" في "الحدث التاريخي"... حيث خلص إلى القول بأن "يد الإنسان" و "يد القدر" تعملان معاً في بناء "الحدث" ومن ثمة تصعيده فوق قمة الأحداث، ثم دفعه من هناك ليأخذ مكانه وحجمه المناسبين في تاريخ الأمة المعنية.

وإذا كانت مقاصد "الإنسان" وغاياته من "الحدث" ظاهرة بينة – في الأعم الأغلب – غير أن مقاصد "القدر" وغاياته من وراء عمله تظل غامضة وغير مفهومة لدينا، وقد لا يتهيأ لنا إدراك بعض هذه المقاصد والغايات إلا بعد انقضاء زمن بعيد على وقوع الحدث.

ومعلوم أن دوافع "بطل الحدث" إلى ممارسة "الفعل التاريخي" تختلف باختلاف العقائد والمبادئ التي يعتقدها ويؤمن بها.

وعن ذلك فإن قاسماً مشتركاً أعظم يطوي تحت جناحيه "الأحداث التاريخية" – بغض النظر عن حكمنا الأخلاقي عليها – وهذا القاسم المشترك الأعظم إنما هو حافز الواجب كما يراه "البطل" المعني بمنظار معتقداته، وكما يحس به في لحظة من التوتر الروحي والقلق النفسي إزاء جملة من تحديات المرحلة الزمنية التي يعاصرها ويعيش تردياتها وانهياراتها..

وهكذا تغدو إلهامات "الواجب" وحوافزه عامل دفع البطل إلى قلب "الحدث" لتحريكه في الاتجاه الذي يؤمن به ويعتقده.

ولئن كانت الحضارات هي روح التاريخ البشري، وعصارة حياته،.. فإن "الواجب" – كما رأينا – هو روح الحضارات ونسغ حياتها الذي يغدو شجرتها بأسباب النماء والبقاء.

فلن تقوم لأمة قائمة حضارية مرموقة ما لم يشكل "الواجب" محور حياتها وأساس وجودها، ومحرك نشاطها ومضطربها.

وما الدين – الذي هو منبع كل حضارات الإنسان – إلا مدرسة تتعلم فيها الشعوب قدسية "الواجب" وتعتاد العيش به وله، وتمارس في يومها وليلها المران عليه.

فالواجب من أجل الواجب – صغيراً كان هذا الواجب أو كبيراً ومجرداً من أية منافع مادية أو معنوية – هو واحد من مقاصد "الدين" الذي يريدنا أن نسمو إليه، ونرتقي بإرادتنا نحوه.

فالواجبات أو الفرائض، تلزم المسلم حسب تسلسل أهميتها... وأسبق هذه الواجبات وأعظمها في الأهمية، إنما هو معرفة "الواجب الوجود" سبحانه وتعالى، ثم تليها متتابعة الواجبات والفرائض الأخرى.

ولأمر ما تواضع علماء الكلام والمناطقة المسلمون على اسم "الواجب الوجود"، الذي يُوجب الوجود، فلا وجود إلا منه، فهو علة العلل، ولا علة له، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

بديهي أن "الموجودات" جميعها "ممكنة" و "محدثة" أي معلولة – وإن على إمكانها وحدوثها إنما هو "الواجب الوجود".

ولا يخفى أن "الأحداث التاريخية" معلولة أيضاً وعلة انبعاثها على مسرح الأحداث إنما هو "الواجب" الذي يراه بطل الحدث ويؤمن به ويحس إزاءه بالالتزام والمسؤولية التاريخية، فهو إذن المحرك الأساس لإرادات "الفعل التاريخي" فيه، والدافع الأول لتشكيله واقعاً قائماً في حياة أمته وحضارته.

فالواجب من أجل "الواجب" هو واحد من قمم الارتقاء الإيماني الذي رسمه الإسلام للمسلم، ومَعلم من معالم "المطلق" الذي يستحث المسلمين ويحفزهم لتجربة النهوض إليه والسعي من أجله.

ومن يستعرض التاريخ يجد أن عظماءه وأبطاله في شتى مجالات العظمة ومناحي البطولة، إنما هم أولئك الذين عاشوا للواجب من أجل "الواجب" دون أن ينظروا إلى جلب منفعة أو دفع ضرر، وربما دفع الكثير منهم حياته رخيصة في سبيل هذا الواجب الذي كرسوا وجودهم كله له.

فصرخة ملتاعة كصرخة "رابعة العدوية" – وأمثالها كثير من عمالقة الإيمان – في جوف الليل:

"إلهي: ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وإنما عبدتك لأنك أهل لذاك".

ما هي إلا محاولة للتحقق بالواجب من أجل الواجب ليس إلا. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:

"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فله بذلك أجر"(16).

أي فليؤد واجبه ولا ينكص على عقبيه متعللاً بقيام القيامة وبلا جدوى عمله.

وكم من رجل قضى نحبه وهو يؤدي واجبه حتى آخر نفس من أنفاسه، دون أن يثنيه عن ذلك إحساسه بقرب أجله، كذلك النحوي الكبير الذي يهمس متحسراً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: أموت وفي نفسي شيء من "حتى" أي شي من إعرابات "حتى" التي لم ينته فيها إلى رأي قاطع.

*  *  *

فلا أرى وصفاً غير وصف "رجل الواجب الصعب" أكثر ملاءمة "للنورسي" وأشد انطباقاً عليه، وأعظم التصاقاً به، وأسرع وصولاً إلى معرفته وسبر غوره، وفهم أعماله الفكرية والإيمانية.

فهو بحق "رجل الواجب" الذي عاش له وكرس فكره ووجوده من أجله، وكان يرى في أداء "الواجب الإيماني" غاية ما بعدها غاية، ولم يكن ليفكر بما يمكن أن يأتي به هذا "الواجب" من مردودات، بل ترك أمرك ذلك للقدر.

وها نحن نستعرض – فيما يأتي – رأيه بهذا الخصوص كما جاء في أحد توجيهاته إلى طلبته حيث يقول – رحمه الله –:

(إخواني: إن وظيفتنا هي خدمة الإيمان والقرآن الكريم بإخلاص تام، أما توفيقنا ونجاحنا في العمل، وإقبال الناس إلينا، وصد المعارضين عنا، فهو موكول إلى الله سبحانه، فنحن لا نتدخل في هذه الأمور. وحتى لو غلبنا فلا ينقصنا هذا شيئاً من قوتنا المعنوية ولا يقعدنا عن خدمتها، فعلينا بالثقة والاطمئنان والقناعة انطلاقاً من هذه النقطة، وموقفنا هذا يشبه موقف خوارزم شاه – أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيزخان انتصارات عديدة – فقد كان – يوماً يتقدم جيشه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه:

سيظهرك الله على عدوك، وستنتصر عليه!

فأجابهم:

"إن ما علي هو الجهاد في سبيل الله اتباعاً لأمره سبحانه، ولا حق لي فيما لم أكلف به من شؤونه، فالنصر والهزيمة إنما هو من تقديره هو سبحانه".

وأنا أقول مقتدياً بذلك البطل:

إن وظيفتي هي خدمة الإيمان، أما قبول الناس للإيمان والرضى به، فهذا أمر موكول إلى الله.

فأنا علي أن أؤدي ما علي من واجب، ولا أتدخل فيما هو من شؤونه سبحانه)(17).

         

الهوامش:

(16) ذكره علي بن العزيز في المنتخب بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه (عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني – باب الحرث والزراعة). ورواه الإمام أحمد في مسنده 3/184، 191 والبخاري في الأدب المفرد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 3/30.

(17) ذكريات عن سعيد النورسي /ص87 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي – مطبعة الحوادث – بغداد – 1986.