الدعاء من أهم معالم دعوة النور

أديب إبراهيم الدباغ

الدعاء من أهم معالم دعوة النور

أديب إبراهيم الدباغ

لقد عاشت دعوة "النورسي" في أجواء قدسية من الحضور الإلهي الدائم، ونَمَتْ وكبرتْ في آفاق عالية تحت ظِلٍّ من سحائب الأدعية والتضرعات النورسية المستديمة، فأدراك حقيقة "الطينة البشرية" من حيث كونها مزيجاً من الفقر المطلق، والعجز المطلق، هو الذي يدفع بها في اتجاه اللجوء إلى الغنى الإلهي المطلق، والقدرة الربّانية المطلقة، وهذا هو سِرُّ ما تفتّق عنه وجدان "النورسي" من أدعية وتضرعات شكّلتْ واحداً من أهم معالم دعوته، فالألوف من القناديل اشتعلت في ليالي القلوب حين مَسَّنْها بعض قبسات هذه الأدعية، وأَمّا نُوَّامُ الهِمَمِ فقاموا مسرعين ينفضون عن أهدابهم أثقال سنينَ من السُباتِ المقيت، وأما فجرُ اليقين فسرعانَ ما أضاء غاشيات الشكوك والأوهام، وبدّدَ ما كان يتلاطم في أجواف تلامذته من دياجير الغفلة، وفي رحيق روحه غسل كثيرٌ من الناس مراراتِ نفوسهم، ولم تكن روحه هي وحدها التي طلبت العلوَ فوق الأكوان، بل كُلُّ قطرةٍ من دَمِهِ كانت تشتهي أنْ تعلوَ مع الدّعاء إلى ما عَلَتْ إليه روحه.

إنَّ حشداً هائلاً من رَميم الكلام لا يمكنه أن يقيم قلباً مُعْوَجاً مائلاً للانهدام، أو أنْ يبني روحاً خَرِباً يسكنه الظلام، ولكنّ كلمة دعاء حارّة مخلصة يمكنها أن تفعل المعجزات، فتقيم المعوجات، وتَعْمُرُ الخرائب.إنّ هذا الشعور الدائم بالمعية الإلهية، والأقربية الرحمانية، دفع "النورسي" إلى الاستغناء والاستعلاء على أي مصدر بشرىٍّ من مصادر الأمداد والتأييد، وظلَّ طوال حياته المباركة متعلقاً بالله يستمدُّ منه العونَ والمدد والتسديد، وهذا هو سبب تفَرُّدِ دعوته منهجاً وسلوكاً بين الدعوات.فأدعيته وضراعاته، لها طابعها الدعوي الاستدلالي على وجوده تعالى، وعلى واحديته وأحديته، وحاجة كل موجود إليه سبحانه وتعالى وكما نرى في المناجاة الآتية:

"اعلم: أنَّ قلبي قد يبكي من خلال أنيناته العربية بكاءً تركياً، بتهييج المحيط الحزين، فاكتبُ كما بَكَيْتُ:

 "لا أريد من كان زائلاً لا أريد

أنا فانٍ، مَنْ كان فانياً لا أريد، أنا عاجزٌ، من كان عاجزاً لا أريد

 سلّمت روحي للرحمن، سواه لا أريد

بل أريد،

 حبيباً باقياً أريد.

أنا ذرة شمساً سرمداً أريد.

أنا لا شيء ومن غير شيء، الموجودات كلها أريد.

*     *     *

لا تدعني إلى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

إذ لما حجبت الغفلة أنوار الحق،

رأيت الأشياء والدنيا أعداءً ضارين.

ذقت اللذائذ، ولكن وجدت الألم في زواله.

أما الوجود، فقد لبسته،

آه لا تسل كم عانيت من الألم في العدم.

إن قلت الحياة، فقد رأيتها عذاباً في عذاب.

نعم، لما استتر نور الحق عني،

إذا بالعقل يتحول عقاباً، ورأيت البقاء بلاء، والكمال هباء،

والعمر ذهب أدراج الرياح.

نعم!

بدونه، انقلبت العلوم أوهاماً.

وأصبحت الحكم اسقاماً، والانوار ظلمات، والأحياء أمواتاً،

والأشياء أعداء.

ولمست الضر في كل شيء.

والآمال انقلبت آلاماً.

والوجود هو العدم بعينه. وصار الوصال زوالاً.

والألم يعصرنى مما لا بقاء فيه.

نعم! إن لم تجد الله فالأشياء كلها تعاديك؛

أذى في أذى، بل هو عين الأذى.

وان وجدت الله،

فلن تجده إلاّ في ترك الأشياء.

فرأيت بذلك النور: الجنة في الدنيا،

وبدت الأموات أحياء.

ورأيت الأصوات أذكاراً و تسابيح.

والأشياء مؤنسة، واللذائذ في الآلام نفسها.

والحياة أصبحت مرآة تعكس أنوار الحق.

والبقاء رأيته في الفناء.

والذرات تلهج بالذكر.

يقطُر من ألسنتها وتتفجر من عيونها؛

شهدُ شهادة الحق" [1].

 


 


[1]  المثنوي  العربي النوري ص 289- 290