يومياتي في أمريكا-41

أ.د/ جابر قميحة

يومياتي في أمريكا

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

الحلقة ( 41)

أحاديث عن مصر وأمريكا والبعث من الموت

الخميس 16 سبتمبر 1982

 سألتني الأمريكية "موناكو" التي تعمل مدرسة في

 NEW HAVEN PUBLIC SCHOOLS ( Adult Basic Education )

سألتني عن المشكلات التى يعاني منها وطني . فكان جوابي : إن مشكلة وطني ... وكل الأوطان الشرقية بصفة عامة هي فقدان الحرية ... الحرية بمفهومها الشامل ... حرية التفكير ... وحرية التعبير .الحرية التي تغزل فيها شاعر القطرين خليل مطران بقوله :

حُييتِ خير تحية             يا أخت شمس البرية

حييت يا حرية

الشمس للأشباح             وأنتِ للأرواح

كالشمس يا حرية

أنت النعيمُ وأحلى            أنت الحياة وأغلى

للخلق يا حرية

شارفتنا فانتعشنا            وفي ظلالك عشنا

بالعدل يا حرية

كوني لنا عهد سعد  وعصر فخر ومجد

يدوم يا حرية

 *************

 وحينما نقول " الحرية " نقصد الحرية بمفهومها الإنساني الشامل ، بعيدا عن الفوضوية ، والعدوان على القيم الإنسانية ، فهي حرية لها ضوابط من القيم الخلقية والاعتبارات الإنسانية .

 ولكننا للأسف الأسيف نجد الفكر الحر محجورا عليه . والكلمة الحرة مخنوقة ، والصحافة ذات الإمكانات الواسعة هي صحافة الحكومة ... إنها نشرات تسبح بحمد الحكومة ... بلا نقد ، ولا توجيه .

 وهنا دخل في الخط طالب روسي  أو من أصل روسي  بنكتة مؤداها : أن أمريكا وروسيا يتباهى كل منهما بالحرية الممنوحة للمواطنين . قال الأمريكي : في أمريكا يستطيع الأمريكي أن يقف في أكبر ميدان ، ويهتف بسقوط ريجان ، دون أن يتعرض له أحد . فرد عليه الروسي قائلا : ونفس الحال عندنا إذ يستطيع الروسي أن يقف في أوسع ميدان في موسكو ويهتف بسقوط ريجان ، دون أن يتعرض له أحد .

 إنها نكتة لطيفة وإن كانت قديمة.

**********

 سألتني المدرسة " موناكو" عن السياسة الأمريكية ، وعن الفروق التى أراها بين "سياسات " الرؤساء الأمريكين فكان جوابي : خير ما رأيت في أمريكا حقيقة هو الحرية من ناحية ، وحيادية أجهزة الإعلام من ناحية أخرى ... فيستطيع كل إنسان أن يقول ويكتب ما يشاء .

 ومازلت أذكر ليلة أن كان الرئيس ريجان في حفل تكريم ، واستقبلته المظاهرات المعارضة ، وهي تحمل اللافتات التى كتب عليها عبارات تدور كلها حول النقد المر لسياسته ، وكانت كاميرا التليفزيون تنقل فقرة من الحفل أو خطاب ريجان . ثم تعرض لقطات من المظاهرة خارج المبنى ، وهي التي تحمل لافتات فيها هتاف بسقوطه ، وبعض المذيعين يجري حديثا مع واحد من الذين يعارضون سياسة ريجان .

**********

 أما رأيي في مدى الاختلاف بين سياسة الرؤساء الأمريكين ، فإني أرى أنها اختلافات في التفصيلات ، وليست اختلافات في الخطوط الرئيسية . وبخاصة السياسة الخارجية . وقد عاصرت من هؤلاء الرؤساء : ترومان ، وإيزنهاور ، وكنيدي ، ونيكسون ، وفورد ، وكارتر ، ثم ريجان ... لا فروق جوهرية بينهم في السياسة الخارجية ، فكلهم يناصر إسرائيل ، ويعادي العرب والإسلام ، وإذا كان هناك اختلاف ، فهو في الدرجة لا في النوع .

 ثم إننا إذا أردنا أن نفاضل بينهم ، فيجب ألا نعتمد على البرنامج الذي يقدمه كل واحد منهم ، بل على مدى التنفيذ ، والالتزام به . لأن كل إنسان يستطيع أن يضع من البرامج ما يشاء ، ولكن قلة قليلة هي التى تستطيع أن تأخذ نفسها بما وضعت ، وتنفذ ما أعلنت عنه سابقا ... كله ... أو أغلبه . فالتنفيذ يجب أن يكون هو معيار المفاضلة وليس التخطيط .

 ***********

 وفي مناقشة مع الروسي كان هناك حوار غريب ، أثاره حديثي عن الإيمان ، والصلة بالله والبعث للحساب ... الخ . فوجدت على وجهه أمارات الاستغراب . فسألته هل تؤمن بحياة آخرى بعد هذه الحياة ؟ أى هل تؤمن بالبعث بعد الموت ؟ فكانت إجابته الفورية : إنني أومن بأن الموت هو نهاية كل حي ، وليس هناك بعث ولا روح ولا عالم آخر ، قلت له بل هناك روح ... وبعث ... ويوم أخر لعدة أسباب أهمها :

1- أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بذلك ؟ ولابد أن نسلم بما قاله عز وجل ، فقوله الصدق الذي لا يشك فيه .

2- إنكار البعث والعالم الآخر يعد تحقيرا للإنسان الذي هو أرقى الكائنات . لأنه  من وجهة نظر الملاحدة  يكون شأنه شأن الحيوانات والحشرات .

3- والبعث ووجود عالم آخر موجود في تصور بشر لم يتلقوا رسالة الأنبياء ، كما نرى عند قدماء المصريين ... فهي ضرورة فطرية ... فكرة في أعماق أرقى المخلوقات ، بحيث يجد الأنسان راحة نفسية في أن يتصورها ، أو يتخيلها .

4- والإيمان بوجود بعث وعالم آخر يغذي أشواق الإنسان في أن يلتقي بأحبابه الذين سبقوه ، وهي فكرة غالبا ما تكون من أسرار استقرار الشعوب المؤمنة ، إذ أنها تؤمن بأن هناك بعثا ، وحسابا .

 وللأسف لم يسمح الوقت باستكمال المناقشة . وصاحبي هذا ظهر أنه يهودي ، ولكنه غير متدين ، فليس له من اليهودية إلا الاسم فقط ، كما أنه اشتهر بين إخوانه بصفة الاستهانة بالقيم ، وإن كان ذلك كلاما لا سلوكا .

 هداه الله ، وأنار بصيرته .

الخميس 16 سبتمبر 1982

قطرات نفس

من تراث الامام البنا ''التجرد لله تعالى''

 الناس رجلان: رجل يعمل ما يعمل من الخير ، أو يقول ما يقول من الحق ، وهو يبتغى بذلك الأجر العاجل ، والمثوبة الحاضرة ، من مال يجمع ، أو ذكر يرفع ، أو جاه يعرض ويطول ، أو لقب ومظهر يصول به ويجول: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).

ورجل يعمل ما يعمل ويقول ما يقول لأنه يحب الخير لذاته ، ويحترم الحق لذاته كذلك ، ويعلم أن الدنيا لا يستقيم أمرها إلا بالحق والخير ، وأن الإنسان لا تستقيم إنسانيته كذلك إلا إذا رصد نفسه للحق والخير: (وَالْعَصْرِ , إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ , إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:1-3) ، ولأنه يحب الله ويخشاه ويرجوه ، ويقدر نعمته  عليه في الوجود والقدرة والإرادة والعلم وسائر ما منحه إياه ، ففضله بذلك على كثير ممن خلق تفضيلا ، وهو يعلم أن الله قد أمر بالخير فقال: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج:77) ، وأوصى بالثبات على الحق ، فقال: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79) ، فهو لهذا يرجو ما عند الله ، ويبتغى بقوله وعمله مرضاته وحده.

 وقد يرتقى به هذا الشعور فيرى أن كل ما سوى الله باطل ، وكل ما عداه زائل ، فمن وجده فقد وجد كل شيء ، ومن فقد شعوره بربه فقدْ فقد كل شيء: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد:3) , فهو لهذا لا يرى أحدا غيره حتى يولى إليه وجهه ، أو يصرف نحوه حقه وخيره: (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50) , (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (لنجم:42) , أو لأنه يعلم أن هذه الدنيا فانية زائلة ، وكل ما فيها عرض حقير ، وخطر يسير ، من ورائه حساب عسير ، وأن الآخرة هي دار القرار ، فهو يزهد كل الزهادة في الجزاء في هذه الدنيا ، ويرجوه في الأخرى.

 فالمال إلى ضياع وورثة ، والجاه إلى تقلص ونسيان ، والعمر إلى نفاد وانقضاء مهما طال: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) (النحل:96) ، (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17) ، وهو يرجو المثوبة نعيما في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولثك رفيقا.

 ومن الناس قسم ثالث يود أن يأخذ من هذه وتلك ، وقلما يستقيم له الأمر ، فهما ضرتان إن أرضيت أحداهما أغضبت الأخرى ، وكفتا ميزان إن رجحت واحدة شالت واحدة. على أن المقطوع به أن من أراد الدنيا وحدها خسر الآخرة ، ومن أراد الآخرة حازهما معا ، وصح له النجاح فيهما جميعا ، ومن خلط بينهما كان على خطر عظيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً , وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:18-19).

ومن هنا آثر الصالحون من عباد الله في كل زمان ومكان أن يتجردوا للغايات العليا ، ويصرفوا نياتهم ومقاصدهم وأعمالهم وأقوالهم إلى الله جل وعلا ، متجردين لذلك من كل غاية ، متخلصين من كل شهوة: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة:5).

 ومن هنا قرأنا في تاريخنا قصة ذلك الذي عثر على حُق من الجوهر الغالي الثمين في القادسية ، فقدمه إلى الأمير طائعا ، فعجب من أمانته وقال: (إن رجلا يتقدم بمثل هذا لأمين , ما اسمك؟ حتى أكتب به إلى أمير المؤمنين فيجزل عطاءك ، وينبه اسمك) فقال الرجل: (لو أردت وجه أمير المؤمنين ما جئت بهذا ، وما وصل علمه إليك ولا إليه ، ولكن أردت وجه الله الذي يعلم السر وأخفى ، وحسبي علمه ومثوبته). وانصرف ولم يذكر اسمه، وآثر ما عند الله على ما عند الناس.

 وأمثال ذلك كثير في تاريخنا الزاخر بمعاني التجرد للخير والحق والعمل الصالح ابتغاء مرضاة الله , فهل تستقيم الأمور على هذا النهج القويم ؟ ...... اللهم آمين