شهر في ألمانيا

د. عبد الحكيم الأنيس

ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها مرَّ علينا في ألمانيا شهرٌ كاملٌ...سبحان الله

ما أسرع اﻷيامَ في طيِّنا

تمضي علينا ثم تمضي بنا

في كلّ يومٍ أملٌ قد نأى

مرامُه عن أجلٍ قد دنا

أنذرنا الدهرُ وما نرعوي

كأنما الدهرُ سوانا عنى[1]

شهرٌ في ألمانيا... وكنتُ دُعِيتُ إلى ندوةٍ علميةٍ في "فرانكفورت" قبل سنوات فأجبتُ، ثم انصرفَ قلبي عنها فاعتذرتُ، واﻵن أركبُ الجوَّ إليها قسرًا، وأنزلُ في "فرانكفورت"...

ومنها نمضي إلى "توبنغن" مُرورًا بـ "شتوتغارت"...

شهرٌ رأينا فيه مناظرَ جديدة، واطّلعنا على أشياء مفيدة، وعشنا آمالًا رجونا أنْ تكون سعيدة...

أصلِّي الجمعة وأشتاقُ إلى مسجدي ومنبري...

وأَرى الغابات فأحنُّ إلى بساتين النخيل في بلاد العرب...

ويعيينا البحثُ عن سكنٍ فأتذكرُ ما عانيتُه في دبي أول عهدي بها حتى كتبتُ: (المشقة في البحث عن شقة).

وكنتُ أظنُّ السكن هناك غالي الكراء، وإذا الشقة هنا بـ (2500) يورو في الشهر!

تُثيرُ فيَّ المشاهدُ مناظرَ مطبوعةً في الذاكرة:

أَرى الطريقَ المرصوفَ بالحجارة فأستذكرُ حارتَنا القديمة التي وُلِدتُ ونشأتُ فيها...

وأَتصوَّر قنطرةَ بابها التي كنّا إذا تجاوزناها لم يَتجاوزها همُّنا، ولم يكن لنا وراءَها غاية.

وأَرى الدخانَ يعلو مِنْ فوهة في أعالي البيوت فأستذكرُ ليالي الشتاء في مدينتنا...

وسلامٌ عليكِ يا مدينتنا

ومساكِ اللهُ بالخيرِ والصونِ

وسلَّمَ بقاياكِ

ولملمَ جراحَكِ...

وأَرى عصفورًا منفردًا في أغصانٍ عاريةٍ يصفر، ويقول لي ولدي زيد: أهو يسبِّح أم ينادي أصدقاءه؟ ثم يُضيف: ولكنه ألماني...

قلتُ له: إنَّ الفطرة في الحيوان تبقى، وإن انتكستْ عند البشر...

واصبرْ قليلًا أيها العصفورُ فغدًا تصفو السماءُ، ويُورق الشجرُ، ويحلو التغريد...

ممَّ تخشى؟

ألستَ في سماءِ أرضٍ تُعطيك حقوقًا أكثر مِنْ حقوقِ اﻹنسانِ في أماكنَ أخرى؟

ونرى الثلجَ فيهزُّني لونُه اﻷبيضُ الناصعُ، ويذكِّرُني بنقاء النفوس الطاهرة التي ﻻ تعرفُ حقدًا، وﻻ حسدًا، وﻻ تحملُ ضغينة، ولا مكرًا...

لكنْ تُزعجني أعقابُ السكائرِ التي يرميها اﻷلمانُ فوقَه -وكَمْ يرمون- فتشوِّهُ جمالَ صورته...

أيها الغربيون:

ألا يُمكنُ أنْ تتركوا اﻷشياءَ تَحيا بطريقتها، وتُحافظُ على جمالها؟

كَمْ ترمون النارَ في الثلج والجليد...كَمْ!

وأَرى نهرَ "نيكار" فأستذكرُ "قويقًا"، و"العاصي"، و"بردى"، و"الفرات"، و"دجلة"، و"نهر ديالى"، و"النيل"، و"نهر نفيس"...وتحضرُني أحاديثُهم معي وحكاياتُهم لي... وكم بيننا مِنْ أحاديث وحكايات؟

وأَكادُ أسمعُ "دجلة" يقولُ لي: قل لزميلي "نيكار": هل زاحمتُكَ في مجراك؟ أو فاضتْ مياهي على مياهِك؟ أو قطفتُ ثمارَ اﻷشجارِ على ضفتيك؟

ﻻ، لَمْ أفعلْ، فلماذا فعلتَ أنتَ هذا كلَّه؟!

أنسيتَ أنَّ اﻷيامَ دولٌ؟!

ولكن اطمئن فأنا لستُ مثلكَ، فحين يَقوى جرياني، وتَتدفَّقُ مياهي، سأروي أشجارَك، وأمتع العشاقَ الذين علَّقوا اﻷقفالَ على جسرِك بمناظري الخلابة، وأسمارِي الساحرة... وسأبسطُ لهم سجادةً خضراءَ مِنْ خيراتي تجمعُهم على حلالٍ زﻻلٍ...

شهرٌ كاملٌ عشنا لياليه ونهاراته نستمطرُ كرمَ الله، وتسيلُ علينا ميازيبُ لطفه، فنغتسلُ بمائِها الطاهرِ من اليأس والهمِّ...

شهرٌ نسير فيه في طرقاتٍ ما سرناها، ونمدُّ أيدينا إلى أقمارِ خيالاتٍ وأفكارٍ فنحسُّ كأنّها قريبةٌ منا، وأننا سننالُها بأيدي أقلامِنا...

عيونُنا مفتوحة، وقلوبُنا أشدُّ انفتاحًا، وأيدينا تنثرُ وردًا جُوريًا، على الرغم مِنْ جَورٍ عشناه، وكيدٍ حملناه، وظلمٍ عبَرَ إلينا مِنْ وراء المحيطات...

يا جبالَ ألمانيا:

جبالُ "أُحد"، و"أبي قبيس"، و"ثور"، و"ثبير"، و"رضوى"، و"قاسيون"، و"حمرين"، و"أطلس"، أجملُ منكِ وأرفعُ...

ويا نهرَ "الراين":

ما أشدَّ حاجتَك إلى ما يَغسلُ الرَّيْن عنكَ لتكون طاهرًا مطهرًا؟

ويا زرقةَ العُيون:

لستِ في جمال العُيون السود...

كيفَ تزورين سوادَ القلوب وتأتلفين معَهُ وأنتِ على غيرِ لونهِ؟

أما سمعتِ الشاعرَ العربيَّ يقولُ:

سوادُ العينِ زارَ سوادَ قلبي ♦♦♦ ليتفقا على فهمِ اﻷمورِ

يا ليلَ ألمانيا الطويل:

ويا ليلَ أوربا الطويل:

ربَّما كنتَ أنتَ السببَ في السواد الذي تتشحُ به العراقياتُ والسورياتُ...

ولعلك أنتَ الذي فصَّلتَ لهنَّ تلك العباءات والملاءات السود، ووهبتَها إليهنَّ هبة ساخرٍ إلى مسخورٍ به...

شهرٌ تعلَّمتُ فيه الكثيرَ...

وأعظمُ ما تعلَّمتُهُ عِظَمُ تقصيرِنا بحقِّ القرآن...

فتعالوا أيها اﻷحبة

بدﻻً مِنْ أنْ نتعلقَ بشعرٍ غجريٍ ممدودٍ

نتعلقُ بشعاعٍ قرآنيٍّ لمّاع، ونجعلُه يمتدُّ ويُسافِرُ -ويُسافِرُ بنا معَهُ- في كلِّ الدنيا...

توبنغن- ألمانيا

9/ 2/ 2015م

[1] أبيات جميلة من قصيدة للشريف الرضي، أنشدنيها الدكتور حمد عبيد الكبيسي في دبي وقد جاء يعزيني في الوالد سنة 1999م رحمهما الله تعالى.