النثر الفني في عصر الدول المتتابعة

د. زينب بيره جكلي

د. زينب بيره جكلي

النثر الفني مطية يتخذها الأديب للتعبير عن مشاعره وخلجات نفسه ، وهو يعمد إلى عناصر فنية لغوية وتصويرية وموسيقية ليقدم بها الفكرة بعبارات مشرقة وضاءة .

وقد عني أدباء عصر الدول المتتابعة بالأساليب التعبيرية ، وكان لديوان الإنشاء عندهم  منزلة لا تضاهى، وكان العمل لايسند فيه إلا إلى بليغ محكك، قد أوتي من أسرار البيان والفصاحة ما يلذ به الألباب والقلوب .

وبرع كثيرون في أجوائه وقدموا إنتاجات فنية كان بعضها في غاية الجمال ، ولكن النثر في مجمله كلن يميل إلى الصنعة والتصنيع ، ولئن كان في الأولى جمال وتأنق، فإن في الثانية تكلفا كان آفة على أدبنا العربي انعكس إعراضاً عنه ونفوراً.

 ولكن والحق يقال أن هذه الصنعة والتصنيع بل والتعقيد أيضا كان سمة لأدب كثيرين منذ أواخر العصر العباسي واشتدت وطأته في القرنين الخامس والسادس الهجريين ولاسيما عند كتاب الدواوين وأصحاب المقامات كالحريري والحصكفي والقاضي الفاضل، فلما جاء القرن السابع، وهو بداية هذا العصر ظهرت دعوات تستنكر هذا الجموح في التعبير والتكلف فيه كما عند ابن الأثير ،فخفت حدته عند كثيرين إلا فيما كان يسطر للمسؤولين لأن أذواقهم  كانت تميل إلى تكلف الصور والبديع، ولا ننسى أن هؤلاء كان معظمهم من الأعاجم الذين لا يدركون جمال التعبير إلا من خلال الزخارف والبهارج، حتى غدا الأدب عندهم جرسا رنانا ولو على حساب المعنى.

وهذا يعني أن حركة التجديد في الأساليب قد أطلت برأسها ، وأثرت في أقلام الكتاب فسطروا نماذج من التعبير الفني في غاية الجودة يعبرون بها عن مشاعرهم بلغة أدبية رائعة، وتصوير فني رائق، وموسيقى عذبة، ولذلك فإن الذين يتهمون العصر، كل العصر، بالجمود والعقم قد جنحوا عن الصواب لتعجل دراساتهم، وقلة اطلاعهم على معطياته .

    ومن الأساليب الفنية الرائقة في هذا العهد الأدعية ، وهي من أكثر الآداب النثرية قربا إلى النفس ومتعة للروح إذ فيها من مقومات الأدب الشيء الكثير، فهي تأتي بأسلوب شحن بعواطف شجية وملئ بتصوير بديع، وفيه تراكيب محكمة، وجرس موسيقي صدر عن نفس منفعلة ... .

هذا عبد الله السويدي وهو من العصر العثماني يناجي ربه أمام الكعبة الشريفة فيقول :

" إلهي أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، مُقِيل العثرات، وكاشف البليات ، فحاشى لك أن تطرد من لازم بابك، إلهي حلمي جرَّأني على معاصيك، وأوقعني في ذلك حسن الظن فيك، وقد بلغني عن رسولك المصطفى فيما يرويه عنك أنت قلت "أنا عند ظن عبدي بي" إلهي هذا البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار، إلهي فأسألك العفو عما لا يضرك ولا ينفعك، ، فأنا عبدك الآبق أستجير بك من النار، وأنت الأكرم، وأنت الأرحم"([1]).

فالكاتب هنا في وقفته التائبة يعبر بعواطف إيمانية قوية وبأسلوب سلس عذب ، فيه طلاوة وحلاوة، وفيه رونق وتحبير ، وفيه سجع ولكنه سجع زاده جمالا .

ومن الأوصاف الرائقة ماقاله عبد الكريم بن سنان في حرب النمسا في العهد العثماني مثل " ... وتيسر فتحه في نحو سبعين يوماً، وجفون الغزاة لم تكتحل بغير نقع الهيجاء، ولم تذق يوماً نوماً، وقد تثبتوا في الحرب تثبت الجبال، علماً بأنها بين الرجال سجال، فهناك باحت أغماد السيوف بأسرارها، فطارت غربان البنادق من أوكارها، وكم قتيل غدا بألسنة الأسنة مُكْلَما، وأصبحت درعُه تبكي عليه بألف عين دماً، والأعداء كأنما أجسادهم جرائرُ يحملها من الدماء السيل، وكأن رؤوسهم أُكُر تلعب بها صوالج الأيدي والأرجل من الخيل، شكر الله مساعيه الراضية، وأحله في قصور الجنان العالية"([2]).

  أسلوب هذا الوصف يقوم على السجع كعادة شعراء العصر، وعلى الجناس والتوازن بين العبارات وذلك لتحقيق النغمة الموسيقية واللحن المنغم ولكنه لم يخل من جمال كما لم يخل من تكلف أحيانا بدا في الإتيان بمرادفات من أجل الصنعة والتوشية.

وقد بدا في أسلوبه الخصائص الأسلوبية إلى جانب الخصائص العقلية، فالعدو لم يعد يذوق النوم، وكثر القتلى والجرحى، وبكى الناس على من نكب من أهليهم حتى صارت الرؤوس كالكرات تلعب بها الخيول.

ويقول د. الرباعي حول هذه الصنعة : " إذا عدنا إلى فحص ما سمي بوسائل البديع بمنظار جديد وجدنا أنها جميعا ترتد إلى عنصرين هامين هما الصورة والإيقاع الداخلي ، وهذان هما العنصران الأساسان في كل شعر ، ... فالصنعة والموهبة ركنان أساسان من أركان الإبداع الشعري ، والذي يؤدي إلى الاختلاف في الأساليب يكون في نوعية الطبيعة الشاعرة التي تبدع تلك الأساليب ، أو ما عبر عنه أحد الباحثين بالإطار ، فلكل شاعر إطار خاص ولكنه جزء من إطار العصر الذي يعيش فيه ، ويتدخل في صنع الإطار عوامل متنوعة غير متجانسة منها المزاج الشخصي والإلهام الفطري والتحصيل الثقافي،  والظرف الحضاري والنظام السياسي، والمعتقد الديني وكل ما يهم الشاعر في الحاضر وما له قيمة في نفسه من الماضي ، والقوتان العقليتان اللتان تمتلكان هذا الإطار عادة هما الخيال والوعي الفني([3]) .

وإذا أخذنا قول الرباعي بعين الاعتبار وجدنا أن كثيرا من شعراء عصر الدول المتتابعة قد اهتموا بالعنصرين الأساسين في الجمال الأدبي : الصورة والموسيقى ، ووجدنا أن ماسمي بالصنعة كان عندهم موهبة تدل على مقدرة في الإبداع ، ولكنها موهبة نبعت من الإطار الذي يعيشه الشاعر ، ومن هنا كان تأثير ذوق العصر عليه ، وكان إبداعه الفني يعد ضمن مفهوم الجمال في عصره .

ومن الأساليب الجيدة الأسلوب المرسل وقد بدا في التآليف كما عند ابن خلدون في مقدمته ، وعند ابن كثير في البداية والنهاية ، وهذا حديث للثاني يصف فيه وقعة هولاكو فيقول:

   "فلما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير([4]) والقنى  والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى([5]

فهنا نرى الأسلوب المرسل، والتمكن من العبارة، وانسيابها مع عدم خلوها من التأنق الذي لا يغير سمة الترسل العامة في النص، وكانت ألفاظه واضحة الدلالة، مشحونة بقوة العاطفة الإيمانية، وكأن صاحبها قد سكب فيها روحه قبل أن يسكب فيها عباراته، وهذه هي البلاغة بعينها.

   إلا أن بعض أساليب العصر ولا سيما في العهد المملوكي كانت تتأرجح بين التصنع والصنعة([6]) يجود أصحابها العبارة تارة فتأتي مصقولة رصينة، وتنحرف أخرى حين يتكلفونها فتبدو باردة فجة ، ومما يدخل في هذا المجال أسلوب الكاتب ابن حبيب الحلبي، فهو تارة يحبر عباراته وأخرى يتعمد التصنع فيها ، وذلك في مثل :

   " أرقت ذات ليلة في مهادي فسمعت طارقا ينادي في النادي فقمت من مضجعي وقل بلّ ردني مدمعي متحيراً في أمري متأسفاً على ما فات من عمري، وقلت أيها الطارق في ظلمة الليل الغاسق هل لك في المنادمة؟ فقال كم نديم سفك المنى دمه، ثم سلّم وجلس، وما تنفس وما نبس، فقلت يا من شنّف السمعَ بدُرّه اذكر لي شيئاً في طول الليل وقصره فقال :

مقيم ليس يبرح، وعاجز لا يظعن ولا ينزح، بَرَدُ نجومه لا يذوب، وغائب ضوئه ليس يؤوب،عليله ما يرجى صلاحه، وصباحه لا يلوح مصباحه ثم قال:

أيا أخا الأدب إلى كم ذا الحرص والدأب، الأيام نجمها غرّار، ومدّعي الوفاء منها غدّار، كثيرة الملال، سريعة الزوال، تفرّق الحبائب، وتسترجع المواهب، ذمامها ذميم، ومسالمها سليم، تحل العقود ولا تحفظ العهود. لقد سقط من تمسك بعُراها، وتعب من قصد الراحة من ذُراها "([7]).

فالمؤلف يبدو وقد تأرجح بين القوة والضعف ، فهو في وصفه للطارق ولليل يتكلف ويتصنع كما في  " مقيم لا يبرح وعاجـز لا يظعن ولا ينزح" فكلمة لا ينزح جاءت حشواً بعد إتمام المعنى في "لا يظعن"، وهو حشو جيء به لمناسبة النغمة.

أما في قوله "أيا أخا الأدب إلى كم ذا الحرص والدأب، الأيام نجمها غرار، ومدعي الوفاء فيها غدار لقد سقط من تمسك بعُراها، وتعب من قصد الراحة من ذراها.) فالأسلوب قوي الصياغة، محكم العبارة لا يُرى فيه تعمل لصورة أو بديع، بل تأتى العبارة في إيقاع، يحوي تعادلاً صوتياً تتلاحق فيه العبارات المتوازنة لترضي الأذن كما يرضي النص الشعور.

وهكذا تعددت أساليب الكتابة في عصر الدول المتتابعة وكان في بعضها رواء وجمال ومن حق هذا أن نبينه للدارسين علهم يفيدون منه في تعابيرهم الفنية لتكون أكثر تأثيرا في النفوس وتلك مهمة الأدب.

               

([1]) النفحة المسكية /321 .

([2]) خلاصة 2/216 .

([3] ) الصورة الفنية في شعر أبي تمام/ 18

([4]) المطامير أماكن تحت الأرض ليطمر بها الحبوب: المعجم الوسيط 2/586 .

([5] ) البداية والنهاية  13/263

([6]) اصطلح د.شوقي ضيف على تسمية القيم الفنية التصويرية والموسيقية من تشبيه واستعارة وتمثيل وسجع وسائر أنواع البديع باسم الصنعة ، بينما التصنيع عنده ما تكلف صاحبه الصنعة مع جمال في العبارة، أما التعقيد والتكلف الممقوت فقد سماه تصنُّعاً. الفن ومذاهبه في النثر العربي ص24

([7]) نسيم الصبا /31-33 .