فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة (8)

د. محمد بسام يوسف

فَذْلَكَةُ الحاء (1):

 *(حَبَطَ) وأخواتها!..*

*حَتَمَ  ، حَتَّ ، حَبَكَ ، حَتَرَ ، حَبْتَرَ ، حَطَبَ ، حَجَّ ، حَبَا ، حَاتَنَ ، حَبَرَ ، حَرَمَ.*

يقول الله عزّ وجلّ في محكم التنـزيل: (.. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر: من الآية 65).. فالشرك بالله سبحانه وتعالى يُحبِط الأعمال، و(حَبَطَ) تعني: بَطَلَ .. وهل هناك أعظم إثماً من عبادة ربٍّ أو إلهٍ آخر مع عبادة الله عزّ وجلّ؟!.. 

عملية (حَبَطَ) أو بَطَلَ، تشمل عمل كل مَن يجعل مع الله إلهاً آخر، فيعبده وينفّذ منهجه البعيد عن منهج الله سبحانه: صنماً كان أم جِبتاً أم طاغوتاً، أم سلطاناً لا يحكم بما أنزل الله!.. فمن (حَتَمَ) أي: قضى، وحَكَمَ بقانونٍ أو دستورٍ ظالمٍ طاغٍ غير دستور الله عزّ وجلّ، أو بما لا يتوافق مع شرع الله سبحانه وتعالى ومبادئ العدل والكرامة الإنسانية وحقوقها.. فهو ظالم جائر مشرك: (.. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: من الآية 44) .. و(الحَتْمُ) هو: القضاء، كما ورد في محكم التنـزيل: (.. كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) (مريم: من الآية 71) .. و(الحاتِمُ) هو: القاضي.

في عصرنا هذا، قد يكون هناك (حاتِمٌ) عُرفيّ، و(حاتِمٌ) مَيْدانيّ، و(حاتِمٌ) عسكريٌّ أو أمنيّ.. وهكذا فالقضاة متوافرون من كل الأصناف والأنواع!.. وهم يَحتِمون أو يقضون ويحكمون –عادةً- باسم السلطان أو الحاكم الأول، وليس من الضروري أن يعرف السلطان ما يدور في المحاكم، التي يديرها كلّ (حاتِمٍ) أو قاضٍ!.. كما ليس من الضروري أن يكون (الحاتِم) حاتِماً، أي: قاضياً، فقد يكون (حاجِباً) عند (حاجِبِ) السلطان، أي: حارِساً!.. وبما أنّ كلّ (حاتِمٍ) ممّن ذكرنا يحكم بما لا يعلم، فهو غالباً ما يختار أسهل الأحكام، وأسهل الأحكام على الحاتِم المعاصر الجاهل الظالم هو حكم الإعدام: شنقاً أو رجماً أو رفساً أو سلخاً أو رمياً بالرصاص!.. إذ يُساق الناجون من الموت –بعد أن يكون قد (حَبَسَهم) حاجِب السلطان- إلى المحكمة الاستثنائية العسكرية أو الأمنية غير المختصّة، لإيصالهم إلى (حَتْفِهِم)، أي: هلاكهم، فالـ (حَتْفُ) هو: الهلاك، إذ يُقال مثلاً: (مات فلانٌ حَتْفَ أنفه)، أي: مات أو هلك على فراشه بلا ضَرْبٍ ولا قَتْل .. ويُقال حالياً: (مات فلانٌ حَتْفَ حَبْسِهِ)، أي: هلك في السجن من شدّة سعادته، التي أغدق بها عليه الحاتِم بأمر السلطان!.. أو يُقال: (مات فلانٌ حَتْفَ جَلده)، أي: هلك من تأثير سياط أجهزة السلطان التي تداعبه صباح مساء!.. أو يُقال: (مات فلانٌ حَتْفَ حُبّه)، أي: هلك لِعِظَم (حُبّه) للسلطان، وعِظَمِ (حُبّ) السلطان له!.. ولله في خَلقه شؤون، فكل امرئٍ (حُرّ) في اختيار الـ (حَتْفِ) الذي يُعجبه!..

حين تكثر أعمال (الـحَتْفْ)، ويخشى السلطان على نفسه من الـ (حَتّ)، أي: السقوط.. فإنه يلجأ إلى (حَبْكِ) أمرِهِ، و(حَبَكَ) الأمرَ، أي: أحسن تدبيره.. وأهم مقوّمات الحَبْكِ هي: (الحَتْر)، و(حَتَرَ) تعني: قَتَّرَ وضيّقَ و(حَرَمَ)، أي نفّذ تلكم الأمور على رعيّته، ليسهل عليه قيادها، إذ يؤدي الحَتْرُ إلى نحول أجساد أبناء الرعيّة على طريقة (حَبْتَرَ)، أي: نَحُفَ!.. فإذا ما نحفت الأجساد من الفقر والجوع أي: (حَبْتَرَت)، فإنّ انقيادها إلى راعيها السلطان، يصبح أسهل من انقياد الشاة إلى راعيها، وكأنّ في كل عنقٍ من أعناق الرعيّة (حَبْلاً) يُقاد به، و(الحَبْلُ) هو: ما فُتِلَ من ليفٍ ونحوه، ليُربَطَ أو يُقادَ به!.. ويمكن أن يُقال أيضاً: (حَطَبَ فلانٌ في حَبْلِ فلانٍ)، أي: أعانه ونصره، وفي هذا يُقال مثلاً: [(حَطَبَتْ) أميركة في (حِبالِ) العَرَبِ، أي: أعانتهم ونصرتهم، فمنعت إسرائيلَ من احتلال (حَلَب)، فاكتفت إسرائيلُ باحتلال بيروت]!.. و(حَلَب): هي إحدى محافظات دولةٍ تسطو عليها عصابة الصمود والتصدّي! والممانعة!، وهي محافظة لا تبعد عن فلسطين المحتلّة أكثر من ألف كيلو متر!..

من مقوّمات (حَبَكَ)، التي يلجأ إليها فخامة السلطان أيضاً: عمليّات (حَجَّ)، و(حَجَّ) إليه تعني: قَدِمَ إليه أو تردّد عليه، فيُقال مثلاً: (حَجَّت أجهزةُ السلطان فلاناً)، أي: أكثرت التردّد عليه.. إلى أن تظفر به، فإذا ما ظفرت به يُقال: (حَجَّ أهلُ فلانٍ أجهزةَ السلطان)، أي: أكثروا التردّد عليها ليعرفوا مصير ابنهم، وهل هو في عِداد الأحياء أم الأموات، وفي كل الأحوال لا يصلون إلى نتيجةٍ أو جوابٍ صحيحٍ مطلقاً!..

من مقوّمات (حَبَكَ) أيضاً، استخدام أسلوب (حَبَا)، أي: زَحَفَ، فحين يسعى المواطن إلى تلبية حاجةٍ من حاجاته الأساسية، أو إلى الحصول على حقٍ من حقوقه الطبيعية، كحقوق المواطَنَة مثلاً.. فإنّ عليه أن (يحبوَ) عند أعتاب الأجهزة المخابراتية لفخامة السلطان، أي: يزحف على بطنه إجلالاً وتعظيماً له، واقتداءً به (أي بالسيد السلطان) حين يزحف على بطنه أمام سيّده الأميركي أو الصهيوني الذي حمله إلى كرسيّ الحكم!.. ويمكن أن يُستَخدَم فعل (حَبَا) في وصف حركة الجيوش، فيُقال مثلاً: *(حَبَا) جيشُ رفعت القرداحي-أي زحف- لتحرير (حَيْفا).. فلم يجدها، لكنه عثر في طريقه على (حَماة).. فحرّرها من أهلها، بعد أن (أحَرَقَها)]!..*

الطريقة الأخيرة التي يستخدمها فخامة السلطان لـ (حَبْكِ) أمره، هي طريقة: (حَاتَنَ)، أي: ساوى (من المساواة)، إذ يحاتِن السلطان، أي: يساوي، بين أفراد أسرته وطبقته وعشيرته وعائلته وطائفته.. من جهة، على طريقة (حَبَرَهُ)، أي: سَرّه ونَعّمه.. وقد ورد هذا المعنى في محكم التنـزيل: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف:70).. كما يحاتِن، أي: يساوي، بين بقية أفراد شعبه وعامّته.. من جهةٍ ثانية، على طريقة: (حَتَرَ)، أي: قتّر وضيّق وحَرَمَ، وطريقة: (حَبا)، أي: زَحَفَ، وطريقة: (حَبْتَرَ)، أي: نَحُفَ!.. وكلما اشتدّت وطأة الحَتر والحَبو والحَبْتَرَة.. ازداد المواطن (حُبّاً)، وتصفيقاً وهتافاً وتسبيحاً بحمد فخامة السلطان، فيظهر تأييد العامّة الجارف لفخامته جلياً، أمام كاميرات أجهزة الإعلام المختلفة!..

هكذا، ينتهي (الحَبْكُ) -الذي يحبكه السلطان- بالأمة أو الشعب، إلى طبقتين تبعد إحداهما عن الأخرى بُعْدَ المَشرقَيْن: طبقة الأقلّية التي تُحَلِّق فوق السحاب، هي طبقة (حَبَرَ)، أي: سُرّ وتنعّم.. وطبقة الأكثرية الكاثرة المدفونة تحت سطح الأرض، هي طبقة: (حَبْتَرَ)، أي: قلَّ ونَحُفَ!..

أحد الـ (حاذقين) من طبقة (حَبَرَ)، قال لصديقه من عامّة الناس، أي من طبقة (حَبْتَرَ) -بعد أن استمع إلى شكواه وتذمّره-: *[لماذا البؤس والتشاؤم يا صاحبي؟!.. غداً تتغيّر الأحوال وتتبدّل، فالـ (حياة) يومان: أما اليوم الأول فهو الآن عليكم، لكن اليوم الثاني في المستقبل القريب، والبعيد.. فسيكون -إن بقيتم خانعين- .. عليكم أيضاً]!..*

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

**الفَذْلَكَة -كما ورد في المعجم الوسيط- تعني: [مُجْمَلُ ما فُصِّلَ وخُلاصَتُهُ]، وهي [لفظة مُحدَثة].*