رموز ومعاني في "حليب الضحى"

د. صافي صافي

xbcxnn968.jpg

ليس من السهل أن أكتب عن أعمال الكاتب المتميز محمود شقير، فهو علامة فلسطينية في الكتابة الفلسطينية النثرية، وهو أكبر من أن نفهمه، ونفهم رسالته الممتدة الأصيلة، ليس فقط من خلال الكتابة وإنما من حيث انغماسه في العمل النضالي منذ عقود القرن الماضي. إن خبرته الطويلة في الكتابة وفي العمل النضالي، هي بوصلة لي، فعلى كتاباته تتلمذت أنا وجيلي، وهو اسم أفخر به أمام العالم، وأمام نفسي.

ليس هنا المجال لأذكر كل ذلك، وما لم أذكره، لكني وودت أن أطرح بعض التساؤلات في مجموعته القصصية "حليب الضحى" الصادرة عن "مكتبة كل شيء"/ حيفا عام 2021، وتقع في 238، وتحتوي على 202 قصة قصيرة، وهي امتداد لكل ما أنتجه ونشره طوال حياتنا التي نعرفها.

وحدة المجموعة القصصية

يعجبني أن أقرأ وحدة الموضوع في المجموعات القصصية، ولا أحب أن أقرأ قصصا متناثرة، وهذا ينطبق على مجموعة كاتبنا محمود شقير إلى حد بعيد، فمحمود يشغله كل شيء، وتشغله التفاصيل، وينحاز بشكل واضح للطفولة، والمرأة، والقدس، وضواحي القدس، والعمال، والذين يعيشون تحت، مناصرا لقضاياهم، وهمومهم وآمالهم، وأحلامهم وتأملاتهم.

قلت أحب أن أقرأ وحدة الموضوع في المجموعات القصصية، ولفت انتباهي في هذه المجموعة موضوع "العقم" الذي سأتناوله بقدر ما أستطيع، وأنا لست بناقد، ولا أدعي ذلك.

البداوة والمدينة

ليس صدفة أن تكون الشخصيات الأساسية في المجموعة القصصية من آل العبداللات، ف "منان" شيخ العبداللات"، المزواج، له ثلاثة أبناء في المجموعة، أكبرهم محمد الكبير من أمه فاطمة، وقيس علامة المجموعة الرئيس، ومحمد الأصغر، وعليوان.

محمد الكبير، ولد من علاقة غير شرعية بأبيه، عمل في مقهى في يافا، يتردد عليه رجال ونساء، يهوديات وأجنبيات، تعلم السكر والطيش، طرد من العمل ثم عاد بتعهد. تعلق برفقة التي تكبره بخمس سنوات، التي قتلت على يد زوجها الأزعر، ثم تزوج مريم المسيحية المقدسية، وهي التي دلته على الطريق إلى ظلام السجون (ص36)، فهي التي صنعت منه إنساناً صاحب مبدأ وعقيدة، فكانت معبودته الأولى والأخيرة.

محمد الأصغر، ابن وضحى، تزوج سناء التي لا تنجب، ولم يتبنيا طفلا كما قيس وليلى، وظل معجباً ب "ماريا زخاروفا" الروسية الشقراء التي تتقن الرقص. كان مريضا أثناء طفولته، وسكن أريحا ثم يافا للعلاج. فكرت بالانفصال وترك البيت، و "كانت المفاجأة حين تشبثت بي وضحا ومحمد وثلاث من نساء العائلة" (ص80).

أما قيس ليلى، فكان أن تزوج قريبته "نفسيه"، ثم تطالقا بسبب عقمه، فتزوج ليلى العوراء، وأحبا بعضهما، وتبنيا طفلة، سمياها "قدس". هي ابنة الحسب والنسب والأصول اليافاوية، والمقدسية السكن، والمعلمة. أحبته لأنه نوى أن يكتب رواية، وهي تحب ذلك. حلمت بستة عشر مولودا أو سبعة عشر، ورغم أنه خريج معهد معلمين، إلا أنه عمل سائقاً في شوارع القدس.

أما نفيسة، ابنة عشيرة العبداللات، طليقة قيس، فتزوجت من رشيد، عامل البناء المجتهد المواظب، فرزقت بمولود أسمته "قيس"، فأرضعته، و "قدس" ابنة قيس وليلى بالتبني، حتى صارا أخوين. استشهد رشيد وهو عائد من عمله مساء.

وظل "عليوان"، الذي قرر الانفصال عن عائلة العبداللات، وعمل مراسلا في مؤسسة، وتزوج من زهية، بائعة دوالي العنب في أسواق القدس، أنجبا "رهوان" المشاغب، وصارت عقيمة.

من الواضح أن أولاد "العبد اللات"، قد ارتبطوا بعلاقات زوجية خارج العشيرة، وأغلبها مدنية أو ما يقترب منها كما يبدو.

العقم

لا أدري سبب مرض العقم في أبناء عائلة العبداللات، سواء من الرجال أنفسهم أو نسائهم. ولا أدري سبب اختيار الكاتب شقير لهذا الحالة إن صح القول فالكتابة اختيار، وتوجهات، ورؤية، وشقير حين يكتب، يفعل ذلك برؤية واضحة له، بوعي، وتتضح لنا في سياقات القصص الواردة.

من المعروف أن العشائر البدوية، مزواجة، ولودة، فالعشائر تشكل بطوناً وأفخاد، ولا أعرف العدد الحقيقي لأبناء "منان العبد اللات"، فهو هنا تناول أربعة منهم، وظل الباب مفتوحا للتخمين.

فإذا كان قيس الذي تزوج قريبته "نفسيه"، ولم يرزق منها بطفل/ة طفلة، فإن شقير، يتبنى موقف أن زواج الأقارب سيؤدي إلى "العقم"، لكن نفيسة نفسها حين تزوجت من غريب (رشيد)، عامل البناء المجتهد، فإنه رزق ب "قيس"، ثم استشهد أثناء عودته من العمل مساء.

أما "عليوان" الذي تزوج "زهية" بائعة الخضار، فإنه رزق منها ب "رهوان" المشاغب، وانقطع نسلها. هل يعني ذلك أيضاً أن علاقة البدوي بالفلاحين لا تؤدي إلى نتيجة، إلا ما ندر؟

وتبقى حالات الزواج بالمدنية، كما في محمد الكبير ومريم المسيحية (مدنية بالطبع)، وعلاقة قيس بليلى، فتبنيا طفلة بسبب عقمه، ومحمد الأصغر المتزوج من سناء العقيمة. هل يعني ذلك استحالة خروج البدو إلى المدنية، والعيش فيها كما هم؟

إذا كانت هذه الزاوية التي تناولتها مهمة، فهذا يعني، أن شقير يشير إلى عقم العلاقة بين البداوة والبداوة (قيس/ نفيسة)، والبداوة المدنية (محمد الكبير/ مريم، وقيس/ ليلى، ومحمد الأصغر/ سناء)، والبداوة الفلاحية (عليوان/ زهية)، والديانة الإسلامية والمسيحية (محمد الكبير/ مريم). فهل قصد ذلك؟ ولا تنفصل عن ذلك علاقة نفسية (بدوية الأصل)، بعامل البناء (رشيد)، فلم يرزقا إلا بطفل.

ربما ود القول، بأننا ما زلنا نعيش قبائليا وعشائريا، رغم المحاولات.

مرة أخرى لا أعرف إن كان شقير قصد ذلك، أم كان قصده، بأن علاقات الفلسطينيين ببعضهم البعض فيها عقم، بغض النظر عن أصلهم ومعتقداتهم الفكرية والدينية؟ هل هذه إيحاءات سياسية بقراءة الواقع الحالي الذي لم يؤد إلى مخرج واضح؟ هذه العلاقات المشوهة غير المنتجة، سوى بعض الحب الذي لاحظناه في بعض القصص، الأقرب إلى النصوص الدينية، كما في:

ماء القلب

قالت في لحظة نزق: تربتي عطشى والمطر لا يجيء،

والثديان بلا حليب وقلبي حزين.

طوّقت خصرها وبدت مثل نخلة

وقلت: من ماء قلبي تشربين. (ص198)

ونقطة

وقفت النقطةُ عندَ آخر السطر.

تأمّلت الهوّة التي تفصلها عن السطر الأخير، وقالت:

كم هو فسيح هذا العالم! (ص215)

وهل تستوي هذه الشاعرية العاطفية، مع حالات العقم؟ لا أعرف.

عبارات تلفت الإنتباه

أعجبتني بعض النصوص، وربما فيها الدلالات، أولها استخدام كلمة "ربما"، فهو اليوم يتشكك في ما يقال، بعيدا عن الحسم واليقين، فوردت كلمة "ربما" حوالي عشرين مرة، بصيغ مختلفة، يتلوها أفعال وأسماء أو دونها: الدلال، قتلها، كانت راغبة، أعزي نفسي، انصياعا لرغبة أمه، مخلصا لقناعة أبيه في تعدد الزوجات، انتقاما مريحا للأنفس المعذبة، لتشعرني، أرادت أن تعتذر، لأنني كنت طفلا، لأننا أربعة، خوفا، لسبب ما.

وبالمقابل، فإن استخدامه الاستثناءات بتعبير "دون"، مما يعني اتجاه الفعل والسلوك والاعتقاد، فوردت هذه الكلمة حوالي عشرين مرة أيضا في سياقات "دون": حرج، نقصان، سبب، إنذار، خوف، إبطاء، شغل، ملل، حليب، سواه، ارتباك، أسف، تحيز، ترخيص، استعجال، زيادة، وجل، موافقة.

استمتعت بالقراءة، وأعدتها أكثر من مرة، علني ألتقط بعض ما بباله، ورغم التقاطي لحالة العقم التي تطفو في أكثر من حالة، لا يعني أن هناك رموزا أخرى، ليس الوقت لتناولها هنا.