قراءة في كتاب الدكتور محمد غسان الخليلي، الصورة الفنية في شعر عمر بهاء الدين الأميري

محمد المشايخ

ربما كان هذا الكتاب هو الوحيد الذي يثبت أن الصورة الشعرية تنقل الرؤيا أكثر من الألفاظ الدالة على المعاني، وهو أيضا الوحيد الذي يشتمل على كنز من الآراء والمواقف النقدية، ولكن مؤلفه كان مكبلا بالقيود الأكاديمية التي تحول دون أن يطرح المزيد منها، فيقول مثلا: (ليس من وظيفة الباحث أن يحلل كل هذه الصور المشهدية المتراصة في هذا المقطع الشعري، بل يكفي أن يقوم على تحليل بعضها)، وكان يتمرد على تلك القيود أيضا، فيعيد الأمر لنفسه كباحث وناقد وشاعر متميز، فيقول: (ولا يبغي الباحث تصنيف المصادر الطبيعية حسب الترتيبات التي درج عليها الباحثون؛ صامتة وصائته، أو غير ذلك من التصنيفات)، أي أن له وجهة نظر نقدية مغايرة، تثبت تمرده على السائد، وفي الوقت نفسه تـُـبرز ميله للابتكار والتجديد النقدي، وكان د. الخليلي ينسى أنه بصدد كتابة رسالة دكتوراه، ليحدد هو شخصيا ما يريد أن يكتبه: (كان الباحث يسعى لرسم ظلال الصور الفنية، وتتبع الحال الشعورية للأنا الشاعرة، واستقراء التجربة الشعرية الأميرية من نصوصها الفنية).

لقد كتب د. الخليلي عن الأميري من باب المحبة، وتقارب وجهات النظر الفكرية والدينية، ولكن الدراسة لم تكن تساعده ليمدحه أو يقرظ قصائده أو يشيد به وبها، فهو موضوعي والنتائج تقوده لطريق مغايرة للود الذي كان يجمع بينهما، فيقول مثلا: (ربما وهنت القوة التصويرية عند الأميري، ولم يحالفه الحظ بأن تكون حسنة، ومعظم هذه الهنات انحصرت في شعره الحماسي الموجه للجماهير؛ فقد غلبت عليه النبرة الخطابية الوعظية المباشرة)، ويقول د. الخليلي: (لم يكن الأميري من الفنانين الذين يتقنون مزج الألوان، وتوظيف رموزها)، ولا يعني ذلك أن كل ما في الكتاب نقد سلبي لآراء الأميري، فها هو د. محمد غسان يبرز مظاهر الحداثة عنده، ويشيد بها، ومنها: (تجديداته الإيقاعية، ونثره لشعره الخليلي، وكتابته بطريقة فراغية، والميل إلى الرمز على حساب المظاهر الفنية التقليدية).

ولعلّ أجمل ما في هذا الكتاب أيضا، ما فيه من آراء نقدية جديدة، تطلعنا واحدة منها مثلا على كيفية توصل بعض النقاد لأمور في النصوص المنقودة يجهلها مبدعها ولم يكن يرمي إليها ولم يعرف عنها إلا عندما يلفت النقاد انتباهه إليها، فيقول: (يفترض الناقد الألماني "ولفغانغ آيزر" أن القارىء يشارك مشاركة فعالة في إنتاج المعنى النصي، وأن العمل الأدبي لا يكتمل إلا بالتقاء القارىء والنص، فيتدخل خيال القارىء لإكمال الفراغات النصية، وفك شيفرات الرموز التي أودعها الشاعر في نصه الشعري، وترك لمخيلة المتلقي أن يسرح بحرية لتلقط الرموز، وكتابة الفراغات)، وأيضا لدى د. الخليلي الكثير من التجديد فيما تمت كتابته عن الأميري وشعره، فيقول مثلا: ( إن الشاعر بذكائه الوجداني؛ بالحركات والتحولات التي بناها على براعة الوصف لم يجنح للخيال، بل ركب عدستين؛ خارجية تلتمس الصور المتحركة من الطبيعة وأخرى داخلية تسبر أغوار روح ضجت بألم الفراق)، ومن ذلك التجديد أيضا قوله: (إن التبادل بين الحواس في التركيب المعماري للتصوير الأميري يوائم الحداثة التصويرية في تمثيل الحالة الانفعالية والنفسية؛ ليضحي المحسوس معنويا)، وقوله: (هكذا الشعر؛ فالشاعر لا يعبر بالكلمات، بل بالقصيدة التي تجمع كلمات لم تجتمع من قبل؛ لتخلق مشهد إجماليا، إنها سردية درامية، تفصح عن انفعالات السارد). وكان د. الخليلي قد خرج على القيود الأكاديمية أيضا حين أجرى مقارنة بين شعر الأميري وغيره من الشعراء في أكثر من موقع، يتقدمهم الشاعر إبراهيم طوقان.

وتدل المراجع الكثيرة التي كانت مصدرا لدراسة د. الخليلي، أنه واسع الإطلاع، موسوعي المعرفة والثقافة، كما يدلّ رجوعه لآراء نقاد العالم واستشهاده بأفكارهم كلما اقتضى الأمر، على موضوعيته، وعلى أمانته العلمية، وعلى التزامه بإيراد وجهات النظر النقدية المتباينة والمختلفة، حرصه على تجاوز الذاتية، وعلى إطلاع قارئه على نوع جديد من النقد العام والشمولي، ورغم أن الأميري شاعر إسلامي، إلا أن     د. الخليلي، كان منفتحا على العالم، وعلى الدين والدنيا، فاستشهد بآراء لنقاد غير إسلاميين، من الشرق أو الغرب، ونادرا ما استشهد بآراء نقاد إسلاميين على غرار ما فعل مع العلاّمة الراحل سيد قطب.

وأبدع د. الخليلي في عدم تكرار آرائه ومواقفه النقدية أكثر من مرة في أثناء الكتاب، رغم أن بعض الموضوعات كانت تتطلب التكرار، فلاحظنا جديده في كل سطر وفي كل فقرة وفي كل صفحة.

وفي الختام، يتألف هذا الكتاب من تمهيد وثلاثة فصول: أما التمهيد فقد وقف الباحث فيه سريعا على المعنى المعجمي والاصطلاحي للصورة الفنية في النص الشعري، ثم استعرض تطور هذا المفهوم في الدرسين النقديين العربي والغربي؛ مستعرضا أهم المدارس الغربية التي تطور ت فيها الصور الفنية في النص الشعري، إضافة إلى بعض التعريفات للصورة الفنية.

وتخصص الفصل الأول على المصادر التي كان يستقي منها الشاعر في تشكيل صوره الفنية، وكغيره من الشعراء فقد استقى من مصادر الطبيعة منطلقا شكل منها صوره الفنية، أما الموارد المعرفية في تشكيله الفني التصويري فقد كانت لها حصة الأسد، ولقد تعددت هذه المصادر إلى دينية وثقافية وأدبية، وغير ذلك. وكان على رأس كل هذه المصادر استسقاؤه من معين القرآن الكريم الذي لا ينضب؛ لما كان قد تأسس عليه الشاعر من ثقافة دينية. ولقد استهلك المبحث الذي تناول الشواهد القرآنية التي كانت مصدرا للشاعر في تكوين تصويراته الفنية حيزا كبيرا، وما ذلك إلا ليثبت الباحث أن هذا المنحى كان متأصلا في شعر الأميري.

- أما الفصل الثاني، فقد خصصه الباحث للموضوعات التي تشكلت فيه الصور الفنية الأميرية، ولما كانت الموضوعات متشعبة كثيرة، كان لا بد للباحث من أن يحدد دراسته في أربعة اتجاهات:

1 .تشكل الصورة الفنية في شعر المرأة.

2 .تشكل الصورة الفنية في شعر الحنين والغربة.

3 .تشكل الصورة الفنية في (الزمكانية) في القصيدة الأميرية

4 .تشكل الصورة الشعرية في جدلية الحياة والموت عند الشاعر.

وإذا كان الفصل الثاني قد خصص للتأويل، فقد ركز الفصل الثالث على التشكيل عند الأميري وكثيرة، كان لا بد للدراسة من أن تختص بجزئيات منها؛ فكان التركيز على النواحي التشكيلية التالية:

1 .التشكيل الرمزي للصورة؛ لما للصورة الرمزية من أهمية في الدرس البلاغي المحَدث، ولما كانت الصور الرمزية كثيرة التشعب في شعر الأميري فقد وقف البحث على أهمها؛ ومن ذلك الرموز التراثية القديمة والحديثة والشعبية، ورموز الحضارة والمذاهب المعاصرة، والرموز الطبيعية، والرموز الدينية بأنواعها، والرموز الصوفية، والرموز اللونية. وأخيرا فقد وجد الباحث أن للشاعر الأميري منهجا خاصا في صوره عن قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وما يخص القضية الفلسطينية، ويدل على ذلك الزخم التصويري الشعري الذي يخص هذه القضية، وجعل قضية الصراع العربي الإسرائيلي معادلا موضوعيا في شعره على اختلاف موضوعاته، وإفراده عدة دواوين؛ كل قصائدها كانت عن هذا الموضوع.

2 .التشكيل التصويري النمطي للصورة البلاغية التي تتشكل من التشبيهات والاستعارات، وسواهما.

3 .وكان مبحث مستقل عن التصوير السردي عند الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، وخاصة في قصائده المطولة، والتي تغترف من الطبيعة مؤونة تشكيلها التصويري الفني.

  1. ولما كانت الدراسات الإيقاعية في النص الشعري قد أضحت تُدرس كجانب مهم في التشكيل التصويري الشعري، فقد أفرد الباحث لذلك بحثا مستقلا، وقد أتى فيه على بعض الجوانب المهمة في هذا الباب؛ إلا أن منهجية البحث لا تسمح بالتوسع.