محبرة الخليقة (33)

د. حسين سرمك حسن

محبرة الخليقة (33)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع الكبير "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

      بغداد المحروسة

      2012 - 2013

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

ولم يكن كازنتزاكي مخطئاً في تلك العبارة التي رفع بها الإنسان من حضيضه الفعلي إلى مصاف الآلهة حسب ، بل كان شديد الأنانية ايضاً . ولولا الروح الشعرية التي تغيّب انتباهة القاريء النقدية ، لأمسك جميع القرّاء بهذه السمة ، والتي تتمثل في أنّ كل "التقرير" ، بل إن كل ما كتبه كازنتزاكي من مؤلفات ، شعراَ وسرداً ، كان مسخّراً لهموم ذاته ، وللبحث عن خلاصه الفردي فقط تحت غطاء البحث في عدوانية الإنسان وصراع اللاهوت والناسوت كما يّقال . تصوّر الفصل الطويل الذي اقتطعنا منه المداخلة الطويلة السابقة عن نيتشه والذي حمل عنوانه اسم هذا الفيلسوف ، والذي تحدّث فيه عن حماسة هذا النبي الملحد لنزعة السيطرة والقوة التي أوصلتنا إلى الحرب ، وللإنسان الجديد السوبرمان الذي أخرج لنا "هتلر" و "موسوليني" – والآن البوشان الأب والإبن ، وقادة الكيان الصهيوني - ، لم يذكر ماساة الحرب الغربية الثانية ، ومذابحها ، وتقطيع قلوب الأمّهات ، وأجساد الشباب الممزقة (من وُلدوا سكّراً في البيوتِ وراحوا ، فصاروا رماد الحروب ، وعادوا فصاروا على ساعة القلبِ دقاتِ جمرهْ) كما يصفهم جوزف حرب بقلب أمّ ، لم يذكر كازنتزاكي كل هذه المذابح والمآسي والخسائر الجسيمة بكلمة واحدة ، عَبَرَ أشلاء إخوته من البشر بإهمال (اشلائي مبعثرة والمشكلة بإهمال كما يقول أحد الجنود في فيلم خيط أحمر رفيع) ، وانتقل إلى فصل "فيينا" فصل المكبوت الجنسي الذي تفجّر من خلال التهاب جلده في "مرض النسّاك" كما سمّاه المحلل النفسي الذي راجعه آنذاك . في الوقت الذي تتفجّر فيه غيرية جوزف حرب وغيرته الحارقة على مصير أخيه الإنسان ، وما تفعله غولة الحرب به ، فيطل عليه وجه أخيه المغدور – وهو يتساءل بمرارة : أين قتلاي ؟ ، ويؤكد على أن (لا شيءَ يعدلُ رؤيةَ وجهٍ عليهِ ملامحُ خوفٍ من الموتِ ) ، وجه جنديٍّ قتيلٍ مدمّى يستعيد أمامه شريط ذكريات حياته الخائبة التي مزّقتها أنياب الحرب ، ويطلق السؤال المدوّي الذي كان لجدّنا جلجامش شرف إطلاقه ولكن من منظور آخر : لماذا أموت ؟ وليسلّمه الجواب إدانة للقادة اللصوص الذين قطفوا ثمار دم الضحايا في كل الحروب وفي كل العصور :

(                             أتاني قتيلٌ لأقرأهُ منذُ بزّتهِ

العسكريّةِ حتى تناثرِ أشلائهِ ،

                                    كمْ

                                    بكى .

 كم تصوّرَ اشلاءهُ وهو حيٌّ ! تفكّرَ بالروحِ وهي

                                                   تفيضُ !

تذكّرَ .

حنَّ .

تملّكهُ الرعبُ .

ردّدَ وهو يغصُّ :

                    لماذا

                    وُلدتُ ؟

                    ومرَّ بخاطرهِ بيتهُ ، أمّهُ ، من

أحبَّ ، الوسادةُ ، حتّى الذي لم يفكّر به مرّةً مرَّ . مرَّ

الخريفُ . الغروبُ . ولونُ المصابيحِ فوقَ خيوطِ الشتاءِ .

وفي السرِّ يبكيْ

              ويبكيْ

              ويبكيْ .

                   "لماذا أموتُ هنا ؟!

                   لستُ أعني سوى أن أموتَ لهذا

القتالِ المحصّنِ بالقاطفينَ ثمارَ دمائيْ نجوماً ،

                                            وتاجاً

                                            وغاراً ،

                                            وسوقاً ،

                   وليسوا سوى قادةٍ من لصوصٍ

                   سيخفونَ أيديَهمْ

                        بالنشيدْ ،

                        وروحِ

                        الشهيدْ" . – ص 907 – 909) .

هكذا تمسخ الحرب كلّ شيء .. كلّ شيء . ويكفيها أنها قد جعلت هذا الشاعر الذي هو ابن الأرض الأم ، وفلّاحها الشعري ، يكفر بها ، ويلعن الساعة التي جاء فيها إليها . غريبٌ أنّ شاعر الأرض يعلن كرهه للأرض . لقد صارت مليئة بالجراح والمذابح ، مختنقة بالعبرات والمراثي والجنائز :

(                      فلا شيء في الأرضِ . لا

شيءَ إلّا طريقٌ من الحسراتِ

                       نعيشُ

                       اجتيازهْ

                       وراء

                       جنازهْ . – ص 911) . 

كلّ هذا الخراب بسبب الحرب ؛ الغولة التي تلحس أقدام الوجود .. ولأن ممثليها اللصوص هم الذين يمنحون الأرض الأم مجدها ، لا أبناءها المخلّصين الفادين الذين تتناثر أشلاؤهم في ميادين القتال لتكون أجسامهم الكريمة من مسؤولية الله أو كلاب الميدان . وما العمل ؟ العمل/ الحل يجترحه الشاعر بقلب جرّحه اليأس ، ويطلقه كدعاء أليم مجدّف :

(                      فيا ربُّ ، ذي الأرضُ لم

               يعطها

                       مجدها

                       سوى مجرميها . فإن كنتَ

               خالقها

                       ردّها . – ص 911) .  

وسيصبح هذا الدعاء المركّب ، الإبتهال الممزوج بالتشكيك واليأس والإحساس بعبثية الوجود ولا جدواه ، واستفحال مجرمي الأرض الذين صاروا – هم لا الله - يعطون الأم مجدها الدموي وأكاليل الغار السود "لازمة" (ص 912) سوف نلهج بها جميعاً خلف الشاعر ، وعلينا أن نعيدها بعد كلّ نصٍّ من نصوص هذا القسم المقبلة اعترافاً وتسليماً بسطوة الحرب المقيتة ، بدءاً بالنص الأول "لن يعودوا" الذي يحمل نداء الحبيباتِ الجريح اللائي ودّعنَ عشّاقهن وهم يمضون إلى الحرب ، فتصلّبت اصابع رغباتهن ، وشحبت وجوه آمالهن ، وعشّب في وجوههن الدمع . لقد نفضنَ أيديهن من رجاء العودة ، ولم يعدن يحلمن بالتحام الأجساد ودفئها .. صرن يبتهلن إلى الله كي لا تقطّع أجساد حبائهن الضواري وتحملهم للكهوف :

(               ستنقرهمْ في العراءِ الطيورُ ،

وتحملهمْ للكهوف الضواري . ألا ليتَ إنْ

همُ ماتوا ، يكونُ لهمْ قبرُهمْ ،

                وتكونُ

                زيارتهمْ

                ممكنهْ . – ص 915) .

 # وقفتان :

--------------

يقول "روبرت فيسك" في كتابه "الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة – الإبادة" : (لا تنتابني كوابيس بخصوص هذه الأمور ، ولكني أتذكر ، وأتذكر ، وتعاودني صورة ذلك الرأس المقطوع من جسد لاجىء ألباني في كوسوفو ، إثر غارة جوية أميركية حدثت قبل أربع سنوات ، كان رأسا ملتحيا واقفا وسط حقل أخضر ، تحت نور الشمس الساطع ، وكأنه قُطع على يد سيّاف من القرون الوسطى . وكذلك جثة ذلك الفلّاح الكوسوفي المقتول على يد الصرب، والذي فُتح قبره بواسطة الأمم المتحدة ، فبرز أمامنا من الظلمات منتفخا ، وذلك الجندي العراقي في منطقة "الفاو" خلال الحرب الإيرانية – العراقية ، كان يلمع على أصبعه الثالث من يده اليسرى خاتم زواج ذهبي يتيم ، يتوهج بالنور والحبّ لامرأة لا تعرف أنها أمست أرملة) .

أما الروائي العراقي "سلام إبراهيم" فيروي لنا حادثة حقيقية عاشها ، تتجاوز كل أهوال الحروب التي شاهد جوانب من نتائجها "روبرت فيسك" ، حيث يقول :

(إنه الجندي "عبد فرج" ، الذي لملمت أشلاء جسده الممزّقة المقطّعة ، الملوّثة بتراب سهوب شرق البصرة والدماء ، ووضعتها جوار بقاياه الملفوفة في بطانية نقعت بصبيب دمه المتدفّق ، رغم اندماله بجدار الأبدية . جمّعتها باضطراب واضعاً كل قطعة بمكانها ، وكأنني أريد وصلها من جديد ؛ الكف الصغيرة ، الساعدين ، وقدم واحدة فقط . ظللت أدور في أنحاء موقع البطرية بحثا عن القدم الضائعة دون جدوى . ترنّ ضحكته في رأسي . فبالأمس عدنا من الإجازة إلى الجبهة بسيارة تموين الكتيبة القادمة من البصرة . كان يحدثني مرحا عن قدر الإنسان ضاربا مثلا في نفسه ..

لم نعثر على القدم الأخرى إلا في اليوم التالي ، فدفنّاها خلف الساتر الترابي وسط نحيب الجنود) .

الحروب الثلاثة التي خضتها دفاعاً عن وطني ، جعلتني في بعض الأحيان أعتقد أن من يكتب عن الحرب يجب أن يكتب بمسدس ، وحين يصوّر ينبغي أن يستخدم اصباغاً دمويّة . أتذكر هنا ما قاله الكاتب الجيكي (جيري موريك) مصوّراً قصور اللغة في تجسيد وتشخيص الأبعاد الانفعالية المهولة لمفردة مثل (الحرب) :                                                            ( اشتعلت الحرب ، وهذا لا يعني شيئا خاصا ، لأننا جميعا نكتوي بنارها . ونعلم جيدا ماذا تعني كلمة (حرب) . إنها تماما كلمة تتكون من ثلاثة حروف ، لكنها ليست الكلمة الجيّدة للحرب نفسها لأنها كما يبدو لي كلمة رخوة جداً . إنها يجب أن تكون كلمة تدمّر ، وينبغي أن تؤذي . ينبغي أن يخرج من ثناياها دخان البارود ، ينبغي أن تجمّد الدم في العروق . ستبقى هذه الكلمة : (حرب) ، لاشيء إذا قورنت بالحقيقة .." .

... وفي الحروب الثلاث التي خضتها كنت دائماً وأبداً افكّر في أمّهات الجنود ، الحرب – كما قلت – لا تدور رحاها على الأرض بل على قلوب الأمهات . قبل أيام دخل انتحاري ملعون إلى مقهى للشباب قرب بيتنا ، فجّر نفسه وحصدهم جميعاً . استُشهد ثلاثة أخوة من عائلة واحدة .. لا أستطيع النوم ليلاً من دون أن أفكر بأمّهم . يا إلهي كيف ستعيش هذه الإمرأة ؟ بعد أن استُشهد أخي "عباس" ظلّت أمّي تذوي وتذبل حتى ماتت واستشهدت .  ثلاثة أولاد ؟؟!! معقولة ؟؟!! . في قصيدته "الأم" ، ما الذي سيقوله جوزف حرب لهذه الأم .. بل لكل أمّ في المعمورة ثكلتها الحرب بابنٍ لها ؟ :

(                     عندما وجهاً لوجهٍ

                       في القتالِ التقيا ،

                       لا بدا خوفٌ على وجهيهما ،

                   أو

                       بكيا .

                       صوّبا النارَ إلى بعضهما . لكنْ

           بوجهٍ دامعٍ ، فيهِ عناقٌ ،

                                 رأيا

                       أمَّ

                       كلٍّ منهما ،

                       قد

                       وقفتْ

                       بينهما . – ص 916 و917) .

يضع الشاعر بين أيدينا البلسم الكوني الذي أكّدت فاعليته الأسطورة والتاريخ والآداب والفنون : الأم . الحضارة الأمومية التي لا يمكن أن تفرّق بين أبنائها ، فكيفَ بقتلهم ؟

جرّب الكنديّون تجربة في مجال الباراسيكولوجي في السبعينات على فأرة ، تركوا صغارها في مختبر على سطح الأرض ، وغاصوا بها في غوّاصة إلى أعماق هائلة . ثم قتلوا صغارها على سطح الأرض ، فبدأت تركض مرعوبة ، وتلطم نفسها بجدران قفصها الحديدية حتى أدمت نفسها . البلسم الأمومي هو واحد من أهم الحلول لكارثة الحرب في الحياة البشرية . أما الداء الذكوري للصوص الحرب القتلة كما وصفهم الشاعر بحق ، فهو داء الحرب والتمييز والعدوان . فالفارق بين النظام الأبوي والأمومي يتجاوز كثيراً السيادة الإجتماعية للنساء والرجال ، فهو فارق في المباديء الإجتماعية والأخلاقية . والثقافة الأمومية تتصف بتأكيد روابط الدم ، وروابط الأرض ، والقبول السلبي لكل الظواهر الطبيعية .. كل الناس في المفهوم الأمومي متساوون ، ما داموا جميعاً أبناء لأمهات ، وكل فرد إنما هو إبن للأم الأرض . والأم تحب كل أطفالها على نحوٍ متشابه ومن غير شروط ، ما دام حبها قائما على أنهم أطفالها لا على ايّة جدارة خاصة أو إنجاز خاص (بل تحنو الأم على الطفل الرعديد قليل الإمكانيات أكثر من إخوته المقتدرين وهذا عكس القانون الأبوي) . وهدف الحياة هو سعادة الناس ، فلا أهمّ أو اشرف من الوجود الإنساني والحياة . أمّا النظام الأبوي فيرى أن طاعة السلطة هي الفضيلة الرئيسة . وبدلا من مبدأ المساواة نجد مفهوم الإبن المفضّل والنظام الهرمي في المجتمع . إن العلاقة التي من خلالها وصل البشر إلى الحضارة التي هي بداية لتطور كل فضيلة ولتشكيل أنبل سمات الوجود الإنساني هي المبدأ الأمومي الذي أصبحت له فعاليته بوصفه مبدأ الحب والوحدة والأمن . فالمرأة وعلى نحو أسرع من الرجل تتعلم في رعايتها لوليدها أن تمتدّ بحبها ليتخطى ذاتها إلى الكائنات البشرية الأخرى ، وأن توجّه كل مواهبها وخيالها إلى هدف المحاقظة على وجود الكائن الآخر وتجميله . وما من تطوّر في الحضارة ، والتقوى ، والرعاية ، وندب الموتى إلا وله جذوره فيها .. والحنين إلى الأمن ، والإنسانية اللطيفة ما يزال بمقدور المرء أن يراها في التعبير الوجهي لتماثيل عشتار الأم بخلاف الوجه المكفهرّ للإله الذكر . ولعل خير خلاصة علمية نفسية لهذه المواجهة بين العالمين الأمومي ، عالم السلام ، والأبوي الذكوري ، عالم الحرب ، هو وصف المرأة بأنها "كائن إنساني ضمن الطبيعة – human being among nature " ، ووصف الرجل بأنه "كائن إنساني ضد الطبيعة – human being against nature " ، كائن حوّل الحياة إلى ساحة حرب كما يصفها الشاعر في قصيدته التالية "ساحة الحرب" ، والتي يخلط فيها الشاعر وإلى درجة قصوى مفرطة رموز الموت برموز الحياة ، فينتقل الإفراط إلى ضدّه :

(                 ألجراحُ الحمرُ وردٌ . وخزامى مطفأٌ

      أزرقُ نيليُّ على الوجهِ الترابيِّ

                              العيونُ .

                  وجناحٌ مدّهُ النحلُ

                              الأنينُ .

                  وبقايا بيضِ قمصانٍ على خيطانها

      غطّ ذبابٌ مورقٌ ، حتى بدت خضراءَ ،

                  فيها

                  ياسمينُ .

                  والبنادقُ ،

                  لامعاتٌ من بعيدٍ ، كسطورِ الماءِ .

      والقتلى كمنْ مرّت على لوزةِ حقلٍ

                  يدُ

                  سارقْ !! – ص 918 و919) . 

وشيئاً فشيئاً .. لن يعود غريباً أن ينفض الشاعر يديه من تراب أمل عودة (الأبيض) ، وبناء عالم حبٍّ يلتحم فيه الإنسان بأخيهِ الإنسان ، عالم بلا "نقاط" تحسّب أو كراهية أو عدوان سوى "فواصل" الوجود الإنساني الشفيفة . لن يعود هذا الموقف غريباً مادام الإنسان قد سفك من دم أخيه الإنسان ما يفوق كميّات ما أمطرته السماء من ماء .. لم يبقِ الإنسان أداة إلا وصيّرها سلاحاً حسب صرخة المتنبي الشهيرة :

 كلّما أنبت الزمان قناة    ركّب المرء في القناة سنانا 

وبتسليم الشاعر بهذه الحقيقة المرعبة ، فإنه يقرّ بالحقيقة التي ننكرها بكل قوانا والتي تعلن اكتساح غرائز الموت – thanatose لغرائز الحياة – erose في نفوسنا والذي نقدّم أدلته على أرض حياةٍ لم تعدْ فيها الرياح العاصفة إلّا ظلّاً نحيلاً لنواح الأمهات المثكولات :

(               ما أنبتَ الترابُ ورداً احمراً ،

     أكثرَ ممّا أنبتَ القادةُ في الحربِ

                              جراحا .

                ليس بشيءٍ عددُ الأنصابِ عندَ

     المرءِ إنْ

                عدَ

                الرماحا . – ص 922) .