انثيال الذاكرة في اللُّبن الشرقية 3

زياد جيوسي

انثيال الذاكرة في اللُّبن الشرقية

الحلقة الثالثة

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

اللبن الشرقية انثيال الذاكرة  وعدسة: زياد جيوسي

كنت أجول دروب اللبن الشرقية وذهني محلق في فضائها، فكل ما رأيته من آثار وأبنية تراثية، شعرت به يهمس لي بالحكايات، يروي لي قصة الأجداد الذين حفروا الصخر بأظافرهم، وبنوا لنا هذه الذاكرة التي نراها بسواعدهم السمراء الشابة، وكنت أشعر أن الحجارة تتألم من الإهمال الذي لحق بها، فحتى الأبنية الحديثة يمكن استخدام الحجارة التاريخية بها، بدلاً من أن تذهب هدراً أو يسرقها الاحتلال، وبإمكاننا أن نحافظ على روح التراث بالأبنية الحديثة سواء من حيث الشكل وتطعيمها بهذه الحجارة التي تروي الحكايات، كما يمكننا ومن خلال المجالس والبلديات، أن نقوم باستئجار بعض البيوت التراثية المتميزة، والاتصال بجهات مهتمة بترميم الأبنية التراثية، لكي ترمم ويتم استخدامها لمؤسسات ثقافية وفنية ونسويه.

اللبن الشرقية وأنات المباني التراثية بعدسة: زياد جيوسي

   كنت أشعر بكل مبنى يئن ويتألم وهو يروي لي حكايته ويبوح بأسراره، فمن بيت المختار أبي هدرة الذي يئن من الوحدة والإهمال والخراب الذي زحف عليه، حيث لم يتبق في البلدة من ورثة المختار أحد، مروراً بـ (بد) دار أسعد ودار ذيب وكان يعصر فيه الزيتون، وصولاً إلى (علّية) وصفي دراغمة، وشكوى بيوت آل سمارة وبيت عبيد الله، وحكايات و(سواليف) بقالة أبي عفيف، وقد كانت أقدم بقالة والوحيدة في البلدة، ولصاحبها فضل إدخال أول جهاز تلفاز للبلدة، وغيرها مما تبقى من آثار الأبنية، وكل منها يروي حكاية ربما تحتاج إلى مجلدات لسرد الحكايات والتاريخ الشفوي كاملاً، ولعل أهمها معصرة الزيتون أو ما تبقى منها، وهي تعود للمرحوم والد أصدقائي من آل ضراغمة الكرام، وقد دخلت مدخلها المغلق بالأتربة والركام والتقطت الصور للحجارة الدائرية الضخمة التي كانت تستخدم بها، وأظن هذه الحجارة من أهم ما تبقى، ولذا آمل أن تنقل إلى وسط البلدة، لتكون نصباً تذكارياً مبنية قاعدته من الحجارة القديمة، كي يروي حكاية البلدة وبعض من روايتها التاريخية.

ما تبقى من معصرة الزيتون التراثية بعدسة: زياد جيوسي

   ليس من السهل الحديث عن حكايات وتاريخ كل مبنى أو ما تبقى منه، وقد أكون قد تمكنت من توثيق معظمها بالصور التي التقطتها عدستي، حتى وصلنا إلى ديوان آل ضراغمة حيث في ساحته شجرة التوت العملاقة، والتي بدأت تهمس بأذني حكاية المكان، فقالت لي إن هذا المبنى حين أقيم وحفرت أساساته منذ زمن طويل، وجدت تحته مغارة أثرية لها مدخل حجري، وتم أخذ بعض من الحجارة لبناء الديوان، وخصوصاً المنقوشة أعلى بوابة المغارة أصبحت فوق بوابة الديوان، والجميل أن المبنى محافظ عليه ربما لأن استخدامه للعائلة والمناسبات فرضت هذا الأمر.

بوابة ديوان آل ضراغمة التي بنيت من آثار وجدت تحت البناء بعدسة: زياد جيوسي

   حان موعد الصلاة، وكنا قد أنهينا تجوالنا في البلدة القديمة أو ما تبقى منها، لنذهب للصلاة في المسجد الحديث، وهذا المسجد تعرض لحرقه بالكامل من قِبل رعاع وحثالة المستوطنين، وتم إعادة إعماره بالكامل، وقرب المسجد لفت نظري مركز صحي تم بناؤه وتجهيزه بالكامل على نفقة أبناء المرحوم عبد الله الخطيب عن روح والدهم، فترحمت عليه، وشعرت بالسعادة لهذا الاهتمام من أبناء المرحوم بإيجاد صدقة جارية عن روح فقيدهم، وفي الوقت نفسه دلالة مهمة على الانتماء لبلدتهم، فيا ليت هذا التقليد يسري في كل بلداتنا من المقتدرين منها، فعندها ستكون بلداتنا جنائن وجمال.

   من الصلاة اتجهنا نحو (الخان) وهو مبنى قديم بني في عهد الأتراك، وكان مكاناً لاستضافة المسافرين والتجار، ثم أصبح مكاناً للحامية التركية، وبعدها مقراً لقوات الاحتلال البريطاني، وتحول بعد هزيمة 1948 إلى مركز للشرطة الأردنية، وكان موقعه على الطريق القديم لبلدة اللبن التي عرفت باسم (معرجات اللبن) قبل أن يتم تغيير الطريق إلى الطريق الجديدة، وأثناء توجهنا وصحبي إلى الخان، تذكرت الشهيد أبا محمد شهيد الوطن وابن اللبن، والذي كان سائق حافلة ركاب في مرحلة الانتداب البريطاني، وقد أجبره الإنجليز المحتلين على نقل حمولة الحافلة كاملة من الجنود البريطانيين المدججين بالسلاح باتجاه اللبن الشرقية، وفي الطريق عرف من الهمسات أن الجنود متجهين لخوض معركة ضد المجاهدين ونصرة قوات الاحتلال البريطاني المحاصرة، فثارت به العروبة والوطنية والإيمان، فتشهد وصرخ الله أكبر واتجه بالحافلة من أعلى المعرجات لباطن الوادي، ليستشهد بطلاً في سبيل الله والوطن ويقتل كل الجنود المحتلين، فرحلت روحه الطاهرة إلى السماء في الوقت الذي كان ابنه يخوض مع المجاهدين معركة شرسة ضد المحتلين البريطانيين، وهذه الصفحة ليست إلا بعضاً من صفحات البطولة لأبناء شعبنا يجب أن توثق وتورث للأحفاد ولا تنسى أبداً.

الخان، بعض من ذاكرة اللبن الشرقية بعدسة زياد جيوسي

   وصلنا الخان الذي يروي حكايات منذ عهد الخلافة العثمانية والمراحل التي تلتها بين البساتين وجنائن الأرض، فهو مبني على طراز تراثي يؤدي الغرض المطلوب منه، فمن الغرف والمنامات، إلى إسطبل الخيل الضخم، والبستان الخلفي، والمكان يعاني الإهمال، وقد حاول المستوطنون الاستيلاء عليه بكذبة من أكاذيبهم المعتادة، وهي كذبة ارتبطت بعين الماء التي ادعوا قدسيتها بتاريخ لم يكن يوماً في بلادنا، وعين الماء فيه تروي حكايات منذ القدم، وعين الماء هذه والمعروفة باسم عين الخان كانت قوية جداً ومقسمة إلى ثلاث حصص، ثلث لأهل البلدة، وثلث لأصحاب الأرض، وثلث لعابري السبيل، وقد حاول المجلس البلدي بتمويل إسباني سحب الماء لخزان في البلدة، وحين بني الخزان وبدأت عملية تمديد أنابيب المياه الناقلة، تدخل الاحتلال ومنع المشروع وأوقفه، وما زالت آثار (بد) لعصر الزيتون قائمة في المنطقة، وعيون الماء في اللبن الشرقية لها حكايات كثيرة، فمن عين مخيمر التي استولى عليها الاحتلال وحولها لمنتجع للمحتلين، إلى عين الشاعر وعين الراعي وعين الجديدة (القناطر)، وعين الدرة وعين السامرة على حدود عبوين، وكانوا يحضرون الماء منها على ظهور الدواب، وعين الزلف وعين الباشا، وهذه الأخيرة لوثتها الخنازير التي يطلقها المستوطنون لتخريب الأرض والزرع وإبعاد المزارعين عن أراضيهم، وما زالت معظم العيون فعالة وإن ضعفت بسبب شح الأمطار من جانب، وسحب المياه الجوفية من قبل الاحتلال من جانب آخر، فالاحتلال يسعى للاستيلاء على الأرض وما عليها وما تحتها، ويبيعنا مياهنا بالقطارة، ومستوطنيه يملؤون خزانات المياه وبرك السباحة.

الشيخ والأستاذ حامد الهندي وجنته الصغيرة بعدسة: زياد جيوسي

   عدنا إلى البلدة واتجهنا نحو بستان الشيخ والأستاذ حامد الهندي رفيقنا في التجوال، وحقيقة أن البستان على الرغم من مساحته المحدودة كحديقة منـزلية، إلا أن حجم العناية فيه جعلته جنة مصغرة، فتذوقت أطيب أصناف المشمش والفواكه، واحتسينا القهوة، ومن ثم اتجهنا إلى خزان المياه المركزي أعلى البلدة، وصعدنا ما يعادل أربعة أو خمسة أدوار على الدرج إلى سطح الخزان، وما أجمل المشهد من هناك حيث تفرد الحمامة البيضاء جناحيها على السهول الموشاة بذهب القمح، وحيث الهواء العليل، لنتجه بعد ذلك لدعوة الغداء التي أصر عليها السيد جمال ضراغمة (أبو علاء) رئيس المجلس، فحفلت المائدة بمشهيات الطعام من تحت يدي سيدة البيت الأخت أم علاء، وأشهد لها بطيبة النفس وروعة الأصناف التي قدمتها، لأعتذر بعد الغداء والقهوة من أجل المغادرة، فقد تأخر الوقت كثيراً، وكنت قد أصبت بالتعب بعد طول التجوال.

   غادرت بيت أبي علاء مودعاً بالحفاوة التي استقبلت بها، وطلبت من صديقي عبد الحليم أن أزور والدته قبل أن أغادر البلدة، فهي بمقام أم لنا جميعاً، فزرت هذه الأم الرائعة وتمتعت بالجلسة معها واحتسيت القهوة قبل أن أغادر اللبن عائداً إلى رام الله، وأنا أهمس لنفسي: كم تأخرت عن زيارة الحمامة البيضاء، ولكن أن آتي ولو متأخراً خير من أن لا آتي أبداً..

   صباح رامي آخر، إنها بداية الصيف ومع ذلك فالنسمات المنعشة تسود صباح رام الله، فأخرج لأجول في الطرقات في هذا الوقت المبكر، أتنسم عبق الياسمين، وأهمس لها بمشاعر الحب، وأعود وطيفي لصومعتي، نحتسي أنا وروحه التي ترافقني دوماً القهوة، أتذكر رحلتي التي لا تنسى للحمامة البيضاء كما لقبتها تلك الوادعة اللبن الشرقية، وأترحم على أرواح الأجداد الذين بنوا وعمروا، وأستمع لشدو فيروز تشدو: (وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان، وحدهن بيقطفوا وراق الزمان، بيسكروا الغابة، بيضلهن مثل الشتي يدقوا على بوابي).

   فأهمس: أيا أبناء كنعان، أرواحكم ستبقى خالدة، وتراثكم سيبقى أبداً، وأهمس لكم جميعا: صباحكم أجمل حتى نلتقي في رحلة جديدة لبلدة ومكان آخر في الوطن.