أناس الليل ومَشاعرٌ دافئة.. بشتاءٍ قارس

د.هاشم عبود الموسوي

أناس الليل ومَشاعرٌ دافئة..

بشتاءٍ قارس

د.هاشم عبود الموسوي

في منتصف كانون الثاني من هذا العام ، وفي زُحمة الأعمال والإنشغالات المتواترة في مكان عملي الجديد ، والذي بدأته بآندفاع وحماس قبل أربعة أشهر .. وكأني مُنقطعاً نوعاً ما عن العالم ، بدأتُ أشعر بالسأم من أداء نفس الواجبات ، رغم الرعاية الحميمة التي كنت أحس بها من قبل إدارة ومنتسبي وطلبة هذه المؤسسة الأكاديمية ، ولكن ورود دعوة إليَّ مع إثنين من زملائي الأساتذة لزيارة إحدى الجامعات السورية لإلقاء المُحاضرات فيها ، أعادَت إليًّ البهجة ، وكأني أجدد عهداً مع سوريا التي بقيت أحبها منذ زيارتي الأولى لها في بداية ستينات القرن الماضي .. وبالرغم من برودة الجو والأمطار والتي سقطت على مُدن كردستان ، وعلى دمشق أثناء تلك الفترة وحتى وصولنا إليها .. إلا إنني كنت أتمتع بمشاعر دافئة ، تُعيد لي شريطاً مُتناغماً من النشوة عمرهُ أكثر من نصف قرن ... ها هي الطائرة تحط في مطار دمشق ... دمشق فيروزة الدنيا بوجهها المُشرق ، وساحاتها الواسعة الخضراء ونسيمها ورياحها الطيبة تحيينا ، وكان مُستقبلينا من جامعة الإتحاد ، بوجوههم البَشِرَِة .. ينتظروننا في المَطار .. وبعد الترحاب وتناول وجبة غداء في أحد مطاعم الفنادق السياحية بطريق المطار .. توجهنا مُباشرةً إلى مدينة الرقّة ، عروسة الفرات ، ومضيف هارون الرشيد ، تلك المدينة التي استمدت اسمها من الرقّة والنعومة .. وصلناها بعد أربع ساعات من الأحاديث الشيّقة مع مرافقينا ، ووجدناها مثلما قرأنا عنها وقد تشابكت ضفائرها مع نهر الحياة "نهر الفرات" الذي تكونت على ضفافهِ مُدن وحضارات ساهَمت في مَسيرة الحضارة العالمية ، فحضارة الماء والطين كانت البداية للبشرية جمعاء .. وهكذا كان الترحاب بنا حارّاَ من قبل رئاسة جامعة الإتحاد في هذه المدينة الأنيسة . وفي اليوم الثاني كان لقاؤنا مع عميد وأساتذة وطلبة الكلية حافلاً بتبادل وجهات النظر المُتعلقة بالتبادل العلمي والثقافي بين جامعة الإتحاد والجامعات العراقية بتخصص الهندسة المعمارية فيما يتعلق بالمناهج الدراسية والكادر التدريسي ، حتى جاء موعد إلقاء الُحاضرات في القاعة المُدَّرّجة التي غصّت بمجموع الأساتذة والطلبة ، وبالمناقشات المُثمرة.

وفي المساء كان موعدنا مع المطعم السياحي المُطل على نهر الفرات ، لتقدم لنا وجبات السمك الشهيّة والأكلات السورية اللذيذة بحضور كافة منتسبات ومنتسبي الهيئة التدريسية في الجامعة. وفي اليوم الثاني سافرنا الى مدينة "منبج" التابعة لمُحافظة حَلَب ، لنلتقي أيضاً بإدارة وأساتذة وطلبة فرع الجامعة هناك ، وكان يوماً حافلاً أيضاً بالنقاشات العلمية وإلقاء المُحاضرات ، لنودعها مساءً الى حلب الشهباء ، وبعد ترك حقائبنا في أحد الفنادق الراقية المُطل على بارك المدينة القديم ورغم برودة الجو ، تجولنا ليلاً في مركز المدينة وبالقرب من قلعتها الشهيرة .. ولكن ذلك لم يُطفأ ظمأنَا لمشاهدة معالم القلعة بكل تفاصيلها ، حتى طلبنا من مضيفينا بأن نزورها في اليوم التالي نهاراً ، وقد تم لنا  ذلك ، وياللروعة فقد وجدتها على غير ما شاهدتها قبل أكثر من ثلاثة عقود ، وقد لَبَسَت حُلّة جديدة وقد تم تطوير الساحة الأمامية لمدخلها ، إضافةً الى الحفاظ والترميمات الملحوظة على مبانيها ، ومسالكها ، وتنظيم خطوط السير للزائرين باليافطات الدالّة، ومُتحفها وأكشاكها التي احتوت على الكُتب والكاتلوكات ... لقد كان ذلك يوماً مُمتعاً حقاً وسيبقى مُنطبعاً في أذهاننا .. وعند عودتنا إلى دمشق ، كان لابد لي أن أقوم بأداء ثلاث رغبات ، أولها أن أزور الشاعر الكبيرمظفّر النواب ، وهذا الواجب أُحبِطَ لدي عندما علمتُ بأنهُ للأسف كان مُسافراً إلى لبنان للتداوي.. وثانيها هو المرور على مقهى الروضة لألتقي بسفيرنا المُقيم "أبو حالوب" لأعلم منهُ عن أخبار أصدقاء وأحبّة ممن مرّوا على دمشق أو جاءوا من مُختلف أنحاء الدنيا في تلك الفترة ، وقد زرته فعلاً وتمتعتُ بأحاديثهِ لكنني لم ألتقِ في الأيام الباردة بأي من القادمين من بعيد .. وثالثها هو أن أذهب إلى جبل قاسيون وأجلس على قمتهِ لأنظر إلى المدينة الوارعة تحته ، وأتذكر جلسات تلك السنوات الخوالي قبل عقود وعقود من الزمان ، عندما كنا شباباً ونجلس هناك في إحدى مقاهيه ، وتشتد المُناقشات والمُحاورات بيننا حتى ساعة مُتأخرة من الليل .. وكان أجمل من ذلك وخارجاً عن هذا الجدول الذي وضعته لنفسي أثناء الزيارة ، فقد تمتعتُ مع زميلة لي بزيارة مسرح القباني في دمشق ، لمُشاهدة مسرحية "أُناس الليل" وهي من إعداد وإخراج الفنان العراقي "باسم قهّاره" وهي مأخوذة عن رواية "ليلة القدر" (للطاهر بن جلود) ، وقد أدّتها نخبة مُميزّة من الفنانين السوريين المُبدعين .. وحيث تشكّل سيناريو هذا العمل من مجموعة من المشاهد الفنية المُتفرقة والتي ألفّت بنية النص المسرحي ، وكأنها بُنى صغيرة ، تعمل في حيّز بُنية أكبر ..

كان هنالك تعالق لغوي ودلالي ، أجادَ فيه الممثلون إبراز فوضى المشاعر والأفكار التي اتسمت بها عتمة الحواس ، بدلالاتها الرمزية والمكشوفة والتي كانت تُشير إلى تشوه إجتماعي خطر ، ليكون نصيب هذه الأجساد ، البؤس والعذاب . ولأنها لم تكن قد تَشافت من ذاكرة الطفولة واليفوعة والشباب وقد ظلّت مجروحة ، وقد ضاقت ذرعاً بكل الممارسات غير الشرعية .. بلا شك ساهمت لغة الجسد التي مارسها الممثلون ونقاوة اللغة المنطوقة التي أجادوها أيضاً بإعطاء معنى عميقاً وايجابياً وصورة ناصعة في تفسير النصوص والكشف عن دلالاتها . لقد استعمل المُخرج طريقة التحكم بإنزال أشرطة الستائر لفتح وحجب أجزاء من خشبة المسرح ليتجول أحياناً من أرشفات قديمة من حياة الشخصيات الى واقع مرير يعيشونه في حياتهم المُعاصرة.

هذه المسرحية التي أظهرت براعة الكادر الفني الذي قدمها في توازن خطوط العمل والأعداد والإخراج والتمثيل والإنارة والهندسة الصوتية ، كانت لي مثل مسك الختام لهذه الزيارة المُوّفقة.