في لبنان جنة الشرق

جميل السلحوت

جميل السلحوت

[email protected]

وفي حزيران 1971 وبعد تسوّّق من سوق الحميدية في دمشق وزيارة للمسجد الأموي استغرق أقل من ساعتين، استقلينا سيارة الى بيروت، عبرنا نقطة المصنع الحدودية ليقف جبل صنين أمامنا شامخا، يتصاعد بخار الماء منه ضبابا من تبخر الثلوج المتجمدة في بطون أوديته، الجبل تكسوه الخضرة في عزّ الصيف، وأشجار الأرز تتمايل كأنها تفتح ذراعيها للقادمين الى بلادها، والخضرة أيضا تكسو سهل البقاع، فالشعب اللبناني شعب مزارع، يجيد استغلال أراضيه، تماما كما يعشق أبناؤه الغربة بحثا عن الرزق، فيجمعون أموالا ويعودون الى لبنان ليستثمروها، سلسلة الجبال تأسر من يدخل لبنان وتجبره على النظر اليها مسبحا بقدرة الخالق على تشكيل الطبيعة.

في شتورا:

أوقف السائق سيارته أمام محطة استراحة في شتوراـ قبل تسلق سلسلة الجبال العالية-، جلست وجاري في السيارة، ذلك الكهل السوري العامل في لبنان على طاولة واحدة، فسألنا النادل عما نريد أن نشربه؟

فأجبته: شاي.

وعاد يسأل: ساخن أم بارد؟

فأجبته ساخرا: بارد.

واذا به يحضر لي كأسا كبيرة ملأى بالشاي المثلج، فقبلتها على مضض لأنني لم أكن أعلم وقتئذ بوجود شاي بارد، فكانت هذه المفاجأة الأولى لي في لبنان...أما جاري السوري فقد رفض تناول كأسه ووبخ النادل الذي اعتبره يستهزئ بنا بشايه المثلج....فما كان من النادل سوى أن اعتذر واستبدل له الشاي المثلج بالشاي الساخن.

تسلق الجبال:

ولا مجال للقادمين من سوريا عبر نقطة المصنع قاصدين بيروت سوى المرور بالشارع الذي يشبه الأفعى في بطن سلسلة الجبال، انه شارع شديد الخطورة لكثرة انحناءاته ليكسر شدة انحدار سلسلة الجبال، ومع ذلك فان المنظر مغر لعشاق الطبيعة، فكلما تقدمت السيارة باتجاه قمة الجبل كلما انكشفت مناظر جميلة وجديدة، ويحتار المرء في أيّ الاتجاهات ينظر، فلبنان عروس تجيد الغواية، والثلوج المتحجرة في(جوفات) السلسلة الجبلية ساحرة وبخار الماء يتصاعد منها كدخان موقد عظيم، والأعشاب تتطاول في سباق بحثا عن الضوء والحرارة، وجداول مائية تنساب بخريرها العذب....شعرت بصداع نصفي عندما وصلت قمة السلسلة الجبلية، وهذا ما كان يحصل معي كل مرة مررت بها من ذلك المكان، ويبدو أن لاختلاف الضغط الجوي دور في ذلك...اتجهت السيارة باتجاه الغرب في طريقها الى بيروت، وتوقف السائق قرب نبع وسط المكان المأهول للتزود بالماء، كان الماء زلالا شديد البرودة، ومن منطقة الأشرفية تبدو بيروت الغربية باذخة وهي تسترخي على شاطئ البحر

في بيروت:

وصلنا مكتب التاكسيات في ساحة البرج، ويومنا يوشك على الرحيل...استقليت سيارة الى جامعة بيروت العربية حيث يقابلها مكتب تسجيل الطلاب المنتسبين لأجد عنوان زميليّ وقريبيّ اللذين سبقاني الى بيروت ببضعة أيام، يقع البيت على الجانب الشرقي للملعب البلدي...ليس بعيدا عن الجامعة، انه شقة في الطابق الثاني من بيت قديم جدا، تصل الى الشقة بدرج خارجي، وهي شقة مكونة من غرفتين وصالة ومطبخ وحمام، وبجوارها شقة أخرى تسكنها امرأة شابة مع طفلها الذي لم يتجاوز عمره ثلاث سنوات، وقد أخبرتنا أن زوجها تاجر سيارات سافر الى ألمانيا لشراء صفقة سيارات، وتبين لنا لاحقا أنه سارق سيارات ويقضي عقوبة في السجن....أما الطابق الأول فتسكنه الأسرة مالكة البيت، وربة البيت هي شقيقة زوج جارتنا في الطابق الثاني، وهي امرأة فاضلة عطوفة عاملتنا وكأننا أبناؤها، تعيش مع ابنها الذي يعمل جزارا في ملحمة تملكها العائلة، وتقع على الشارع وهي جزء من البيت...وابنها شاب أديب حييّ....تزوج ونحن في جوارهم....وقد لبيت دعوة والدته لنا بحضور الزفاف...في حين رفض زميلاي ذلك حياء، ولأنهم على موعد مع امتحان جامعي صباح اليوم التالي، كان الحفل عائليا والحضور حوالي عشرة رجال ومثلهم من النساء، وعدد من الأطفال، دبكوا دبكة شعبية مشتركة على موسيقى القِرَب...أعطوني رعاية خاصة وألزمتني والدة العريس أن أقف معهم في الدبكة وهي تطوي ذراعي بذراعها، شاركتهم طعام العشاء وعدت الى مكان سكني في الطابق الثاني.

الخصوصية اللبنانية

ولبنان بجماله وطيب شعبه، وتعدد الثقافات فيه، يتميز عن غيره من المدن العربية، بأشياء كثيرة، أولها أنه بلد ديموقراطي يحافظ على توليفة طائفية يحكمها الدستور اللبناني الذي يقسم المناصب العليا بين الطوائف، ومع أن الوطن واحد، والشعب واحد الا أنه من اللافت في بيروت وجود أحياء تسكنها طائفة معينة، ولا ينفي هذا سكن آخرين من طوائف أخرى في أحياء الغالبية فيها لطائفة بعينها، وبيروت التي تقام أحياؤها الحديثة على نمط المدن الأوروبية، ويظهر ترف الأثرياء خصوصا من اغتربوا وعادوا بأموال فبنوا العقارات الفاخرة، واقتنوا السيارات الفارهة، تظهر فيها أحياء  الفقر المدقع لأسباب لا يفهمها الزائر للبنان، وقد لا يفهمها ساكنوا هذه الأحياء، أو أنهم ارتضوا قدرهم ولو الى حين، وأحياء الفقر في بيروت يتمركز فيها أبناء الطائفة الشيعية، الذي يظهر أن بناتهم لا يحظين بحقهن في التعليم، أو على الأقل هذا ما علمته من البيوت التي سكناها في سنوات الدراسة، فقد شاهدت صبايا يواكبن موضة الملابس لكنهن أمّيّات لا يجدن القراءة والكتابة، وتلتصق ببيروت مخيمات اللجوء الفلسطيني، الفاكهاني، صبرا، شاتيلا، وبرج البراجنة، وهي متداخلة في أحياء بيروت الجنوبية التي يقطنها أبناء الطائفة الشيعية، والقيود المفروضة على لاجئي لبنان لا مثيل لها في الدول العربية الأخرى، ففي الأردن مثلا يحظى اللاجؤون بحق المواطنة الكاملة بكل ما لها وما عليها، لكن أوضاعهم في لبنان مختلفة تماما، وهم يعيشون في أوضاع مزرية في مختلف مجالات الحياة، وجزء كبير منهم يعمل في بيع الخضروات والفواكه من خلال العربات المتنقلة التي يجوبون فيها أحياء المدينة بحثا عن رغيف الخبز المرّ.

وأول مظاهر الديموقراطية التي شاهدناها في لبنان هو حرية الصحافة، وما يظهر فيها من مقالات تنتقد المسؤولين بمن فيهم رئيس الجمهورية والوزراء، بل انها تكتب فضائح عن مسؤولين كبار، وفي لبنان تنشر الكتب التي لا يسمح بنشرها في بلدان عربية أخرى، كما أن المعارضين السياسيين الهاربين من بلدانهم العربية يجدون في لبنان ملاذا آمنا، والتحرر من قيود العادات والتقاليد السائدة في المجتمعات العربية الأخرى ظاهر للعيان في بيروت، فالحريات الشخصية يحميها القانون، لذا فلا غرابة عندما أُطلق  على بيروت"باريس الشرق الأوسط"، ونظرا لهذا الانفتاح في لبنان فان بيروت تعج بزائريها العرب-خصوصا من أبناء الخليج- الذين وجدوا في لبنان ما لا يجدونه في بلدانهم، وقد شاهدت الخليجيين يتهافتون على بسطات بيع الكتب أمام الجامعة لشراء الدواوين الشعرية لشعراء فلسطين مثل محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، عبد الكريم الكرمي"أبو سلمى"ومؤلفات اميل حبيبي، اميل توما، وآخرين، حتى أن بسطات الكتب على العربات المتنقلة لم تكن تحتوي الا على مؤلفات فلسطينية، وسبب تهافت الشباب العربي على الابداعات الفلسطينية يعود الى اعتبارهم القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى، وذات يوم وفي حرم الجامعة كان طالب فلسطيني من احدى قرى قلقيلية يصيح مولولا عندما افتقد محفظته ولم يجدها، وبداخلها تسعون دينارا أردنيا هي كل ما يملكه، فهدأت من روعه، ووقفت قرب نافورة في ساحة الجامعة طالبا من الطلاب الآخرين أن يتبرعوا له، فتقدم مني بضعة طلاب خليجيين وتبرعوا بأكثر من مائتي دينار أردني دفعة واحدة، وانتهت عملية جمع التبرعات في أقل من دقيقة.

الروشة

وعلى شاطئ بيروت الغربي، تقع منطقة الروشة الصخرية الجميلة، والتي يقع عليها حيّ راق، يفصله عن البحر شارع، وما بين الشارع والبحر يقع مطعم سياحي يعلو الارتفاع الصخري الذي تتلاطم تحته أمواج البحر، وعلى امتداده القريب تظهر صخور مدببة حادة، تعقبها في البحر صخور مرتفعة وسط المياه، احداها صخرة يخترقها ما يشبه النفق، أو ما يشبه البوابة، ويطلقون على هذا الشريط الساحلي الصغير"مكان انتحار العشاق" وذلك لأن بعض الشابات والشبان ممن يفشلون في حبهم يلقون بأنفسهم من تلك المنطقة الصخرية التي يزيد ارتفاعها على عشرة أمتار، فيلقون حتفهم، ولا يستطيع المنقذون إخراج جثامينهم الا عندما يكون البحر في حالة مدّ، فيدخلون بقوارب صغيرة ويسحبون جثمان المنتحر،  أما في حالة الجزر فإن الصخور المدببة التي تشبه السيوف الصائلة في الجو تحول دون دخول السباحين والقوارب.

وبجانب منطقة انتحار العشاق يتداخل الشاطئ الصخري ليشكل بركة دائرية متصلة بالبحر بما يشبه عنق الزجاجة، ومن أعلاها الذي يصل الى ما يقارب عشرة أمتار يمارس من يهوون القفز في الماء هوايتهم، فيقفزون بالمياه العميقة ثم يستديرون الى جهة الجنوب، ويخرجون الى الشاطئ ليعاودوا ممارسة هوايتهم مرات ومرات، وذات يوم كان رجل يعلم طفله ابن السابعة القفز في مياه ذلك المكان، يقفز الطفل ويتبعه والده مباشرة، وكانت امرأة شابة قروية ترتدي ثوبا مطرزا جميلا وبصحبتها أطفالها، فاندفعت بعاطفتها الأمومية وأمسكت بيد الطفل تريد تخليصه من إرشادات والده له بالقفز، وصاحت بالوالد وبشكل عفوي:"خاف ربك..أترك هذا الطفل" وقالت للطفل "وين أمك يا ليتك تقبرها يا أمّي"وسحبت الطفل وأجلسته بجانبها، وقبلته مذعورة خائفة عليه من الغرق، ولم يستطع والده اقناعها وهو يبتسم لردة فعلها بأن طفله يجيد السباحة والغوص والقفز في الماء، وأنه متعود على ذلك.

 وما بين مكان القفز والمطعم السياحي مرورا بمكان"انتحار العشاق" لا يزيد طول الشريط الساحلي على 200 متر تجدها مكتظة بعشاق البحر.

وجبة ضفادع:

وذات يوم تحققت رغبتي وزميل لي بدخول مطعم الروشة الذي لا يدخله الا الأثرياء، وذلك بأن دعانا طالب عُماني ثري يركب سيارة"جيكوار"الفاخرة، يدرس التجارة، كان يجتاز امتحان مادة ويعتذر عن أخرى، فهو ليس على عجلة من أمره لتكميل دراسته، وكل همّه أن يسيح في لبنان، وأن يتمتع بجمال هذا البلد...رافقته وزميلي يوما واحدا بعد الحاح شديد منه، وقد رفضنا رفقته لعدم قدرتنا المالية على مجاراته، غير أن طيب الرجل ومرحه كسر حاجز الحياء عندنا، وقد أخبرته بأننا لا نملك أموالا لإنفاقها خارج ضرورات الحياة، الا أنه أجابنا:"لا تهتموا يا اخوان...خير الله كثير واعتبروني أخوكم" وعرض علينا أموالا الا أننا رفضناها باصرار،  قاد سيارته بنا صباحا الى منطقة الزيتونة الساحلية الراقية، لنتناول قهوة الصباح في مطعم على سطح فندق من عدة طبقات، ونقد النادل مائة ليرة لبنانية اكرامية"بغشيش" وهي تعادل مصروفنا لأكثر من اسبوع، وعند الظهيرة قاد سيارته بنا الى مطعم الروشة لتناول الغداء، وهو مطعم كنا نحلم بالجلوس فيه والتمتع بجمال الطبيعة، وجمال الساحل الصخري، حيث تجوب قوارب المتنزهين والمصطافين مياه البحر، لكن أوضاعنا المالية حالت دون تحقيق ذلك.

وفي المطعم امتلأت طاولتنا بعشرات صحون السلطات المختلفة والمقبلات من مخللات وغيرها، وطلب رفيقنا زجاجة ويسكي، ثم استأذننا بأن يختار لنا وجبة الطعام الرئيسة، وكانت تشكيلة كبيرة من اللحوم المشوية، لحوم الخراف وعدد من طائر"الفرّ" المشوي على الفحم، وبجانبه عدد من التي حسبناها عصافير، فاستهوتنا بطعمها اللذيذ، ولم نعلم نحن ورفيقنا العُماني أنها ضفادع بحرية الا بعد أن أنهينا وجبتنا، فأبدينا تقززنا، ولو علمنا أنها ضفادع لما أكلناها لاقتران ضفادع المستنقعات بذاكرتنا، ولأننا لم نعتد على أكل الضفادع.

جمال الريف:

أمضينا يومنا مع رفيقنا العُماني، حيث اتجه بنا شرقا، ومن بطن جبل كانت قبالتنا قرية بديعة الجمال كما هي القرى اللبنانية، فطلبت من رفيقنا التوقف لنُغذي عيوننا بجمال تلك القرية، فأبنيتها  تشي بثراء أبنائها، وهندسة الأبنية تدعو الى التأمل، في حين أن أشجار الأرز المتداخلة بين البيوت تنبئ أن وجودها ليس عفويا، والورود تصطف في حدائق البيوت وعلى أرصفة الشوارع، أما الشوارع الواسعة فتتمطى كالأفاعي لتربط أحياء القرية بعضها ببعض، والجمال ليس حكرا على تلك القرية، فالقرى اللبنانية في غالبيتها منظمة وجميلة، وهي تعكس ذائقة أشقائنا اللبنانيين الذين يقدسون الجمال، وعند المساء فارقناه بحجة انشغالنا في الدراسة استعدادا لامتحان اليوم الثاني، ولم نرضخ لاصراره على اصطحابنا في الأيام التالية.

الرطوبة:

وبيروت الغربية التي تقع على ساحل البحر حارة جدا في الصيف نظرا لارتفاع نسبة الرطوبة في الجوّ، لذا فان جزءا كبيرا من مواطنيها يصطافون في الجبل..في بيروت الشرقية، حيث النسيم العليل، والجو المعتدل الذي قد يلزمك بارتداء معطف ليلا وفي ساعات الصباح، ويقومون بتأجير بيوتهم للطلاب المنتسبين لجامعة بيروت العربية، وفي احدى السنوات استأجرنا بيتا من ضابط شرطة لبناني، قرب المدينة الرياضية، يفصل بينه وبين مخيم الفاكهاني شارع، ويقع قبالته مستشفى للأمراض العقلية، وفي ليلتي الأولى في ذلك البيت نمت على"صوفا" في الصالون بدون غطاء نظرا للحرارة المرتفعة، وما أن أطفأت الضوء حتى شعرت بلسعات مؤلمة، فنهضت مذعورا وأضأت المصابيح الكهربائية، واذا بطوابير من حشرات البقّ تنتشر، آلاف مؤلفة من البقّ القاتل، ونهض زملائي الثلاثة من غرف النوم، وكان فراش أسِرَّتِهِم ينعف البقّ نعفا، فلمتهم على استئجار البيت، لأنهم سبقوني بيومين الى بيروت، واتصلنا بضابط الشرطة مالك البيت هاتفيا، وقلت له مازحا وغاضبا: هل يوجد عندك مخطط لقتلنا بلسعات البق الذي يملأ بيتك؟ وفي صباح اليوم التالي حضر بصحبة زوجته، وصحبة رجل يحمل على ظهره مضخة لمكافحة البق، وقام برش البيت يومين متتاليين، وتنازل لنا عن نصف الأجرة البالغة 500 ليرة لبنانية.

أمسية شعرية:

وفي العام 1973 سكنا في منطقة المزرعة، فأخبرني جارنا اللبناني عن وجود أمسية شعرية للشاعر العراقي مظفر النواب في سينما بيروت على كورنيش المزرعة، وهو مكان قريب من سكننا، ومع أنني لم أسمع باسم ذلك الشاعر من قبل، الا أنني رافقت جارنا اللبناني لتلك الأمسية، كانت قاعة السينما مكتظة بالحضور، وعندما خرج الشاعر من خلف الكواليس، كان مخمورا وفي يده زجاجة ويسكي، وتنتظره أخرى على الطاولة، وبعد قصيدته الأولى احتسى ما تبقى في الزجاجة التي في يده، وكسر الزجاجة وقام بتجريح ساعديه وهو يلقي قصيدته الثانية منفعلا، فخلته مجنونا وانسحبت من القاعة.

  شارع الحمراء:

وشارع الحمراء  يغص بالمحلات الراقية، وعلى مقربة منه تقع جامعة بيروت الأمريكية، وفيه تقع المسارح والفنادق، وحياة الترف التي يعيشها المترفون من لبنان ومن زائريها، سكن أحد أقاربنا الذي يعمل مديرا لاحدى الشركات في الأردن، وجاء بيروت بصحبة زميل له ليدرسا الحقوق انتسابا في جامعة بيروت العربية، التقيته وزرته في الشقة المفروشة التي استأجراها في شارع الحمراء أكثر من مرة.

وفي أحد الأيام طلب مني -لوجود امتحان عنده- أن أذهب الى الميناء، لاحضار ابن عمه القادم على ظهر باخرة من موسكو حيث يدرس الهندسة الكهربائية، فذهبت الى الميناء، وعند مدخل الميناء طلب رجل أمن جواز سفري، ولم يكن معي سوى بطاقتي الجامعية، لكنه لم يعتمدها بحجة وجود بطاقات جامعية مزيفة، ونظرا لقرب وصول السفينة، ولبعدي عن مكان سكني فقد صحت به غاضبا:

وهل تراني أملك مصنعا لتزييف البطاقات الجامعية؟.... وحاولت الدخول عنوة، فغضب رجال الأمن مني واقتادوني الى المخفر الأمني، حيث احتجزوني في زنزانة دون سؤال أو جواب، وبعد حوالي نصف ساعة، طرقت باب الزنزانة بعنف، فأطل عليّ شرطي من كوة الباب ينهرني، فطلبت منه أن يعمل معي معروفا بأن يتصل هاتفيا بقريبي ليخبره أنني أنا "الشيخ جميل" محجوز عند الشرطة، كي يتدبر أمره باحضار ابن عمه من الميناء، فغاب الرجل وبعد أقل من دقيقة حضر بصحبة الضابط ليطلق سراحي ويعطيني إذنا بدخول الميناء مع الاعتذار الشديد لي، وعرفت من قريبي لاحقا أن الرجل ربما ظن بأن اسم الشيخ هو اسم حركي لرجل في المقاومة الفلسطينية، وخاف من الوقوع في مشكلة، وهذا ما دفعة لاطلاق سراحي والاعتذار لي.

وعندما خرجت من باب المخفر شاهدت قريبي القادم من موسكو في سيارة أجرة، فصحت عليه مناديا باسمه، واستقليت السيارة معه الى شارع الحمراء حيث يسكن ابن عمّه.

الهجرة الى افريقيا:

وفي صيف العام 1974استأجرنا بيتا قرب الملعب البلدي قريبا من الجامعة، البيت قديم جدا ويتكون من غرفة نوم واحدة وصالة ومطبخ صغير وحمام، وأمامه برندة بمساحة غرفة، على جنباتها تصطف قوارير الورود المختلفة، البيت يقع في شارع أبنيته حديثة ومن عدة طوابق، وفي كل طابق أربع شقق، لا بيوت قديمة في ذلك الشارع غير البيت الذي استأجرناه من امرأة عجوز في آواخر الثمانينات من عمرها، أجرتنا البيت وذهبت للاقامة مع ابنتها التي تسكن شقة في البناية المجاورة، والعجوز تزورنا يوميا لريّ ورودها، كانت تتحسس كل نبتة وكأنها تطمئن عليها، أو كأنها تعتذر منها على رحيلها عنها الذي سيمتد لثلاثة أسابيع...نمت على سرير بجانب نافذة تطل على البرندة، ويمتد السرير الى باب البيت، وبعد يومين من سكننا غفونا بعد منتصف الليل، واذا بشخص يمد يده من نافذة الباب يريد أن يفتحه من الداخل، فأمسكت بيده وثنيتها بالاتجاه المعاكس، وصحت بزميليّ كي يستيقظا للإمساك بـ"اللص" الذي يحاول اقتحام البيت، كان الرجل مخمورا وعرّفنا على نفسه بأنه حفيد صاحبة البيت، ولا يعلم بأن جدته لأبيه قد أجّرت البيت،  وألقى سيلا من الشتائم على جدّته، فاقتنعنا بصدق روايته، وأخبرنا أنه يعمل حلاقا، ويعود الى البيت مرتين أو ثلاثة في الأسبوع لينام بجوار جدته، لأنه مطرود من بيت والديه لتعاطيه المخدرات...حمل "صوفا" ونام في البرندة.

وفي اليوم التالي عرفنا منه ومن جدته ومن شقيقه أن أحد أبنائها يملك عشر بنايات في الشارع، وأنه يريد إزالة البيت القديم ليقيم مكانه بناية حديثة، لكن والدته العجوز ترفض إخلاء البيت الذي قضت فيه غالبية حياتها، وأنجبت فيه جميع أبنائها، وترفض استبداله بقصور الدنيا، وأخبرونا أن الرجل مغترب في أوغندا، ويملك فرنا للخبز هناك، وهو الفرن الآلي الوحيد في ذلك البلد، وقد جمع أموالا طائلة من عمله هذا، وعلمنا أن جزءا من المهاجرين اللبنانيين قد اتجهوا في هجراتهم منذ ستينات القرن الماضي الى الدول الفريقية لأنهم يعتبرونها أراضي بكرا للاستثمار، وأن هناك جاليات لبنانية في مختلف الدول الافريقية، ودهشنا من ذلك لأن الهجرة في بلادنا الى افريقيا غير معروفة، والمهاجرون من بلادنا يتجهون للعمل في الدول العربية، أو الى الدول الغربية خصوصا أمريكا.