على ضفاف الفرات

بسام الهلسه

شمالاً نحو الرقة

بسام الهلسه

[email protected]

*ترددتُ, بسبب حالتي الصحية التي تتطلب تجنب الإجهاد, عندما اتصل بي مدير التحرير ليقترح عَليَّ السفر خارج البلاد في مهمة لتمثيل جريدة "الدستور" في ندوة عن "الإعلام والسياسة". لكنني غالبت ترددي وحسمت أمري بالموافقة عندما علمت أن الدعوة موجهة من مديرية الثقافة بالرقة في الجمهورية العربية السورية, برغم طول الرحلة البرية التي كان عَليَّ أن أسلكها من عمَّان الى دمشق ومنها الى مدينة الرقة الواقعة على ضفاف نهر الفرات في شمال وسط سورية, حيث تقام الندوة.

 * * *

أمضيتُ ليلة في دمشق قبل أن أواصل السفر ظهيرة اليوم التالي إلى الرقة, حيث سارت بنا الحافلة التي خصصتها مديرية الثقافة لنقل المشاركين قرابة ست ساعات عبر طريق حمص- السلمية, متجنبة الطريق القديمة المارة عبر حلب التي كانت ستزيد الوقت ساعتين إضافيتين.

لم أشعر بمشقة السفر ومَللِه إذ حظيت بصحبة اثنين من الشخصيات الإعلامية البارزة: السوري: فؤاد بلّاط/ المدير العام للإذاعة والتلفزيون سابقاً/ ومستشار وزير الثقافة حالياً/ صاحب الأقوال المأثورة والنوادر البارعة, واللبناني: غسان الشامي/ معاون مدير وكالة يونايتد برس إنترناشيونال/ والكاتب الصحفي والباحث متعدد الإهتمامات/ الذي تفضل فأهداني مشكوراً بحثه الجديد: "في ديار مار مارون". فقد تكفلت أحاديثهما المتنوعة, في الشعر والأدب والموسيقا والسياسة والتاريخ, بتحويل الرحلة الطويلة الى سياحة ثقافية خصبة.

وكان للمداعبات اللمَّاحة لمرافقنا/ عضو اللجنة الإعلامية للندوة: "حسن الخلف", عن "المناكفات" و"النكايات" القائمة بين مدينتي "الرقة" و"دير الزور"ــ التي كانت الرقة تابعة إدارياً لهاــ أن تشيع أجواء البهجة في الحافلة الصغيرة التي تقلنا ونحن نطوي طريق البادية السورية المترامية.

 * * *

أخيراً, تراءت لنا أضواء الرقة في عتمة الليل وصمته المهيب. وصلنا, فوجدنا منظمي الندوة في انتظارنا: محمد العبادة/ مدير مديرية الثقافة, د.رشيد الحاج صالح/ المنسق العام للندوة/عميد كلية التربية في جامعة الفرات, وإبراهيم الزيدي/ أمين السر/المشرف الثقافي. بعد الترحيب والضيافة والتعارف, جرى نقلنا الى الفندق الذي اختير لإقامتنا فالتقينا فيه بمن سبقنا من ضيوف الندوة القادمين من دول عربية وأجنبية متعددة:السعودية, مصر, الاُردن, الإمارات, قطر, تونس, لبنان, إيران, فرنسا, إضافة الى المشاركين من الدولة المضيفة, سورية, الممثلين لمختلف وسائط ومراكز الإعلام, وعدد من الشخصيات المهتمة في محافظة الرقة, التي تمثل الندوة بالنسبة لها حدثاً مميَّزاً كما هي الحال في معظم المدن الطَرَفية التي تستشعر الرغبة في تأكيد ذاتها والمشاركة في الإهتمام الذي تستأثر به العواصم عادة.

مع هذا الحشد من المشاركين, والمنظمين, والمهتمين, لم يكن التفكير في الراحة والنوم وارداً حتى الساعات الأولى من الفجر, وربما تكمن أهمية الندوات والمؤتمرات فيما يجري على هامشها, وبموازاتها, من لقاءات وتفاعلات و"دردشات", بجانب أهميتها الخاصة بالذات. هذه الملاحظة راكمتها خلال سنوات كثيرة من المشاركة في العديد من الملتقيات, ويعرفها كل من خبروا هذه التجارب.

 * * *

الإستيقاظ في بلد لم يسبق لك زيارته, يحفزك على القيام بجولة للتعرف عليه, وهذا ما فعلناه قبل أن نتوجه الى قاعة "مدرج دار الأسد للثقافة" التي جرت فيها وقائع الندوة على مدى ثلاثة أيام: من 9/11 إلى 11/11 الماضي, بمعدل جلستين يومياً(جلسة صباحية وجلسة مسائية) تحدث فيها أكثر من خمسة عشر مشاركاً, إضافة الى كلمات حفل الإفتتاح, وفقرات العرض الفني الذي قدمته "فرقة الرقة للفنون الشعبية" بقيادة الفنان اسماعيل العجيلي.

لن أتحدث عن جلسات الندوة وما قدِّم فيها من مداخلات ومناقشات تناولت موضوع "الإعلام والسياسة" من جوانب وتجارب متعددة, فقد بثتها ونشرتها وسائط الإعلام المختلفة, وستقوم مديرية الثقافة في الرقة بنشرها في كتاب خاص حسب التقليد المرعي لديها بنشر الفعاليات الثقافية العامة التي تقيمها على مدار السنة بهِمَّة ملحوظة. هذه الهمة, جديرة بأن تكون موضع إقتداء من جانب سائر المدن والمحافظات العربية التي تعاني من تركيز النشاطات في عواصم دولها, فيما تكتفي هي بالشكوى والتذمر من دون أن تقدم على المبادرة.

وإذا كانت المبادرة تعود الى الطاقة العالية المُصَمِّمة لمجموعة العاملين في مديرية الثقافة خلال سنوات مديدة, ومن يؤازرهم من مثقفي وفناني الرقة وشخصياتها الإجتماعية المعنية بتعزيز سمعة ومكانة المدينة والمحافظة, فإن إحتضان النشاطات ورعايتها وتوفير ما تحتاجه: مالياً وإداريا وخدمياً, إنما يعود ــ كما سمعنا وكما لاحظناــ الى الإهتمام الخاص الذي أبداه المحافظون المتعاقبون والمسؤولون الآخرون في المحافظة, وهو ما عايناه بأنفسنا من متابعة يومية دؤوبة من جانب راعي الندوة/ المحافظ الدكتور المهندس عدنان السخني.

 * * *

غادرنا الرقة في الخامسة من فجر يوم الجمعة 12/11 لنعود الى دمشق: محطة تجمعنا وافتراقنا. في الطريق توقفنا قليلاً عند تقاطع سكة الحديد ليعبر القطار الذاهب الى العراق. لوَّح لنا ركابه العراقيون, ثم أطلق صافرته كما لو أنه يتثاءب وسار يجر عرباته بتثاقل.

من نافذة الحافلة, ألقيت نظرة مستغرقة على الفرات الهادىء المتمهل الذاهب أيضاً الى العراق. حَسَدته, وتذكرت لقاءً قديماً جمعني به عند مصبه في شط العرب. قلت لنفسي: ألا يبالي؟ هو الآن محتلٌ هناك! وتحَسَّرتُ: لم يعد بوسعي زيارة شط العرب, ولا زيارة البصرة.

 * * *

يخبرنا التاريخ أن أغلبية أجزاء سورية والعراق قد تمَّ توحيدها لأول مرة على يد القائد "سرجون الأكادي"(أكد, تعني: جَمَع, ضَمَّ, وَحَّد, عَقد), في أوائل الثلث الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد, واُعيدت الوحدة مع الفتح العربي/ الإسلامي في مطلع الثلث الثاني من القرن السابع بعد الميلاد, وظلَّتا كذلك حتى مزقهما الإنجليز والفرنسيون بين دولتيهم في اتفاقيتي: "سايكس ــ بيكو" و"سان ريمون".

لكن مقاومة شعبي البلدين دحرت الغاصبين القدامى فجلوا, وسيجلو مثلهم الغاصبون الجدد الاميركيون الذين جاء ممثلهم "كولن باول" ليقول, بتبجحٍ, للرئيس السوري غداة غزو العراق: ها قد صرنا جيرانكم!

 * * *

عدتُ إلى عَمَّان محمَّلاً بالذكريات والصداقات والتعب الأليف. وحينما سُئلتُ عمَّا كتبته, كان جوابي: أريد, فقط, أن أنام!

..........................................................

ــ والرقة؟ جارة الفرات العتيقة الهائمة, وعاصمة هارون الرشيد الصيفية, وذاكرة رمضان شلاش, وديرة عبدالسلام العجيلي؟

ــ في البال صدى يتردد من غنائها:

"مِن فوق جسر الرَّقة      سَلَّمْ عَليَّ بِيْدُه"

"ما قدرت أرُد السَّلام      خوف يقولون: ترِيْدُه"