أمريكا (2)

د.عثمان قدري مكانسي

أمريكا (2)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

حين غادرت  حي " هاليدون " في مدينة " باترسون " إحدى مدن ولاية " نيوجيرسي " في شمال الولايات المتحدة يوم السادس والعشرين من أيار عام ألفين وواحد قدّمت  الإدارة  المسؤولة عن المدارس الإسلامية  طلب استقدامي للعمل فيها للدوائر المختصة في الولاية ... ولعل الروتين الشديد الذي تمتاز به معظم الدوائر الأمريكية جعل الموافقة على الطلب يستغرق سبعة أشهر . فقد اتصل بي الدكتور " الخوام " رئيس مجلس شورى هذه المدارس – وكنت في إيطاليا ، في مدينة " جنوا " أقضي شهر رمضان المبارك بدعوة من إدارة مسجدها عام ألف وأربع مئة واثنين وعشرين للهجرة النبوية المباركة ... في شهر كانون الأول من السنة الميلادية نفسها يخبرني أن الموافقة تمت ، وأنه سيحمل الأوراق معه حين يسافر للحج ، أو يرسلها بالبريد السريع إلى عمان حين أعود إليها .

وصلت أوراق الموافقة في أوخر كانون الثاني للعام الميلادي الجديد ألفين واثنين ، وتريثت في استصدار تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة لسببين اثنين : أولهما أنني كنت أفاضل بين العمل فيها والعمل في " قطر " .. وثانيهما أن السنة الدراسية في نيوجيرسي أنهت شطرها الأول وبدأت الثاني منذ أيام .. وعلى هذا فعملي يبدأ في العام الدراسي المقبل ، ولن يكون لذهابي هناك فائدة تُذكر . إلا أن الرجل زارني في عمان بعد حجه العتبات المقدسة ، وأكد على ضرورة الالتحاق بالعمل ! ، وأن هناك فائدة لوجودي .

قدمت الأوراق اللازمة للسفارة الأمريكية في عمّان .... وكانت التأشيرتان على جوازي سفرنا في اليوم نفسه. .. لكن بطريق الخطأ كانت تأشيرتي على جواز سفر الزوجة وتأشيرة الزوجة على جواز سفري ، فانتبهنا لذلك قبل السفر بأيام فعدت إلى السفارة ، فأصلحوا الأمر .

أقلتنا طائرة الملكية الأردنية في التاسع عشر من آذار إلى مطار " شانون " في أيرلندا " حيث وُضعتْ دمغة الدخول إلى نيويورك في المطار الأيرلندي ، وتابعت الطائرة إلى نيويورك ، فوصلناها بُعَيد عصر المدينة ، فدلفنا سريعاً خارج المطار دون أن نرى الموظفين وراء نوافذ الاستقبال ، فقد أصبحنا منذ وضعت دمغة الدخول في إيرلندا من أهل أمريكا .... وكان الوقت في عمان منتصف الليل ... كان استقبال ضائفنا كريماً أزال عنا التعب بحسن ضيافته ، وكان الجو في مدينة " وين " في نيوجيرسي ثلجياً ، فهي – على ما يبدو – على خط موسكو الطوليّ ، وقد كان الجو في عمان التي تركناها ربيعيّاً .

    ليس في أمريكا – إجمالاً- خطوط قطارات للتنقل الداخلي ، عدا المدن الكبرى ففيها بعض الخطوط التي لا تقارن بمثيلاتها في أوربا " باريس ، ولندن ، وروما " . وعلى هذا يحتاج المرء استعمال الباصات ، وهي بدورها تكاد تنعدم في باترسون -  وهي المدينة الكبيرة التي تتبعها " وين "  - وما حولها ، فلا بدّ إذاً من استئجار سيارة أو شرائها ، فكان تبديل رخصة القيادة الإماراتية التي نحملها أمراً ضروريا وسهلاً .

كان الداعي متسرعاً حين أكد على سفري ، فالعمل في المدارس منتظم ، والأمور مستقرة ، فكنت ضيفاً عليه قرابة الشهر ومن ثم على مسجد " البرادويي " ألقي خواطر بين الصلوات ، أو بعض المحاضرات . وأزور المساجد الأخرى .

قد تكون الضيافة للزائر مقبولة وإن طالت ، أما القادم للإقامة فيسعى للاستقرار في بيت يستره وعمل مستمر يندمج فيه ويقضي وقته في تنميته وتحسينه ... فهناك إذاً خمسة أشهر على الأقل لا بد من عمل يملؤها ويدر دخلاً يفي بالحاجة ... وهكذا كان ... فقد عملت إماماً مساعداً مع محاضرات في التفسير والأساليب التربوية في القرآن والسنة والسيرة النبوية . فكانت اللقاءات في المسجد سبباً للتعرف على الكثير من المسلمين وعاداتهم ، والدخول إلى قلوبهم .

المسلمون المترددون على المساجد يكثرون يوماً بعد يوم على الرغم من إسفار المتشددين النصارى وجه الحقد والكراهية للعمل الإسلامي وللمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من أيلول – سبتمبر- ولقد تضاعف أعداد الداخلين إلى الإسلام  في العام ألفين واثنين أربعة أضعافهم عام ألفين وواحد . وقد يريد الله تعالى لأحدنا الخير فيهيئ له من يدفعه إلى هذا الدين القويم دفعاً .

فقد جاء إلى المسجد أحد الطلبة العرب النصارى من حلب – قدم وأخوه لدراسة ما بعد الثانوية في إحدى جامعات نيوجيرسي يسأل عن الإسلام الذي عاش في حلب بين أتباعه طفولته وصباه فلم يتأثر بأحد منهم .. جاء يسأل عن الدين الذي " ينتحر " ! أبناؤه في سبيله فقد ضغط على هذا الفتى رفاقه في الجامعة واتهموه وأخاه  بالإرهاب .. ولم يصدقوا بادئ الأمر أن مِن بين العرب من ليس مسلماً. .. فكنا نوضح له الإسلام ونعطيه بعض الكتب أحياناً .. جاءنا مرات عدّة يسأل عما يُطرح عليه من أسئلة ليجيب عليها بعد أن يعيها ... ثم بدأ يسأل عما أشكل عليه ويناقش ليروي ظمأه ، فقد رأى في هذا الدين في بلاد الغربة ما لم يره حين كان في حلب بين المسلمين !ولم يلبث أن أعلن إسلامه وإيمانه بهذا الدين الذي ملأ قلبه وعقله ، وتبعه أخوه بعد ثلاثة أشهر !!! .... وأمثاله مئات بل آلاف يدخلون الإسلام ويعتنقونه عن حب وقناعة .

البيت الجديد

كانت النصيحة أن نستأجر بيتاً بعيداً عن وسط المدينة لسببين ، أولهما : أنه أكثر هدوءاً وأجمل موقعاً ، وأكثر ملاءمة لرجل وامرأته جاوزا الخمسين من عمرهما . وثانيهما : وهو الأهم .. الأمن والأمان بعيداً عن مساكن الزنوج والأسبان ذوي المشاكل الأخلاقية التي تتجلى في القتل والسرقة وكثرة الضوضاء والإزعاج – وقد ذكرت بعضاً من هذا في " أمريكا -1- ...

نصف الأمريكيين يعيشون في مجمعات سكنية كبيرة ،"apartments " من أصغرها المنطقة التي سكنتها ، وهي مؤلفة من خمسة وعشرين بناء ، وفي كل بناء دوران فقط ، في كل دور عشر شقق ، يتجاور بناءان منها أو ثلاثة على شكل مستعمرة حولها الأرض الخضراء الممتدة يليها مواقف وفيرة للسيارات – بمعدّل موقفين لكل شقة – كما أن الطرقات بينها عريضة تصطف على جانبيها السيارات تاركة خطين مريحين للذهاب والإياب ، و لكل شقة " كراجٌ" مقفل . ومن عادتهم أن البيوت تُؤجر غير مفروشة إلا المطبخ فهو كامل التأثيث بقطعه الكهربائية ماعدا الغسالة، فلا يسمح باستعمالها في الشقة لصوتها المزعج الذي يخترق الجدران والسقوف المصنوعة من الخشب و " الأترنيت " الخفيف الذي يجعلك تسمع أصوات جيرانك بانتباه بسيط .  وبين كل مجموعة أبنية بناء طويل،  فيه غسالات الثياب ونشّافاتها ، بكمية متوفرة غالباً ما يتزاحم عليها المستأجرون يومي العطلة – السبت والأحد – .

 كان أمام نافذة البيت شجرة ، أوراقها حين تزهر أواخر الشتاء بيضاء كالثلج ، ثم تخضرّ ، ثم تحمرّ احمراراً أرجوانياً بديع المنظر في ألوانه الثلاثة الرائعة ، فسبحان من صوّرها وجلاّها للنظر . ولا علاقة للجيران بعضهم ببعض من قريب ولا بعيد سوى ابتسامة مصطنعة مع شقشقة الشفاه بصوت خافت يكاد يسمع " good morning " أو " morning  " وحدها ، ولو ساعدتَ أحدهم بحمل شيء أو مداعبة طفله لرأى ذلك أمراً غريباً محبباً لم يعتده ، وشكرك من قلبه على ذلك اللطف الزائد!! ... وعلى عريهم لم أجد منهم امتعاضاً من حشمة الزوجة وعدم مصافحتي للنساء وزوجتي للرجال ، فكل منهم يعيش على هواه دون التدخل في خصائص الآخرين .

 واشنطن

واشنطن دي سي عاصمة الولايات الأمريكية المتحدة و هي عالم بذاتها فقد ذهبنا إلى كابيتول هيل وتجولنا فوق حشائش البيت الأبيض الخضراء حديقة رئيس الجمهورية وشاهدنا متحف الجو والفضاء العجيب و تمتعنا بجمال متحف الفن الوطني وركبنا تروللي المدينة القديمة وتعرفنا  إلى كل المعالم الرئيسية من خلال رحلات متعددة منها:

 مبنى البنتاجون

البنتاجون اسم يطلق على سكرتارية الدفاع وقيادة الأركان العامة للقوات المسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بسبب شكل البناء الذي تعمل فية هذه الاجهزة، وهو الشكل الهندسي الخماسي الاضلاع، والبنتاجون مقر وزارة الدفاع الاميركية، واحد من اكبر مباني المكاتب في العالم. ومساحته اكبر بثلاث مرات من المساحة الاجمالية لناطحة السحاب «إمباير ستيت» في نيويورك.ومبنى البنتاجون عبارة عن مدينة قائمة بذاتها، اذ يعمل فيه 23 الف شخص تقريبا من المدنيين والعسكريين، يساهمون في وضع وتنفيذ خطط الدفاع عن الولايات المتحدة. ويحيط بالمبنى اكثر من 200 فدان مخصصة لانتظار 8770 سيارة في 16 موقف سيارات. ويوجد بالمبنى 131 سلما و19 مصعدا للوصول الى المكاتب التي تصل مساحتها الى اكثر من 3.7 ملايين قدم مربع.   

ويجري العاملون في المبنى 200 الف مكالمة هاتفية يوميا عن طريق شبكة هواتف يصل طول توصيلاتها الى 100 الف ميل. ويتعامل مكتب البريد في البنتاجون مع 1.2 مليون رسالة بريدية شهريا. المبنى غير عادي في تصميمه وقد تم تشييده خلال السنوات المبكرة من الحرب العالمية الثانية ويعتقد انه واحد من أكثر المكاتب كفاءة في العالم. وعلى الرغم من ان الطول الاجمالي للممرات داخل المبنى يصل الى 17.5 ميلا فإن الانتقال بين أي نقطتين في المبنى لا يستغرق أكثر من سبع دقائق. وحل البنتاجون محل اكثر من 17 من المباني التي كانت تستخدمها وزارة الحرب آنذاك.

الكونجرس الامريكي

الكونجرس هو لفظ من كلمة لاتينية معناها مؤتمر، وتطلق على أي مجموعة من الناس تمثل هيئات أو أقاليم او دولا يجتمعون لمناقشة مشكلاتهم،ويمكن أن يسمى مثل هذا الاجتماع مؤتمرا.والكونجرس الامريكي هو المجلس التشريعي بالولايات المتحدة الامريكية، ومهمة سن القوانيين للدولة، ويتألف الكونجرس من هيئتين تشرعيتين هما:

ـ مجلس الشيوخ ويتكون من 100 مئة عضو، يمثل كل ولاية من الولايات الخمسين شيخان (سيناتوران).

ـ ومجلس النواب ويتكون من 435 حمسة وثلاثين وأربع مئة عضو، ويتم انتخاب الأعضاء أو النواب لهذا المجلس من مناطق انتخابية، ولابد ان يكون لكل ولاية مقعد واحد على الاقل في مجلس النواب.

ويتمتع كلا المجلسين بسلطات متساوية تقريبا، كما انه يتم انتخاب اعضاء الكونجرس من قبل الشعب. ويبذل المرشحون أموالاً طائلة للوصول إلى عضويته ، وقد قيل لي حين جرت الانتخابات عام ألفين وثلاث وكنت هناك في نيوجيرسي : " من امتلك المال وصل إلى ما يريد".وعضو الكونجرس له مكتب فخم في ولايته ، ويستطيع أن يفعل ما يفعله حاكم الولاية تقريباً ، ويقصده ذوو الحاجات لحاجاتهم  .

  قبل الحرب العراقية الأمريكية تظاهر مئات الآلاف أمام الكونجرس – وكنت وزوجتي منهم – ضد هذه الحرب الظالمة مرتين . ولكن الثقل الإسرائيلي والمنافع المادية كان وما يزال أكبر من الحقوق الإنسانية والدولية!! وما حقوق الإنسان في الأمريكا والغرب الأوربي إلا أوهام يتعلق بها الضعيف دون جدوى ، ويستغلها القوي لمأربه وتمرير مصالحه ومكتسباته التي يرمي إليها ، ويسعى لها .

بوسطن

زرنا هذه المدينة في أيار ، والجو لطيف ، والطريق إليها من باترسون يستغرق أكثر من ساعات ثلاث نحو الشمال الشرقي على ساحل الأطلسي قريب الحدود الكندية يسترعي انتباه الزائرين المستعمرات المنغلقة للجاليات المتعددة ، فهناك مثلاً- منطقة تخص الصينيين ، فأسواقهم على طراز الأسواق الصينية ، وبيوتهم كذلك على الطراز الصيني ، وثيابهم لم يغير الكثيرون منهم طريقتهم في لباسها ، ومطاعمهم ,,, . وهذا معهود لدى الجاليات الشرقية والإفريقية وأمريكا اللاتينية .

   كانت مدينة متوسطة بين المدن ، أكثر هدوءاً من نيويورك الصاخبة ، يغلب عليها الطابع الإيطالي ، فأهلها الأصليون من إيطاليا ، وفي منتصفها ساحة يتوسطها تمثال لإيطالي قاد الحرب ضد الإنجليز المستعمرين في ذلك الوقت . وإلى جانب هذه الساحة أقدم كنيسة يسعى إليها السائحون ، ليس فيها سوى أثار الماضي القريب . لكن أجمل ما في المدينة وأروعه:مبنى الأحياء السمكية المسمى

 الكواريو: وهو مبنى ضخم مؤلف من طبقات يتوسطه بركة مائية ضخمة مرتفعة بارتفاع البناء نفسه ،فيه من الاسماك آلاف الأنواع صغيرها وكبيرها ، ما يخطر على بالك وما لا يخطر ، ومن الحيوانات البرمائية كالدلافين والتماسيح والفقمة والبطريق ... وفي البناء نفسه أجنحة لأنواع الأسماك الصغيرة في أحواض ملونة تحوي أنواعاً عجيبة لا يمل الناظر إليها مسبحاً خالقها العظيم ، مردداً قوله تعالى " هو الله لا إله إلاّ هو " ... كان معرضاً رائعاً لا يدانيه في روعته معرض مائي في العالم .... لقد زرنا معرضاً مشابهاً في جنوا الإيطالية في العام ألفين وواحد وقد أعجبنا به أيما إعجاب ، ولكن حين رأينا معرض بوسطن وجدناه أعظم بما لا يقارَن .... وكان يوماً حافلاً رائعاً أيضاً بنسائمه اللطيفة وهوائه العليل ، وقد دعينا إلى وجبة غداء في " يخت " تابع للفندق الذي نزلناه ، فما إن ركبناه حتى عدنا سريعاً فنزلنا واخترنا الغداء على حسابنا في مطعم مناسب . فالجو في المركب كان فاضحاً ، عري وخمور ورقص وتوابعها !!! لم نأسف على ضياع الدعوة لأننا ربحنا السكينة والهدوء ورضاء الله تعالى – وهذا ظننا في الله سبحانه ، جل من إله يحب الطهر والعفاف ويدعو إليهما .

   قضينا ليلة كاملة قبالة شاطئ نيوجيرسي على قارب حملنا داخل المحيط خمسين ميلاً نصطاد السمك ، أو يصطادونه ، فقد تخليت عن الصيد لدوار أصابني ساعات فنمت على كرسي اهتز بي دون انقطاع هزة المرتعد المشتاق رأى حبيبه بعد طويل فراق ، أو هزة الآبق الفرّار أُعيد لسيده دون سابق إنذار! .. وتخليت عن الصيد لسبب آخر يفرض على الصياد أن يكون صابراً على صيده ، وهذه الصفة بعيدة عني فأنا أحب السمك المشوي والمقليّ لا السمك الذي يجيئ ويروح يأكل الطعم من الصنارة دون أن يعلق فيها .وتنتظره على غير ميعاد فقد يأتيك ، وقد يأكل الطعم من صنارتك ويقع في حبائل غيرك !.... كان معنا الأخ الدكتور فهمي خير الله ، فاصطاد ثلاث سمكات ضخمة وهو الرجل النباتي الذي لايعرف من الطعام سوى الخضار والفاكهة . وحملها إلى بيته وشواها ودعانا إلى مائدته ، وكان نصيبه السلطة والبطاطا فقط... كان القارب كبيراً اتسع مجموعة لا تقل عن الأربعين بين صغير وكبير ، وكلهم منهمك في الصيد ، بعضهم نال سمكة وآخرون اثنتين وبعضهم ثلاثاً أو أربعاً وعاد أمثالي بخفي حنين ، على الرغم أن حنيناً هذا لم يكن معنا في تلك الرحلة . لكن الدنيا أرزاق ، والرزق بالصبر والتأني واتساع الأخلاق .

ولعل تباعد الناس في أمريكا مكاناً وعملاً وانهماكهم في الحياة يدفع إلى تباعد في الشعور وانقطاع أو برود في العلاقات ، ولأن هذا يؤدي بهم – إذا طال الأمر واستفحل- إلى ما يخشونه فقد تنادوا إلى مواسم في الولايات يجتمعون عليها في مراكز ثقافية ، فيها محاضرات في الإسلام متنوّعة – من فقه وتربية ودعوة واقتصاد وسياسة واجتماع – يلقيها متخصصون من الجالية أو الضيوف القادمون من أوربا أو المشرق أو المشهود لهم بالفضل من علماء الجاليات غير المسلمة . وقد يجتمع عشرات الآلف يغتنمون اللقاءات فيصلون ما انقطع ، أو ينشؤون علاقات جديدة ، ويوسعون دائرة التعارف ... وقد كنت مشغولاً في إحداها فلم يتسنّ لي المشاركة في نشاط " بنسلفانيا " ورغبت أم حسان في المشاركة  برفقة بعض الصويحبات ، فاستأذنت ... وكان اللقاء يومين ليس غير ... عدت إلى البيت وقد سافرت فرأيته موحشاً كئيباً فغاص قلبي في أحشائي وولدت هذه القصيدة:

 كنت ألقاها إذا ما عدت للبيت 

صباحا أومساءًَ

تملأ الأركان حبا وهناءًَ

تملأالنفس ضياء وسناءًَ

تغمر الوجدان أنساً وبهاءًَ

 

كنت أدري أنها

في الروح يسري حبها

دون توانٍ ، ابتداءً وانتهاءً

بيد أني حين عدت اليوم للدار

رأيت الدار قفرا وخواءً

                            

لم أجد فيها حياة

مثل قبر ،ينفر الأحياء منه

فانثنى قلبي جريحا ،وكئيبا

لم أجد إلفي ، ولم ألق حبيبا

غصة في القلب حارت

دمعة في العين ثارت

قلت أين الحِب ،من كان طبيبًا

لفؤادي،حين يعيى ،ودواءً

لم تغب إلا بإذني

بعد أن أكّدْتُ أنّي

لا أرى في أن تغيب اليوم عني

بلهَ يومين إذا ما صح ظنّي.

ما الذي يجري ؟فكم قدْ غبت عنها

ِلمَ منّي ذا التجنّي؟!

ليس هذا ،غير أن الدار دون ال..

زوجة المعطاءِ..تبدو لي هباءً

 

أنٌى التفتٌُ أرى اهتماماتٍ لها

ترجو ارتياحي دون كَلٍ أو سُهى

تسعى لإرضائي ، وإن كَلّفَها

ما أرتضيه تعباً وبذلاً،

ثم جهداً وعناءً .

 

فلها في القلب مأوى ،

طوٌل الله بقاها

ثم في الجنٌة مثوى.

أحسن الله إليها، كل حين وهداها

وحباها الخيرَ ينمو..ورضاءً

 

إنما الدنيا متاع ٌ

خيرُه الزوجةُ ،إن كانت رضيّة

بالذي قدّمه الزوج،ولله تقيّة

تحفظ الأولاد والمال ،وبالخير نديّة

هكذا قال رسول الله ..في الزوج الوفيّة

تعمر البيت حناناً،وحبوراً، ووفاءً

العودة إلى عمان

لم يطب لي المقام في أمريكا ، فالغربة لإنسان عاش حياته حتى جاوزالخمسين في بلاد العرب والمسلمين تعشقت فيه عاداتهم وتأصلت فيه مفاهيم.. لن يستطيع بعد هذا العمر أن يتخلى عنها أو يضيف إليها ما يشوبها . ولعل الشباب أقدر على التأقلم مع المجتمعات الجديدة فهم في مقتبل العمر وريعان الحياة ، كأس ما زالت فارغة تتسع للمزيد والمختلف .

اعتذرت للأحباب ، وجهزنا نفسينا ، ويممنا في الحادي والثلاثبن من آب عام ألفين وثلاثة شطر الأردن ، وهل لنا بعد التسيار والتجوال سوى العودة إلى الملفى الحبيب وملتقى الأصدقاء والخلان ، لنصلها مساء الفاتح من أيلول ، فقد آن لابن بطوطة العصري أن يلقي الرحال ، وأن يقع بجرانه في أرض تعادل أرضه وبلاد تذكره بوطنه الذي منع عنه ، فبلاد الشام كلها بلادي ، ولئن منعت قسراً أن آوي إلى حلب الشهباء ، فالله تعالى حسبي ، وإليه لجوئي ، وعليه اعتمادي ، فقد توفي الوالد رحمه الله تعالى في حلب واعتصر قلبي ألماً أنني بعيد عنه ، فرثيته ورثيت بعدي عن وطني

مـاذا أقول وقد حُرمت iiوصالكم
وبـعدت عن لقيـاكمً لمـا iiنأتْ
وتـأوهتْ  نفستي وزاد تألمـي
فالظلم في أرضي يروح ويغتدي
جاس اللئام بطهرهـا iiوروائهـا
والـناس في سجن رهيب محكم
في  غربتي ألقى الحيـاة iiمريرة
فـي أنسهم أجد الصفاء iiوتنجلي
وأحـس  أني بين أهـلٍ خلّصٍ








ومـنعتُ  قهراً من جناك iiالداني
عـن  ناظريّ مرابـع الأوطان
أنْ  لـست أملك رؤيـة الخلان
يـئد  الضيـاء وينتشي iiبالران
لـم  يبق فيهـا موضع iiلأمـان
والـحاكمون  أخسّ من iiشيطان
لـولا الصديق وصالح iiالإخوان
كربات  دهري ن والهدى يلقاني
فـي  جـمع حب محكم iiالبنيان

  ويبقى التعلق بالله تعالى والأمل برضاه ورحمته جنة المؤمنين ، وأنس المتقين ، وأمان الخائفين ، جعلني الله وإياكم من أهل طاعته .....