كلمة تأبينية في حق المرحوم فضيلة الأستاذ العلامة السيد عبد القادر زمامة

المعروف دين لا يؤدى إلا بمكافأة أو بصالح الدعاء ، ولما كان معروف  فضيلة الأستاذ العلامة السيد عبد القادر زمامة رحمه الله تعالى  الذي أسداه إلى طلبة العلم بكلية الآداب بجامعة فاس لعقود  يعدد ولا يعد ، فإنه لا وسع  لهم لمكافأته ، ويبقى دعاؤهم الصالح  له دين عليهم جميعا.

لقد لبى نداء ربه  نهاية الأسبوع المنصرم، وقد أمد الله تعالى في عمره حتى قارب القرن  من الزمن، وقد أفناه في الاشتغال بالعلم ، وأكرمه  الله عز وجل إذ جعله من خيار خلقه الذين تعلّموا العلم وعلّموه .

إن عمر فضيلته رحمه الله حافل بالمنجزات العلمية  الكبيرة تأليفا وتحقيقا وتعليما ، ولا يمكن الإلمام بها ولكن في مثل هذه الكلمة التأبينية  المتواضعة لأحد طلابه في الثمانينات من القرن الماضي سأذكر ما شهدته وأنا أتابع محاضراته الشيقة التي كانت تجمع بين العلم الغزير ، والذوق الرفيع والدعابة العلمية التي تزيد طلابه إقبالا عليه . ولقد كان رحمه الله تعالى دائم البشاشة لا تفارقه الابتسامة العريضة إلا إذا زلت أقدام طلابه في مضمار العلم، فإن وجهه كان يكفهرّ ويحمرّ غضبا ، ولكنه سرعان ما يسترجع بشاشته ودعابته  ويعود إلى سجيته.

ولقد كان فارسا لا يقارع في الأدب المغربي خبيرا بكنوزه ،لا يرقى إلى ذوقه فيه ذوق أحد . وكان وهو يجول بطلابه في حدائقه الغناء، يكشف عن روائعه المخبوءة بأسلوب شيق يشعرهم بفخر واعتزاز وهم يكتشفون تراثهم الشعري الراقي الذي كانوا يجهلونه ،وقد وقر في نقوسهم أن حظ المغرب من فن الشعر دون حظ المشرق .

وأذكر أنه رحمه الله تعالى خلال مناقشة أطروحة قدمت عن أبي سالم العياشي دار بينه وبين فضيلة  العلامة الدكنور عبد الله الطيب المجذوب سجال بخصوص شاعرية أبي سالم ، وكان الدكتور الطيب قد وقف  وقفة لغوية عند عنوان الأطروحة : " أبو سالم العياشي شاعرا " وراح يقدم بدائل عنه بقوله :شعر أبي سالم أو أبوسالم الشاعر إلى أن قال:  وما أبو سالم بشاعر ، ولا يضير أهل المغرب ألا يكون فيهم شعراء وقد قال الله تعالى : (( والشعراء يتبعهم الغاوون ))  وكان قصده  بطبيعة الحال الدعابة إلا أن فضيلة الأستاذ عبد القادر زمامة ثارت ثائرته ، انتفض انتفاضة الأسد المغربي الهصور، وراح يعدد من محفوظه الثرّ روائع الشعر المغربي ردا على دعابة الدكتور الطيب  فأفحمه وهو الشاعر النحرير العارف بأشعار العرب وصناعتها .

ومما عرف به الأستاذ زمامة  رحمه الله تعالى علمه بالأنساب، فلا يكاد يسأل طالبا يجلس أمامه ليمتحنه عن نسبه حتى يذكر له ما لا سابق علم له بأصله وقبيله .

أما طريقته في التدريس، فكانت متميزة بإملاءاته  الشيقة على طريقة شيوخ القرويين يقطعها بين الحين والآخر بقوله مخاطبا طلابه : "ضعوا أقلامكم واقطعوا أنفاسكم " ويمضي في شروحه المستفيضة ليواصل الإملاء من جديد وهو يخطو بتؤدة عرض وطول المدرج رافعا رأسه شامخا بأنفه  يكرر عبارة : " قل  قل ، وانظر إلي " منبها إلى طرفة أو مستملحة تتخلل شروحه، والتي كان المدرج يضج لها  بضحك الطلاب والطالبات عند سماعها .

ومما عرف به رحمه الله تعالى تدقيقه في استعمال كلمات اللغة العربية ، ذلك أنه لا يكاد لسان طالب يزل إلا وعاجله بالتقويم ذاكرا أصل وفصل الكلمة التي زل بها لسانه ، وقد كان معجما ضخما بل موسوعة متنقلة  .

ومما عرف به أيضا لين جانبه مع طلابه وطالباته، يستوقفونه وهو في طريقه  فيقف لهم  متواضعا يجيبهم عن أسئلتهم ، ويخفض لهم جناح العلم من التواضع ، والابتسامة العريضة والدعابة لا تفارقانه .

وكانت له رحمه الله تعالى ثقة كبيرة في النفس ، وإباء لا يضاهى ، وكيف لا وقد وعى صدره العلم الغزير .وكان كثيرا ما يشاهد وهو يتصفح الكتب في مكتبات العاصمة العلمية فاس ، وقد يفيض  وهو على تلك الحال في الإجابة العلمية الرصينة مجيبا من يسأله عن مسألة من المسائل وكأنه في المدرج الجامعي.

وكانت مقالاته العلمية  الرصينة التي يحرص فيها على توثيقها التوثيق العلمي الدقيق تزين صفحات مجلة دعوة الحق الرائدة  ، وغيرها من الملحقات الثقافية الأسبوعية لبعض الجرائد اليومية .

رحم الله تعالى فقيدنا العلامة ، وجزاه عنها جنة ونعيما ، ولقّاه نضرة وسرورا ، وأورده حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وسقاه من يده الشريفة شربة  هنيئة مريئة لا ظمأ بعدها أبدا.

ولا يفوتني في الأخير أن ألتمس من طلابه الأوفياء ، ومحبيه ألا يقصروا في تأبينه  أداء  لدين عليهم ، كما ألتمس من الدوائر العلمية تكريمه بتخليد ذكره وقد خلده علمه.

وسوم: العدد 847