الأخ أبو وائل في ذمة الله، سيرةٌ عطرة، ووداعٌ حزين

فاروق مشوح

أبو وائل، أخ من جماعة الإخوان المسلمين اسمه وهويته، مطلوب جاسم محمد الجبر، من شرق سورية الفقيدة – لمن أحبها وهو مكره على فراقها – وهي المنطقة التي يخترقها الفرات الذابل.. هذه الأيام بما يتساقط على جانبيه من أوشال، ويتسرب ماؤه جداول وقنوات... مع كل تقدم في المسير، حتى يصل إلى الجفاف أو يكاد.. وذلك بما أصابه على يد الظالمين ووكلائهم على هذه الأرض...

غياب الأخ الحبيب أبي وائل هو الذي أهاج في هذه الذكريات، وشرّد بي إلى هذا المعنى حيث كان الأخ – رحمه الله – يقف على شاطئه الأيمن يتأمل ذلك النهر الزاخر فلا يرى جانبه الآخر... إلا إذا مدَّ بصره إلى نهايته، وحدّق بعينيه الحادتين على سعتهما.. ولكنها الأقدار التي باعدت بينه، وبين شواطئ ذلك النهر... وديار الأحبة، وملاعب الصبا، ومضامير العمل والدعوة والنشاط...

وحيث إن الأخ المرحوم – أبا وائل – صاحب قولٍ هين ولسان لين، فقد بلغ فيه خُلقه هذا ذروةً سامقة من التميز المحبب، والألفة الودود، يدركها من يجالسه لأول وهلة فيقرأ في محياه السماحة، ويلمس من حديثه الصدق، ويشعر من مجاملاته براءة النية وسلامة الصدر، وكم يتمنى ألا يفارقه وهو يصغي إليه... إنك لا تملك وأنت تعرف كل ذلك عنه، إلا أن تأسى على فقده، وتألم لرحليه، وتشعر بمصابك فيه أوجع الشعور...

هذا الأخ كان يوماً من الأيام "في المدينة" يسكن داره، ويألف جاره، ويلتقي أحبابه، ويقتسم مع إخوانه مجالس اللقاء، يغشاها معهم ويحضر مناسباتهم.. وهم يبادلونه الواجبات، ويشاركونه ما عنده من أحاديث ومجاملات، ثم بدا له أن يرحل عن المدينة، ويهجر ضوضاءها ويبتعد عن زحامها.. فهو بطبعه يعشق الأجواء المفتوحة، ويميل إلى الحياة الهادئة ويستريح للروابي الخضر المورقة، وتسحره مناظر الشجر والزرع والأزهار...

اختار الرجل الطيب لسكنه منطقة نائية، وبقعة بعيدة عن بيته الذي بناه من تعب يمينه وعرق جبينه، إلى قومٍ له فيهم صلة ومعرفة، وهم بطبيعة معاشهم وطريقة تعاملهم أقرب إلى سماحته، وأدنى إلى مروءاته وكرم خلقه، حيث أقام داراً ابتناها بما بقي عنده من مال، وبما عاناه من جهد... إنه البيت الذي رأى فيه سعة المراح، وانفتاح الأجواء، حيث تضربه الريح من جهاته الأربع، وتداعبه الأنسام من كل جانب.. أجمل ما كان يتغنى به في ذلك البيت بأحاديثه الودودة، ومؤانساته التي يفيض بها على زواره، تلك المساحة المتواضعة التي تحيط بالبناء، حيث مزرعته الأثيرة، وموطن خبراته الزراعية، بل منتجع أحلامه الهائمة في الشجر والزرع والأثمار....

الأخ أبو وائل يرحمه الله، قضى شطراً من عمره في أمراض شتى، كانت أدويته رفيقة دربه، وحقيبته التي تفارقه، ومع ذلك فقد كان في غاية الرضى وكامل التسليم بما كتب الله عليه وما قدره له .. فكان صابراً على بلائه، حامداً ربه على نعمائه، واثقاً بما ادخره - سبحانه - للشاكرين من عباده، وهو رحمه الله شهيد من شهداء هذه الأمة بما أصابه الله من بلاء، وجعل له من خاتمة... وقفت على قبره بعد أن بلغني الخبر، وكانت صلاتنا عليه ودعاؤنا له، من أخلص ما دعونا في أحبابنا وإخواننا، ممن سبقنا إلى رضوان الله، فقد كانت دمعته في أعيننا حرّى، وحُرقته في صدورنا كاوية، فقد فقدنا فيه الشمائل النبيلة، والأخلاق الطيبة، والأنس العزيز... الأخ أبو وائل من أولئك الذين حرمهم الظلم من أهليهم وديارهم، وبغى عليهم الظالمون حتى قطعوهم عن صحبتهم وأحبائهم، فكان لهم من الله الأجر والذكر، ومن أنفسهم العهد والوفاء لدينهم، والتمسك والثبات بقضيتهم، ... فهي هجرة لمرضاة الله سبحانه، ورباط في سبيله تباركت أسماؤه، وجهاد في ما أمر به، حتى يأذن بفرجه ونصره، وهو حسبنا ونعم الوكيل...

وإن كنتُ قد فقدتُ شيئاً في هذه المناسبة – تمنيت ألا يفوتني – وأجد في نفسي حسرة عليه، وفي حلقي غصة منه، أنني لم أبادر بكلمة راثية له، وافية فيه، دامعة عليه، وكنت أحاول ذلك، لكن الحالة التي انتابتني بعد انتهاء الإمام من دعائه، حالت دون ذلك، فخشيت أن أقف بين ذلك الحشد المفجوع، ثم أشرقُ بدمع، وأغص بعبرتي، وأتعثر بعقدة لساني.. فآثرت الصمت الحزين، والألم المكبوت، ولا أزال أشعر أن من حق الأخ أبي وائل علينا، أن نودعه بعبرة تفيض بها العيون، وكلماتٍ تُفصح عنها المشاعر، ودموع تغسل منا الذنوب، ولعل في هذه الكلمات بعض العزاء... ولا نقول إلا ما يرضي الرب... اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره واغفر لنا وله، واحفظ بكرمك وفضلك، أهله وأبناءه وذريته... وأحسن عزاءهم، وارزقهم الصبر والرضا والسلوان، واشف ولده واحفظه... واجعله خير خلف لخير سلف، واجمعنا مع أبي وائل في الخلد من جناتك، مع النبيين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. والحمد لله رب العالمين...

وسوم: العدد 847