صفحات من سيرة الفاروق

محمد سعيد الطنطاوي

الحمد لله الذي أعز دينه بإعزاز من أعزه، ونشره بتأييد من صدق في حمله، وبلغ به إلى قلوب البلاد والعباد بتوفيق من أخلص له وبذل.

وبعد، فإنّ المسلم ليملُّ جلال الشمس، وبهاء البدر، قبل أن يمل سير الأعوام من أسلافه، والنجوم من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، الذين بهم يهتدى ويقتدى، والذين: لمعت نارهم وقد عسعس الليل وملَّ الحادي وحار الدليل..

فتبيّنها من وفقه الله للهدى، فاتبع الطريق على نورها، وأعرض عنها من حُرم وضلّ، فتاه في الظلام وتخبط في الضلال، وأنت إذا اقتحمت في طريق الحياة، فادلهمَّت الخطوب، وتتابعت فتن كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضاً، ويصبح الحليم فيها حيران، وأعوزك النور، وجدت النور عند هؤلاء الذين التمسوه من منبعه، واقتبسوه من أصله ومعدنه، ثم نشروه ضياء هادياً للأمم والعصور. هؤلاء الذين يأتي في طليعتهم أفضل الناس بعد خير بشر غير الأنبياء، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أسلم في مثل هذا الشهر - ذي الحجة - من السنة السادسة، وقتل شهيداً في أواخر ذي الحجة أيضاً من السنة الثالثة والعشرين، وتولى الخلافة فترة تزيد شهوراً على عشرة سنوات، كانت من فريد جواهر جيد الحكم المجيد..

عمر بن الخطاب، الذي لا يجهله أحده، والذي قلَّ أن يعرفه في هذا العصر أحد. يعرف بعضهم بعضاً من أخباره، ونتفاً من نسبه وأعماله، أما روح تلك الأدلة فلا يدركه إلا الأجلة، ولن نعرض الآن إلى اللب من ذلك والمقصد، فالمجال عنه يضيق، والباع يقصر، ولو فعلنا لما اتسعت صفحات هذه الرسالة لإتمام خبر واحد من سيرة صاحب من أتاه الله جوامع الكلم. ولكنا سنكتفي بعرض الصفحات كما هي، أو بتبديل في بعض ألفاظها قليل. حتى يكون في ذلك مجال للتأمل وأعمال الفكر والبحث وسؤال أهل العلم، ولا خير في حياة ليس فيها التماس للحق وتفهم له وعمل به..

وقد كنا على أن نقتصر على جانب واحد من جوانب هذه السيرة الفخمة. - وما أكثر جوانب العظمة في حياة عمر- لولا أننا رأينا أن نبدأ الآن بهذه الرسالة بشكل عام، على أن تعود في رسائل قادمة إن شاء الله إلى ذاك، فتكون هذه لتلك كتمهيد(1).

ساس الفحول، ولم يأت بعد زمنه مثله:

 كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أحد أعلام علماء المدينة في عصر التابعين، إلى عمر بن عبد العزيز:

 من سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين، أما بعد فإنك كتبت إليّ تسألني: تذكر إنك ابتليت بما ابتليت به من أمر هذه الأمة، من غير مشاورة ولا إرادة يعلم الله ذلك، تسألني أن أكتب لك سيرة عمر وقضائه في أهل القبلة، يعني المسلمين، وأهل العهود غير المسلمين، وتزعم أنك سائر بسيرته إن الله أعانك على ذلك.

وإنك لست في زمان عمر، ولا في مثل رجال عمر فأما أهل العراق فليكونوا منك بمكان من لا غنى بك عنهم ولا مفقرة إليهم. ولا يمنعك من نزع عامل أن تنزعه أن تقول لا أجد من يكفيني مثل عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتستعمل لله، أتاح الله لك أعواناً وأتاك بهم، فإنما قدر عون الله للعباد على قدر النيات، فمن تمت نيته، تم عون الله له، ومن قصرت نيته، قصر عون الله، والله المستعان والسلام.

-2-

ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق:

يذكر ابن خلكان (440 / 5) مما نقله من خط ابن السكيت – رجل اللغة الكبير – "أن سلمان بن ربيعة الباهلي القائد الفاتح المظفر" عرض الجند، فمرّ عمرو بن معد يكرب الزبيدي "من أبطال فرسان الجاهلية والإسلام" على فرس له، فقال له سلمان: إن هذا الفرس هجين،" أي ليست أمه عربية عتيقة" فقال عمر: بل هو عتيق، فقال سلمان: هو هجين، فقال عمرو: هو عتيق، فأمر سلمان فعطش - أي الفرس - ثم دعا بطست ماء، ودعا بخيل عتاق فشربت، وجاء فرس عمرو، فثنى يده وشرب، وهذا صنع الهجين، فقال له سلمان: أو ترى؟ فقال عمرو: أجل، الهجين يعرف الهجين! فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إلى عمرو: قد بلغني ما قلت ما قلت لأميرك، وبلغني أن لك سيفاً تسميه الصمصامة وعندي سيف أسميه مصمماً، وأيم الله لإن وضعته على هامتك -  أي رأسك - لا أقلع حتى أبلغ به رهابتك(1) فإن سرك أن تعلم أحق ما أقول فعد والسلام.

-3-

سبق بالناس الناس، ولم يدركه من بعده وال: كان عبد الملك بن مروان يقول للناس: تطلبون منا أن نسير فيكم بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر أو تسيرون أنتم بسيرة الناس في عهد أبي بكر وعمر؟

-4-

لو نفقه هذا الآن لما مهرنا في تبرير المخالفات:

ذكر القرافي في الفروق، (3 / 16) أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلاً نصرانياً بالبصرة، لا يحسن ضبط خراجها إلا هو، وقصد ولايته على جباية الخراج، لضرورة تعذر غيره، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ينهاه عن ذلك، وقال له في الكتاب: مات النصراني والسلام! أي افرضه مات، ماذا كنت تصنع حينئذٍ فاصنعه الآن.

ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في أهل الذمة أهينوهم ولا تظلموهم.

-5-

يسره ما يسخطنا الآن:

قال حذيفة: دخلت على عمرو فرأيته مهموماً حزيناً، فقلت: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً لي. فقال حذيفة: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك.

ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوموني إذا اعوججت.

وذكر المحب الطبري ما يروى من أنه قال يوماً على المنبر يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا هكذا ومال برأسه؟ فقام إليه رجل فقال: أجل، كنا نقول بالسيف هكذا. وأشار إلى القطع. فقال عمر: إياي تعني بقولك قال: نعم، إياك أعني بقولي. فقال رحمك الله، الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني.

أصحاب النفوس الكبيرة يتحررون من تافه قيود الهيئات والعادات:

خرج عمر في يوم حار، واضعاً ردائه على رأسه، فمرّ به غلام على حمار، فقال: يا غلام احملني معك. فوثب الغلام عن الحمار وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب وأركب أنا خلفك، تريد أن تحملني على المكان الوطيء، وتركب أنت على المكان الخشن؟ فركب خلف الغلام فدخل المدينة وهو خلفه، والناس ينظرون إليه!

-6-

تحت هذي الشمس يمضي ذا الفتى

 عالي الرأس كسروٍ قد عنا

بينما عثمان بن عفان في أرض له، في العالية، في يوم صائف، إذ رأى رجلاً يسوق جملين، وعلى الأرض مثل الفراش من الحر فقال عثمان: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يخرج حينئذٍ ثم دنا الرجل، فقال عثمان لمولى له: انظر من هذا؟ فقال: أرى رجلاً معماً بردائه يسوق بكرين، ثم دنا الرجل، فقال: انظر من هذا؟ فنظر، فإذا هو عمر بن الخطاب! فقال: هذا أمير المؤمنين، فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب، فإذا لفح السموم، فأعاد رأسه، حتى إذا حاذاه قال: ما أخرجك في هذه الساعة؟ فقال: بكران من إبل الصدقة تخلفا، وقد مضى بإبل الصدقة، فأردت أن ألحقهما بالحمى - المكان الذي ترعى فيه جمال الزكاة - وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما. فقال عثمان: هلم إلى الظل والماء ونكفيك -أي نبعث من يقوم بالأمر بذلك. قال: عد إلى ظلك. قال عندنا من يكفيك، قال: عد إلى ظلك ومضى! فقال عثمان: من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين، فلينظر إلى هذا.

-7-

فيمَ اقتحامك لج البحر تركبه

وأنت يكفيك منه مصةً الوشل؟

عن هشام بن عروة بن الزبير قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، فتلقاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الشام. فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة! قالوا: يأتيك الآن فجاء على ناقة مختومة بحبل، فسلم عليه وسأله، ثم قال للناس: انصرفوا عنّا، فسار معه حتى أتى منزله، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعاً، فقال أبو عبيدة رضوان الله عليه: يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلغنا المقيل مكان القيلولة حيث ينام وسط النهار، وكل إنسان سيقيل بعد عمره القليل.

-8-

 نكره خشونة العيش، ويثقل علينا التراجع والإنصاف:

نام عمر تحت شجرة في طريق مكة، فلما اشتدت عليه الشمس، أخذ عليه ثوبه فقام، فناداه رجل غير بعيد عنه: يا أمير المؤمنين هل لك في رجل قد ربدت حاجته - أي مكثت طويلاً - وطال انتظاره؟ قال: من ربدها؟ قال: أنت. فجاراه القول حتى ضربه بالدرة. فقال: عجلت علي قبل أن تنظرني، فإن كنت مظلوماً رددت إليّ حقي وإن كنت ظالماً رددتني.

فأخذ عمر طرف ثوبه وأعطاه الدّرة وقال له اقتص. قال: ما أنا بفاعل. فقال: والله لتفعلن، قال: فإني أغفرها.

فقال عمر للرجل: أنصف من نفسي أصلح من أن يُنتصف مني وأنا كاره.

-9-

اواه لو تفهم هذا وتؤمن به:

يذكر الحسن البصري أن عمر رضي الله عنه مرّ على مزبلة عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دنياكم التي تعرضون عليها!

-10-

احمل ما شئت، فلا يحط منك إلا الأوزار:

بينما عمر يُعس في المدينة بالليل، مرَّ على امرأة من الأنصار تحمل قربة فسألها عن شأنها، فذكرت أن لها عيالاً، وأن ليس لها خادم وأنها تخرج في الليل لتحمل إليهم الماء، وتكره أن تخرج بالنهار، فأخذ عمر منها القربة فحملها عنها على عاتقه حتى بلغ منزلها، وقال: اغدي على عمر صباحاً يخدمك خادماً، قالت لا أصل إليه. قال: إنك ستجدينه إن شاء الله تعالى. فغدت عليه، فإذا هي به، فعرفت أنه الذي حمل قربتها فذهبت تولي، فأرسل في أثرها وأمر لها بخادم ونفقة!

-11-

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت

 ولم ينهها تاقت إلى كل باطل

عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: رأى عمر بن الخطاب لحماً معلقاً في يدي. فقال: ما هذا يا جابر؟ قال اشتهيت لحماً فاشتريته. فقال عمر أو كلما اشتهيت اشتريت يا جابر؟ ما تخاف الآية "أذهبتم طيباتكم في حياتكَم الدنيا؟"

-12-

أخذوا بما به أوصوا، فوصلوا إلى ما إليه و صلوا:

زار عمر أبا الدرداء رضي الله عنهما، فقال له أبو الدرداء أتذكر حديثاً حدّثناه رسول الله؟ قال: أي حديث؟ قال: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، - ليكتف من الدنيا بما يكفي به المسافر - قال: نعم. قال: فماذا فعلناه بعده يا عمر؟ فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا - وماذا فعلنا نحن ؟ -

-13-

من يجعل تحت قدميه يصير فوقها:

حدث يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: صحبت عمر بن الخطاب من المدينة إلى مكة - نحو 500 كم - في الحج، ثم رجعنا، فما ضرب فسطاطاً ولا كان له بناء يستظل به، إنما كان يلقي نطعاً أو كساء على شجرة فيستظل تحته(1).

-14-

رفع البلاء بالتوبة والاستغفار، لا بفصاحة المتشدقين، وتصدي المتبجحين:

عن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال: رأيت عمر خرج بنا - عام الرمادة - إلى المصلى يستسقي، فكان أكثر دعائه الاستغفار حتى قلت لا يزيد عليه، ثم صلى ودعا الله فقال: اللهم اسقنا.

-15-

وليس الغنى إلا عن الشيء لا به:

عن أبي حازم قال: دخل عمر بن الخطاب على حفصة ابنته، فقمت إليه مرقاً بارداً وخبزاً وصبَّت في المرق زيتاً، فقال: أدْمان في إناء واحد؟ لا أذوقه حتى ألقى الله.

وأتُي بلحم فيه سمن فأبى أن يأكلهما وقال كل واحد منها أدم.

يقول يسار بن نمير: والله ما نخلت لعمر الدقيق قط إلا وأنا له عاصٍ.

وقال علي رضي الله عنه وعن عمر: رأيت لعمر بن الخطاب إزاراً فيه إحدى وعشرون رفعة من أدم -جلد - ورقعة من ثيابنا.

ولما استدعى عمر زياد بن عبد الله فدخل عليه في ثياب كتان وخفين رقيقين، قال زياد: وفي يد عمر مخصرة على رأسها حديد، فغمزها في خفّي حتى آذى رجلي. فلما كان من الغد رجعت إليه في

خُفّين غليظين، وعلىّ ثوبان من قطن. فلما رآني قال: هكذا يا زياد ، هكذا يا زياد. ثم قال لي: بكم أخذت هذين الخفين؟ قلت: بدرهم. فأعطاني درهماً وقال لي: اشتر لي مثلهما.

-16-

اقتدِ به في زهده وقوته. واياك أن تكون تقياً ضعيفاً قوياً فاجراً (فإن أبيت إلا أحداهما فأولاهما):

بينما عمر ذات يوم يمشي وخلفه عدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ بداله فالتفت، فلم يبق منهم أحد إلا وحبل ركبتيه ساقط، فبكى ثم قال: اللهم إنك تعلم أني منك أشد فرقاً – خوفاً – منهم مني.

وبينما كان ابن الهيلم، الحلاق، يقص عمر بن الخطاب وكان رجلاً مهيباً، فتنحنح عمر، فأحدث الحجام، فأمر له عمر بأربعين درهماً.

-17-

قُوته وقوَّته:

دخل عمر بيته وقد أصابه الجوع، فقال: عندكم شيء؟ فقالت امرأته: تحت السرير، فتناول وعاء فيه تمر، فأكل ثمّ شرب من الماء، ثم مسح بطنه وقال: ويح لمن أدخله بطنه النار.

وقدم على عمر ناس من أهل العراق فيهم جرير بن عبد الله البجلي، فأتاهم بجفنه قد صُنعت بخبز وزيت، فقال لهم: خذوا. فأخذوا أخذاً ضعيفاً. فقال لهم عمر: قد أرى ما تفعلون، فأي شيء تريدونه، أحلواً وحامضاً وحارّاً وبارداً ثم قذفاً في البطون؟

وبينما عمر قد وضع بين يديه طعاماً إذ جاء الغلام فقال: هذا عُتبة بن فرقد بالباب. قال: وما أقدم عتبة؟ ائذن له، فلما دخل رأى بين يدي عمر طعامه، وهو خبز وزيت! قال: اقترب يا عتبة فأصب من هذا. فذهب يأكل، فإذا هو بطعام خشن لا يستطيع أن يسيغه، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في طعام يقال له الحُواري - خبز أبيض -؟ قال: ويلك ويسع المسلمين كلهم؟ قال: لا والله. قال ويلك يا عتبة، أفأردت أن آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها؟

ولما قدم الشام، صُنع له طعام لم ير قبله مثله، فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنة! فاغرورقت عينا عمر وقال: لئن كان حظنا في هذا الطعام وذهبوا بالجنة، لقد باينونا بوناً بعيداً.

وكان يقول لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنا ندعه ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.

- "ولكنه مع ذلك كان كما روي"-"

 عن أسلم قال: رأيت عمر بن الخطاب يأخذ بأذن الفرس ويأخذ بيده الأخرى أذنه ثم ينزوا - يثب - على متن الفرس ويقول:

أبو مسعود الأنصاري: كنا جلوساً في نادينا، فأبل رجل على فرس يركضه يجري حتى كاد يوطئنا، فارتعنا لذلك وقمنا. فإذا هو عمر بن الخطاب، فقلنا: فمن بعدك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما أنكرتم؟ وجدت نشاطاً فأخذت فرساً فركضته..

 ورأت الشفاء بنت عبد الله العدويّة، من المهاجرات رضي الله عنها، فتياناً يقصدون في المشي - يمشون ببطء وضعف - ويتكلمون رويداً فقالت: ما هذا؟ فقالوا: نسّاك. فقالت كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقاً.

-18-

الإسلام يخضع الزعيم لأحد أتباعه، ويرتفع براعي الغنم إلى سيادة الأمم:

قدم عمر مكة، فأقبل أهل مكة يسعون فقالوا: يا أمير المؤمنين إن أبا سفيان ابتنى داراً، فحبس عنا مسيل الماء ليهدم منازلنا. - وأبو سفيان زعيم قريش قبل إسلامه، ولم تجتمع قريش على أحد قبله- فأقبل عمر ومعه الدرة، فإذا أبو سفيان قد نصب أحجاراً فقال ارفع هذا فرفعه، ثم قال: وهذا . . وهذا، حتى رفع أحجاراً كثيرة خمسة أو ستة، ثم استقبل عمر الكعبة فقال: الحمد لله الذي جعل عمر يأمر أبا سفيان ببطن مكة فيطيعه.

وفي رواية أنه استقبل القبلة فقال: اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته بالإسلام. فاستقبل أبو سفيان القبلة وقال: اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر.

-19-

حبذا لو ننتبه لهذا نحن أيضاً:

نظر عمر رضي الله عنه إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوجني بالحور العين. فقال له عمر: أسأت النقد وأعظمت الخطبة.

 ودعي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما إلى طعام، فأجابا. فلما خرجا قال عمر لعثمان: لقد شهدت طعاماً وددت أني لم أشهده. قال: وما ذلك؟ قال: خشيت أن يكون جعل مباهة!

وعن السائب بن يزيد قال: كنت بالمسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب. فقال: اذهب فائتني بهذين. فجئته بهما، فقال لهما: ممن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما. ترفعان أصواتكما في مسجد رسول صلى الله عليه وسلم؟

ورأى عمر مصحفاً صغيراً في يد رجل، فقال: من كتبه؟ قال أنا. فضربه بالدّرة وقال: عظموا القرآن. ورأى يوماً رجلاً قد أقبل، مرخياً يديه، طارحاً رجليه يتبختر. فقال له عمر رضي الله عنه: دع هذه المشية. فقال: لا أستطيع: فجلده، ثم تبختر، فجلده، فترك التبختر، فقال عمر: إذا لم أجلد في مثل هذا ففيم أجلد؟ فجاء الرجل بعد ذلك فقال: جزاك الله خيراً، إن كان إلا شيطاناً أذهبه الله بك.

وتزوج رجل على عهد عمر رضي الله عنه، وكان قد خضب لحيته، فنصل خضابه بعد أيام فبدا شيبه فاستعدى عليه أهل المرأة عمر وقالوا: حسبناه شاباً، فأوجعه عمر ضرباً وقال له: غررت القوم.

ولما كانت القادسية، ولم يجد الناس نساء مسلمات، تزوجوا نساء أهل الكتاب، فلما كثر المسلمات، بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن: بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها. فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام؟ وما أردت بذلك؟ فكتب إليه: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم، فقال: الآن فطلقها.

-20-

فماذا لو رآهنَّ في الجامعة:

عن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء الحرم على حوض يتوضؤون منه حتى فرق بينهم. ثم قال: يا فلان، قلت: لبيك قال: لا لبيك ولا سعديك، ألم أمرك أن تتخذ حياضاً – أي أحواضاً للرجال وحياضاً للنساء؟ ثم اندفع فلقي علياً، فقال له عمر: أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: ضربت رجالاً ونساء في حرم الله عز وجل. قال: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة(1).

-21-

 من لنا الآن بمثل عمر:

رثيت امرأة متزينة أذن لها زوجها بالبروز، فأخبر بها عمرة فطلبها، فلم يقدر عليها -فرت وزوجها - فقام خطيباً فقال: هذه الخارجة وهذا لمرسلها، لو قدرت عليهما لشترت بهما "نكلت بهم"ا، ثم قال: تخرج المرأة إلى أبيها يكيد بنفسه (يحتضر)، وإلى أخيها يكيد بنفسه، فإذا خرجت فلبس معاوزها "بالي ثيابها".

-22-

فليسمع من يزعم القدرة على جمع الضرّتين:

يقول عمر: نظرت في هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا أضر بالآخرة، وإن أردت الآخرة فأضر بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا فأضر بالفانية.

-23-

 السيف في موضع السيف، والندى في موضع الندى:

عتب عمر على بعض عماله، فكلمته امرأته فيه، فقالت: يا أمير المؤمنين، فيمّ وجدت عليه - أي ما الذي أغضبك منه -؟ قال: يا عدوة الله، وفيم أنت وهذا؟ إنما أنت لعبة يُلعب بك ثم تتركين.

وقيل أن رجلاً جاء إلى عمر يشكو إليه خلق زوجته فوقف بابه ينتظره، فسمع امرأته تستطيل عليه بلسانها وهو ساكت لا يرد عليها. فانصرف الرجل قائلاً: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين فكيف حالي؟ فخرج عمر فرآه مولياً، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، جئت أشكو إليك خلق زوجتي واستطالتها علي، فسمعت زوجتك كذلك، فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي؟ فقال له عمر: تحمّلتها لحقوق لها علي.

-24-

مر بالخير، وتجنب مواقف التهم، وأذعن للحق:

بينما عمر بن الخطاب يمر في الطريق، إذا هو برجل يكلم امرأة، فعلاه بالدرة فقال: يا أمير المؤمنين إنما هي امرأتي، فقال له: فلمَ تقف مع زوجتك في الطريق تعرضان المسلمين إلى غيبتكما؟ فقال: يا أمير المؤمنين الآن قد دخلنا المدينة، ونحن نتشاور أين ننزل. فدفع إليه الدرة وقال: اقتص مني يا عبد الله، فقال هي لك يا أمير المؤمنين، فقال: خذ واقتص. فقال بعد ثلاث: هي لله. فقال: الله لك فيها.

-25-

 ومن منا لا ينتشي إذا مدح؟ بله أن يُقرع المادح، ويمدح المقرع؟:

اثنى نفر من الناس على عمر بن الخطاب فقالوا: والله ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقول بالحق، ولا أشدّ على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.  فقال عوف بن مالك – الأشجعي، من غطفان -: كذبتم والله! لقد رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً من عمر: أبو بكر، فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، ولقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا - قبل إسلامه - أضل من بعير أهلي.

-26-

اسمعنا يا أزواج، ولا يدفعنكم هذا إلى التخنّث، وعليكم بخصال الفطرة الخمس وبالسواك:

أتت امرأة إلى عمر بزوج لها أشعث أغبر، فقالت يا أمير المؤمنين، لا أنا ولا هذا، خلصني منه! فنظر عمر، فعرف ما كرهت منه، فأشار إلى رجل فقال: اذهب به فحممه وقلّم أظافره وخذ من شعره وائتني به، فذهب ففعل ذلك ثم أتاه، فأومأ له عمر أن خذ بيدها، وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبد الله، سبحان الله! أبين يدي أمير المؤمنين تفعل هذا؟ فلما عرفته ذهبت معه، فقال عمر هكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهنّ ليحببن أن تتزينوا لهن، كما تحبون أن يتزّين لكم.

-27-

 فما موقفك أنت من الضعفة الأتقياء، والوجهاء الأشقياء:

حضر باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعة، منهم سهيل ابن عمر(من أشراف قريش)، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس (سيدا فزارة وتميم)، فخرج الآذن فقال: أين صهيب؟ أين عمار؟ أين سلمان؟ فتمعرت وجوه القوم. فقال واحد منهم لم تتمعر وجوهكم؟ دعوا ودعينا.. "أي إلى الاسلام" - فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكثر.

وجاء الحارث بن هشام وسهيل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجلساعنده وهو بينهما، فجعل المهاجرون الأولون يأتون عمر، فيقول: ههنا يا سهل، ههنا يا حارث فينحيهما عنه - يبعدهما -، وجعل الأنصار يأتون عمر، فينحيهما عنه، حتى صارا في آخر الناس، فلما خرجا من عنده، قال الحارث ابن هشام :"المخزومي ابن عم أم عمر، ومن أشراف قريش أيضاً"، لسهيل بن عمر: ألم تر ما صنع بنا؟ فقال له سهيل: أيها الرجل، لا لوم عليه، ينبغي أن نرجع باللوم على أنفسنا، دعي القوم فأسرعوا، ودعينا فأبطأنا.

ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقالا له: قد رأينا ما فعلت اليوم وعلمنا إنا أتينا من قبل أنفسنا، فهل من شيء نستدرك به؟ فقال لهما: لا أعلمه إلا من هذا الوجه - وأشار لها إلى غزو الروم - فخرجا إلى الشام فماتا بها شهيدين – "الحارث في معركة اليرموك، وسهيل في طاعون عمواس"- رحمهما الله تعالى.

-28-

 وهل يُطيق هذا مئة موظف، يتفرغون له:

كان يمشي إلى المغيبات، اللواتي غاب أزواجهن، فيقف على أبوابهن ويقول: أيتكنّ لها حاجة؟ وأيتكنّ تريد أن تشتري شيئاً؟ فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء فيرسلن معه بجواريهن، فيدخل السوق، ووراءه من جواري النساء وغلمانهن ما لا يحصى، فيشتري لهنّ حوائجهن، ومن ليس عندها شيء - مال- اشترى لها من عنده.

وإذا قدم الرسول بالبريد من بعض الثغور، - "البلدان التي تكون على الحدود، أمام العدو يرابط فيها المجاهدون" -، يتبعهنّ بنفسه في منازلهن بكتب أزواجهنّ ويقول: أزواجكن في سبيل الله، وأنتنّ في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان عندكنّ من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكنّ.

ثم يقول: الرسول يخرج كل يوم كذا وكذا، فاكتبن حتى نبعث بكتبكن. ثم يدور عليهن بالقراطيس والدواة يقول: هذه دواة وقرطاس فادنين من الأبواب حتى أكتب لَكُنّ. ويمر إلى المغيبات فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى أزواجهن.

-29-

المنزلة تتناسب مع الإيمان، والإيمان مع الخوف فانظر نفسك:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما طعن عمر رضي الله عنه، دخلت عليه فقلت: أبشر يا أمير المؤمنين، قد مصر الله بك الأمصار، ودفع بك النفاق. قال: أبالإمارة تثني علي يا ابن عباس؟ قلت: وفي غيرها. قال: والذي نفسي بيده، لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر.

-30-

 كيف لا تترعرع الحكمة بين الإيمان والزهد والعلم والعمل؟:

من كلام عمر رضي الله عنه:

* ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم، وإذ لم أحرم الرضا به وإذا أرجو الثواب عليه.

* قال له رجل: إن فلاناً قد جمع مالاً! فقال عمر: فهل جمع له أياماً؟

* ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين.

* لو نادى مناد من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم أجمعون إلا رجلاً واحداً لخشيت أن أكون أنا. ولو نادى مناد: أيها الناس إنكم داخلون النار إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكونه.

* إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يخوض فما أحب.

* إذا كان في الإنسان عشر خصال، تسعة منها صالحة وواحدة هي سوء الخلق، أفسدت هذه الخصلة تلك التسعة.

* كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم. وسلوا الله رزق يوم بيوم، ولا يضركم أن لا يكثر لكم.

* وليس من عبد إلا بينه وبين رزقه حجاب. فإن اقتصد - اعتدال في السعي- أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يزد في رزقه.

* لست بالخب، ولكن الخب لا يخدعني.

* تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا الوقار السكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم.

* إني أصبح كل يوم ونصف الخلق علي ساخط.

* القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم لغد، والأمانة أن لا تخالف سريرة علانية، فاتقوا الله، فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقه.

* اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى، ولا تقل لي منها فأنسى، فإنه ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.

* المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله.

* لا تعتمد على خُلق رجل حتى تجربه عند الغضب.

* اجتهد أن لا تكون دني الهمّة، فإني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همّته.

 * استعيذوا بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهنّ على حذر، واستعينوا عليهن بالعري، وأكثروا لهن من قول: لا، فإن "نعم"، تغريهن على المسألة.

* ما وجد أحد في نفسه كبراً إلا من مهانة يجدها في نفسه.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وسوم: العدد 849