الطبيب الداعية الدكتور تيسير رمضان الحصاد

عمر العبسو

(1365- 1397ه)/ (1946- 1977م)

هو الطبيب الداعية الإسلامي تيسير رمضان الحصاد، الذي يعد من الجيل الثاني من أبناء الحركة الإسلامية في دير الزور.

مولده، ونشأته:

ولد عام 1946م في قرية الشدادي على نهر الخابور قرب مدينة دير الزور حيث كان والده يعمل مزارعاً فيها، وكان أهله يخرجون إليها من دير الزور باستمرار.

دراسته، ومراحل تعليمه:

تعلم تيسير رمضان الحصاد في مدارس دير الزور الابتدائية والثانوية، وكان من الأوائل في دراسته دائماً؛ لأن الله أنعم عليه بعقل نفاذ وذكاء نادر .

كان نور الإيمان يشع في وجهه منذ نعومة أظفاره فقد لازم الصلاة، وهو في الصف الثاني الابتدائي، ولم ينقطع عنها إلى أن لقي وجه ربه الكريم.

تعلق قلبه بالمساجد:

وكان -رحمه الله- من الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد، وارتبطت أرواحهم بها منذ صغره وحدث مرة أنه كان ذاهباً إلى صلاة الفجر في المسجد، فقطع حذاؤه، فحمله تحت ابطه، وأكمل طريقه إلى المسجد حافياً خشية أن تفوته صلاة الفجر جماعة لو عاد ليستبدل الحذاء.

تحسسه قضايا المسلمين:

عندما بلغ سن الخامسة عشرة بدأ يتحسس قضايا المسلمين، وما يعانون من ضعف وتخاذل، وما يلاقيه أهل الإسلام من مكايد ومؤامرات لإقصائه عن ساحة الحياة.     

وكان في هذه السن القدوة الحسنة، والأسوة المثلى العلمية والدينية لأفراد عائلته جميعاً.

دراسته في كلية الطب:

بعد أن نال الشهادة الثانوية بتفوق دخل كلية الطب جامعة دمشق عام 1963م.

وكان من الأوائل المتفوقين خلال مسيرته العلمية، وكان كثيراً ما ينال المكافآت المالية بسبب هذا التفوق، وكان أول شيء اشتراه هو كتابه المحبب ( في ظلال القرآن ).

وكان فكره العلمي ووعيه الإسلامي يزداد باطراد خلال دراسته في كلية الطب، وكان من هذا الباب قدوة لزملائه.

تخرج يحمل لقب الدكتور بتقدير جيد جداً عام 1970 – 1971م.

متابعة الاختصاص في طب الأطفال:

عمل طبيباً عاماً في منطقة الميادين ما يقرب من شهرين، ثم يمم وجهه شطر الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر عام 1971م لينهل العلم وليتابع دراسة الاختصاص في طب الأطفال، وكان شعلة من النشاط والعمل الدائب للإسلام فكان يسافر لحضور المؤتمرات الإسلامية، ويكتب، ويحاضر في قضية الإسلام.

كان سكرتيرً لمنظمة الأطباء المسلمين في أمريكا وكندا.

بعد بضع سنوات نال شهادة البورد في طب الأطفال عام 1976م وعين مباشرة أستاذاً لتدريس طب الأطفال في جامعة اللينوى قرب شيكاغو بعد أن أبدى ضروباً من التفوق العلمي حتى على الأمريكيين أنفسهم.

وفاته بحادث سير:

وفي 16 شباط عام 1977م خرج من بيته في الساعة الثامنة والربع صباحاً وفي الساعة التاسعة والنصف في رابعة النهار قتل بسيارته بحادث قيل إنه صدم قطاراً في هذه الساعة الواضحة من النهار بعد ساعة وربع من خروجه من بيته مع أن مسافة الطريق من بيته إلى مكان الحادث لا تستغرق أكثر من عشر دقائق

ونقل جثمانه إلى دير الزور من شيكاغو إلى بلده دير الزور،  حيث دفن وهو في ريعان الورد، وقد خلف وراءه ولدين وبنتاً.

أصداء الرحيل:

ورثاه الشاعر مصطفى الغدير بقصيدة طويلة، كما نعاه نبيه المفتي، وكتب الأديب الداعية  محسن خرابة مقالة نشرتها حضارة الإسلام الدمشقية حيث قال فيها: ( أخي تيسير: إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، وإنا على فراقك يا أبا عمر لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أخي الحبيب تيسير: ما كان يدور في خلدي، ولم يخطر على بالي في يوم من الأيام أنني سأمسك بقلمي الراعش لأحط كليمات في نعيك، وأحمل يراعتي المضطربة لأتحدث عنك، وأرثيك، ولكن القدر إذا حلّ والقضاء إذا نزل فما للقلوب المفجوعة الثكلى إلا التسليم المطلق والرضا الكامل بما يقدر الله ويفعل، ولكن أيّ بيان – مهما عظم – قادر على أن يوفيك حقك أيها المجاهد، وأي كلام وأي قلم يقوى على أن ينطق بما يعتمل في الصدور، ويختلج في القلوب، وشهد الله أن الخبر المحموم الفاجع حينما قرع آذاننا كادت قلوبنا أن تنفلق، وأفئدتنا أن تتمزق، وكأن صاعقة نزلت عليها من السماء، وكاد صوابنا أن يطير من هول الصدمة، وكبر الكارثة، وفداحة الفاجعة لولا تمسكنا بحبل الله المتين واستعصامنا بإيماننا .

وفجأة تقفز إلى أذهاننا أن الصهيونية الآثمة والصليبية الحاقدة لم يقرّ لهما قرار، ولم يرتح لهما ضمير إلا إذا ذاق تيسير وأحبابه، ومن هم على طريقه الموت الزؤام؛ لأنه لم يكن شوكة في عيونهما فحسب، وإنما كان سهماً مدمياً في قلوبهما.

أخي الحبيب أبا عمر: لا أدري عن أي شيء أتحدث من حياتك ؟ أعن طفولتك البريئة ؟ أم عن شبابك المؤمن الصلب ؟

نفس تواقة:

لا زلت أذكر تلك الأيام التي قضيناها معاً في الثانوية والجامعة، حيث كنت تحمل بين جنبيك نفساً تواقة، وروحاً عالية لا تعرف إلا معاني الجد حتى في أوقات الراحة.

لا زالت تلك الأيام التي كنا نذهب فيها إلى نهر الفرات مع بعض الأحباب لقضاء المتعة والراحة، ماثلة أمام عيني، وكنت دائماً تتأبط كتابك الحبيب ( في ظلال القرآن)، وبعد قضاء فترة وجيزة سرعان ما كان صوتك المؤمن الندي بنادي إخوته: أن تعالوا واسمعوا صوت السماء، أيها الأحباب، فكانت نفسك لا ترتاح وروحك لا تطمئن إلا في ظلال الظلال.

لا زلت أذكر العهد الذي قطعته على نفسك مع بعض أحبابك وطبقته زماناً طويلاً إلى أن ذهبت إلى أمريكا، وهو قضاء فترة ما بين المغرب والعشاء بحفظ القرآن الكريم.

دعاؤه بالشهادة في سبيل الله:

لا زال دعاؤك الخالد الذي كنت دائماً تردده صادقاً يرن في أذني وفي أذن الزمان: ( اللهم ارزقنا الشهادة في سبيل دينك وإعلاء كلمتك ).

ونسأل الله الكريم أن يكون هذا الدعاء قد استجيب، وهذا السؤال قد تحقق وأن تكون في سلسلة الشهداء الأبرار الخالدين.

أخي الغالي تيسير: لم تبق عين من العيون المؤمنة إلا أسبلت عليك الدموع قائلة:

نبكيك يا فلذة الأكباد أعيننا       دماً يسيل على الخدين مدرارا

حلفت بعدك أكباداً مقرحة         تبقى على الحزن آماداً وأدهارا

ولم يبق قلب ينبض بذكر الله إلا ذاق لوعة الحرقة، واكتوى بنار المصيبة، لم يبق فم إلا انطلق يلهج بذكرك الطيب، ويتحدث عن خلالك الكريمة، ويروي أخبارك العذبة حتى أولئك الناس الذين يخالفونك في الرأي والفكر، لم يبق مجلس من مجالس البلد إلا نعاك، وحزن عليك بكل حرقة وأسى .

لقد بكيناك يا أخي، بكينا فيك الكرم، والوفاء، والإخلاص، والصدق، والإيمان، والتقوى، والورع، والعمل الدائب، والتفكير الواعي، والشجاعة في الحق ..

إن كل هذه المعاني التي يكاد الإنسان المسلم في هذا الزمان يكون أحوج إليها من الماء والطعام بكيناها فيك، ويحق لنا أن نقول فيك: 

بموتك قد فقدنا اليوم عزاً           وكنزاً لا يحدد بالحساب

فقدنا اليوم شمساً قد أضاءت     وعلماً فيضه غر السحاب

وفهماً ثاقباً ومدى بعيداً               ولباً دونه لب اللباب

وصدراً واسعاً وتقى وفضلاً      وعقلاً دونه ثقل الهضاب

قافلة الشهداء:

أخي المجاهد: لم تكن أول شهيد أريق دمه في سبيل الله، فقافلة الشهداء لا تزال تجود بالأرواح والأنفس رخيصة في سبيل الله، وإننا نعاهدك يا أخي، نعاهد روحك الطيبة الطاهرة أننا على دربك سائرون، وبنهجك عاملون، فلتقر عينك في جنان الله، ولتعلم أن دماءك الزكية التي أريقت هناك ستبقى تشع نوراً لنا ولدربنا الطويل فتكسبنا مزيداً من الثبات على الطريق.

أثره في ديار الغربة :

أخي: لقد كنت معلماً في الطريق، تهدي السائرين في دروب الحياة وبخاصة في ديار الغربة، لقد كنت الظلال الدافئة التي يرتاح إليها أحبابك في أمريكا، لقد كنت نبراساً يضيء الطريق للغافلين، لقد كنت مجاهداً بحق يرفع شعار الإيمان في ديار الكفر ولواء النور في بلد الظلام، ولئن حاولت النفوس المظلمة والأرواح المنتنة أن تقضي على هذه المعالم، وأن تطفئ هذا النور، خسئت وخابت، لأن هذه الشعلة من النور تستمد نورها من نور رب الكون، وإن الله متم نوره ولو كره الكافرون المجرمون الظالمون.

يا صاحب القلب الكبير، ويا صاحب العقل المنير، وأنت الأستاذ في الجامعة، الدكتور المختص في طب الأطفال، كنت دائماً تذهب إلى مدارس أطفال المسلمين الخاصة في شيكاغو وغيرها، لتعلمهم مبادئ القراءة والكتابة العربية، حفاظاً على دينهم ولغتهم فمن يفعل ذلك إلا أولئك الأبطال الذين يحسون قضايا أمتهم صباح مساء، وكنت واحداً منهم.

لا أدري مرة ثانية عن أي شيء أتحدث ؟ وماذا أقول ؟ القلم عاجز، وإن البيان قاصر عن الوفاء بحقك .

ترفعه عن متاع الدنيا:

لقد غادرت يا أخي هذه الدنيا الفانية الزائلة التي لا يتعلق بها إلا ذوو النفوس الصغيرة المهزومة، وكنت فوقها وفوق متاعها الزائل وزخارفها الفانية، وكم كنا نتمنى أن تعود إلى بلدك لتلقن أولئك الذين أعمتهم المادة، وارتكسوا في حمأتها في هذا المجتمع المادي المسعور، أن السعادة ليست في جمع المال، ولا في الانكباب على الدنيا، والتعلق بها، ولكن السعادة في التقوى الحقيقية والاستعلاء على زخارف الدنيا كما يقول الشاعر:

ولست أرى السعادة جمع مال      ولكن التقي هو السعيد

لقد رحلت – يا أخي – عن هذه الدنيا وأنت مرفوع الرأس عالي الجبين، لم تطأطئ رأسك إلا للواحد القهار، ولم تحن جبهتك إلا للعزيز الغفار، لقد مت موت الفرسان الشجعان الأشاوس الذين لم يعرفوا معاني الذلة والهوان والصغار، التي يرزح الناس في نيرها، والذين تخرجوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، أذكرتني حياتك وزهدك بالجيل الأول الذي تربى في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، لقد كنت شعلة من الإيمان الراسخ ، ونبراساً من التقوى الصادقة، وطاقة هائلة من الحركة والعمل، ومثلاً أعلى في حب الآخرين ونكران الذات.

أي كلام بعد هذا الكلام يا أخي، والله إنها لفاجعة كبيرة، ولكن الذي يخفف من هولها وعظمها هو اعتقادنا بأنك شهيد من الشهداء ويقيننا بأن جنة الله الواسعة ستكون مأواك مع محمد وصحبه والأنبياء والشهداء ومع شاعرك الحبيب الذي قال:

أخي إن نمت نلق أحبابنا        وجنات ربي أعدّت لنا

وأطيارها رفرفت حولنا         فطوبى لنا في ديار الخلود

طوبى لك يا أخي وحسن مآب، وإلى الخلود في قلوبنا، وفي أرواحنا وفي جنان الله الواسعة إن شاء الله.

لن تموت يا أخي تيسير، صحيح أن جسدك الطاهر فارق الدنيا، ورحل عنا، ولكن روحك الزكية التي تحمل كل معاني الإباء والإيمان والعمل سوف تبقى خالدة في قلوبنا خلود هذه المعاني في كل زمان ومكان.

إن الدموع السخية التي ذرفناها عليك ستكتب اسمك في أفئدتنا، وسترسم صورتك في قلوبنا، وستخلد ذكراك في أرواحنا.

وأنتم يا آل الفقيد وإخوته لستم وحدكم في المصيبة، ولستم وحدكم الذين فقدتم أبا عمر، وإنما فقده كل مسلم وكل مؤمن.

وختاماً أخي الحبيب: نسأل الله الكريم أن يكرم مثواك، وأن يرحمك رحمة واسعة، وأن يجعلك في أعالي الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين   وحسن أولئك رفيقاً، ونسأله تعالى أن يكرمنا بأن نسير على طريقك طريق الشهداء والأتقياء والعاملين.

فلله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل نصبر، ونحتسب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

مصادر الترجمة:

1– حضارة الإسلام: ع 3 , س 18: ( 1397ه- أيار 1977م) – ص 91 , 96 .

2- رجال فقدناهم: تحقيق مجد مكي.

وسوم: العدد 857