الشيخ الداعية محمد صالح الزركان ... مؤسس حركة البحث والتأليف في الميادين

عمر العبسو

( 1936 - 1964 )

هو الشيخ الداعية محمد صالح زركان الذي يعد من رواد النهضة العلمية في منطقته، حيث بدأها المرحوم الأستاذ محمد صالح الزركان في أبناء الميادين ( 1936 - 1964 ) بكتابه القيم والثمين ( الفخر الرازي - آراؤه الكلامية والفلسفية )، وقد نال به شهادة الماجستير من كلية الشريعة بجامعة القاهرة، وقد طبع هذا الكتاب بدار الفكر بيروت في / 680 / صفحة حجم كبير سنة / 1971 /

ولم يكن لأحد من أبناء دير الزور رسالة ماجستير مطبوعة، وتؤرخ هذه الرسالة بداية مرحلة فكرية في تاريخ الميادين الحديثة أن مؤلفها، وإن كان قد مات شاباً، فجدير بتهنئة أبناء الفرات له وثنائهم عليه. وقد وضع اللبنة الأولى في أساس الدراسات بمنطقة الميادين والفرات، من هو محمد صالح الزركان ؟ وما هي سيرته؟

مولده، ونشأته:

إن الشيخ الداعية محمد صالح بن محمود الحاج جاسم الزركان من مواليد بلدة الميادين عام 1936م عاش حياة قصيرة في أسرة متوسطة الحال، من أسرة إسلامية تمت بنسبها إلى سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسين بن على بن أبى طالب  -كرم الله وجهه- وأخواله من آل الآلوسي.

فقد كان والده ( الحاج محمود الزركان ) يشتغل بتجارة الأغنام والأقمشة في سوق الميادين التجاري القديم، مما كان يدر عليه مبلغاً من المال يكفيه، ويكفي أسرته الكبيرة العدد.

دراسته، ومراحل تعليمه:

ولما أتم السادسة من عمره وضعه والده عند الشيخ (الكتاب) أو (الملا) كما يسميه أبناء الميادين ليتعلم القرآن، وذلك قبل دخول المدرسة.

فحفظ (محمد صالح) القرآن الكريم في سن مبكرة، فقد بانت عليه معالم الفهم والذكاء، وهو ما يزال في سنوات عمره الأولى درس القرآن الكريم عند الشيخ ( عبد الله العبيد ).

- انتسب إلى مدرسة ( علي ابن أبي طالب ) الابتدائية في الميادين عام 1942م، ونال منها الشهادة الابتدائية عام 1947 بتفوق كبير ...

ثم تابع دراسته الإعدادية والثانوية في مدارس دمشق. فحصل على الدراسة المتوسطة، والثانوية العامة (القسم الأدبي) بواسطة الدراسة الحرة عندما كان طالباً في هذه المدرسة.

وانتسب إلى كلية الشريعة التي كان بيت الأمير عبد القادر الجزائري مقراً لها في فترة الأربعينيات، وقد عانى كثيراً، وهو ما يزال صبياً من مخاطر السفر من الميادين إلى دمشق في تلك السنوات التي كانت فيها وسائل المواصلات قليلة ونادرة، كما عانى من صعوبة السفر عبر البادية في الحر والبرد كان يحمل سلته الصغيرة، والتي كانت تحتوي على ثيابه القليلة البسيطة وزوادة الطريق؛ ليمتطي ظهر الشاحنات الكبيرة التي تنقل الأغنام من محافظة دير الزور إلى دمشق في تلك الأيام

- كثيراً ما كانت هذه الأغنام أنيسته الوحيدة في بادية الشام المترامية الأطراف.

- انتسب إلى كلية الشريعة بجامعة دمشق، وتخرج منها بدرجة ممتازة،         وحصل بعد ست سنين على شهادة القسم التجهيزي عام 1954م، وكان ترتيبه الأول على زملائه. وكان موضوع تخرجه في دراسته الجامعية الأولى ( حقوق العمالة في الإسلام ).

فارتأت عمادة الكلية إيفاده إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه في الفلسفة الإسلامية.

ولكنه قبل سفره إلى القاهرة عمل مدرساً لمادة التربية الدينية في ثانويات محافظة الحسكة لمدة عام واحد.

ثم سافر إلى القاهرة، وناقش رسالة الماجستير بجامعة القاهرة التي كانت بعنوان: (فخر الدين الرازي - وآراؤه الكلامية والفلسفية).

ومنحته لجنة التحكيم هذه الشهادة بتقدير (ممتاز)، وكانت مثار إعجاب المناقشين والباحثين، وقد وصفها الدكتور (علي سامي النشار) أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية: أنه لم يسبق أن كتب أحد بحثاً مفصلاً عن الرازي كما فعل الباحث محمد صالح الزركان.

وطلب منه مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر لتهنئته، فربت على كتفه قائلاً: أهنئ سورية فيك يا محمد صالح.

هذا وقد كتبت الكاتبة والصحفية المصرية الدكتورة (نجاة شاهين) تعليقاً على المناقشة في العدد 83 السنة السابعة 1963

من مجلة (المجلة المصرية) تحت عنوان (الندوات الثقافية)

قالت: لقد نوقشت خلال هذا الشهر نوفمبر 1963 في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة الرسالة المقدمة من السيد محمد صالح الزركان المعيد بجامعة دمشق لنيل درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، وقد اختار الباحث جانباً من أهم جوانب الفيلسوف الكبير فخر الدين الرازي، وهو الجانب الكلامي الفلسفي

ويقول الباحث: إنّ سر اختياره لهذا الجانب هو رغبته في خدمة قضيتين: أولاهما المساهمة في سد النقص الواقع في الدراسات الكلامية على وجه الخصوص وثانيهما: إلقاء الضوء على الرازي مفكراً من طراز خاص أنفق حياته في الاشتغال بعلم الكلام والفلسفة ولكنه انتهى إلى رأي معين إزاءهما، وتابعت تعليقها على مدى أربعة أعمدة من المجلة.

وفى سنة 1971م تولت مكتبة دار الفكر بدمشق وبيروت طبع هذا الكتاب الذي بلغ 680 صفحة. وقد صار من المراجع الهامة عن الفلسفة الإسلامية.

ثم سجل أطروحة رسالة الدكتوراه في الكلية نفسها من جامعة القاهرة وكانت بعنوان: (الاتجاه العقلي في المدرسة الماتريدية). وتابع البحث والدراسة فيه حتى اكتمل وهيأه للمناقشة، إلا أن يد المنون عاجلته قبل المناقشة بأشهر قلائل. فبكته الناس وكل من عرفه.

أعماله، والوظائف التي شغلها:

- مارس مهنة التدريس في إعدادية ( ابن رشد ) الخاصة بالميادين في عامي / 1956 - 1957 / ومن زملائه في التدريس الأستاذ يحيى الظللي، والملا خالد مدير المدرسة والقلة القليلة من المدرسين.

- وفي تشرين الثاني عام 1957 زار الهند، والصين، وتايلاند، والاتحاد السوفيتي مبعوثاً من جامعة دمشق في جولة دامت ثلاثة أشهر.

عاد إلى التدريس في محافظة الحسكة إذ عمل مدرساً في ثانوية نور الدين الشهيد عام 1959م.

أوفدته جامعة دمشق في منحة لدراسة الماجستير في كلية ( دار العلوم ) بالقاهرة عام 1961، وكان موضوع رسالته ( فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية )، وقد أنجز كتابة الرسالة بعد جهود مضنية وأسفار كثيرة ألحقت ضرراً كبيراً بصحته، فنال شهادة الماجستير بدرجة ( امتياز ) في شهر أيلول عام 1963  وقد قال الدكتور محمود قاسم عميد كلية دار العلوم بالقاهرة أثناء مناقشة الرسالة مخاطباً محمد صالح الزركان ( إنك ولا شك فخر لسورية التي أنجبتك )

- في نهاية عام 1963 بدأ بتحضير رسالة الدكتوراه، والتي اختار موضوعها (الماتريدية )، وهي فرقة فلسفية إسلامية تقف بين الأشاعرة والمعتزلة ...

- عاد إلى بيروت في شهر تموز عام 1964 في طريقه إلى لندن لإجراء بعض الدراسات حول رسالة الدكتوراه التي كان يعمل بها.

مؤلفات الزركان:

في الواقع ليس له سوى مؤلف مطبوع واحد، وهو رسالته في الماجستير عن فخر الدين الرازي، وله مخطوطات لم يتم طبعها منها:

1- حقوق العمالة في الإسلام.

2- رحلتي إلى الصين.

3- اشتراكية الإسلام.

وله مخطوطات أخرى كثيرة

-ولنعد الآن إلى أهم ما تركه لنا الأستاذ محمد صالح الزركان، وهو كتابه الهام

(فخر الدين الرازي - آراؤه الكلامية والفلسفية ).

-يقع الكتاب في /680/ صفحة من الحجم الكبير، ويتألف من ستة أجزاء رئيسية (مقدمة وأربع أبواب وخاتمة).

في الباب الأول: يتحدث المؤلف عن عصر الرازي، وهو عصر الغزوات الصليبية وبداية هجوم التتار على الوطن العربي إذ أن الرازي عاش في القرن السادس الهجري وبداية القرن السابع (43هجري - 606 هجري)، فقد كانت الأوضاع الاجتماعية والسياسية في زمانه سيئة جداً ومع ذلك، فقد اهتم ملوك وأمراء ذلك العصر بالأدب والفن رغم تراجع الفلسفة بسبب التشدد في الدين، فقد طارد صلاح الدين الأيوبي والسلاجقة كل من خرج عن سنة المسلمين...

وقد عاصر الرازي ابن رشد، والسهروردي، وابن عربي، وعبد القادر الجيلاني، وابن ميمون، وابن الفارض، وعز الدين ابن عبد السلام ..

ينسب الرازي إلى مدينة قديمة جنوب غرب طهران، وهو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي فخر الدين الرازي مولداً الطبرستاني أصلاً البكري نسباً الشافعي في الفقه والأشعري في العقائد، وكان يعرف بابن الخطيب لأن والده كان خطيب مسجد، ثم خلفه في منصبه، وقد طاف الرازي في بلاد اسلامية كثيرة منها أفغانستان وإيران وغربي الهند..

لاقى متاعب كثيرة في مناقشاته مع المعتزلة وبعض الفرق الدينية الفلسفية الأخرى ..

كما هاجمه الحنابلة وشتموه ولعنوه - وقد قيل أن أحد الفرق الفلسفية دسوا له السم، وقد شعر بالموت وطلب من أصحابه ألا يعلنوا موته ويدفنوه سراً حتى لا تنبش العامة قبره، ويمثلوا فيه ..، وقد كان الرازي في بداية حياته فقيراً، ولكنه جمع مالاً فيما بعد بسبب عمله في وظائف الدولة عند الملوك والأمراء ..، وقد اختلف المؤرخون في أخلاقه، فمنهم من قال: إنه كان شتاماً حاد المزاج سيء الخلق، ومنهم من قال بأنه جميل المعشر حسن الخلق لذلك اجتمع حوله في فترة من حياته أكثر من (300 ) من تلامذته الذين يحبونه، ولو كانت أخلاقه سيئة لما اجتمعوا حوله.

يقال أن محي الدين ابن عربي تلميذ كتب الرازي في الفلسفة وخصوصاً  كتابه الشهير (المحصل).

- ومن تلامذة الرازي شهاب الدين النيسابوري، وقطب الدين المصري، والليثي، وقد نهل الرازي ثقافته من المعتزلة، وابن سينا في الفلسفة، وأبي المعالي في مذهب الأشاعرة، واطلع على كتب الفلاسفة القدماء.

ومن مؤلفات الرازي:

(الفلسفة - علم الكلام - المنطق والجدل - الأدب والبلاغة - النحو ).

كما ألف في الفقه، والتفسير، والتاريخ، والعلوم، والرياضة، والطب، والفراسة، والسحر، والتنجيم، والرمل، ودوائر المعارف.

في الباب الثاني:

بحث في وجود الله ومعرفته وأدلة الوجود عند الفلاسفة المتصوفة والمتكلمين وإخوان الصفا، ويخلص من هذا إلى أن طريقة الرازي في الاستدلال على وجود الله هي طريقة القرآن .. كما يبحث في هذا الباب صفات الله سبحانه وتعالى

في الباب الثالث :

يبحث في خلق العالم، ومشكلة بقائه وفنائه، ويتعرض إلى النظريات السابقة للفلاسفة والمتكلمين المسلمين وغير المسلمين، ويبحث في أفكار أرسطو وأفلاطون ويبحث في المادة وتماثل الأجسام والجوهر الفرد والزمان والمكان ويرى الرازي في مسألة الزمان أنه ليس له بداية ولا نهاية وأنه متعلق بالحركة.

في الباب الرابع:

يبحث في قضايا الإنسان فيدرس قضايا النفس وما هيتها ونظرية المعرفة التي هي عند الرازي نفسها عند ابن سينا ثم يناقش أفعال الإنسان وحسنها وقبحها، ويقف طويلاً عند مشكلة الجبر والاختيار وانقسام الفرق الإسلامية حول هذه المشكلة وظهور فرق الجبرية والقدرية والمعتزلة وآرائهم حولها.

وقد هاجم الرازي المعتزلة كما لم يقبل بمذهب الجبرية وكان الرازي يردد هذه العبارة (الإنسان مضطر في صورة مختار) كما بحث في النبوة والأخلاق وناقش مسألة الإمامة وهي من المسائل الشائكة في تلك الفترة لأنها تتعرض للسياسة ومسألة الحكم ولم يكن له موقفا واضحا تجاه هذه المسألة ..

خلاصة القول: إن الرازي مفكراً عربياً أهدى المكتبة العربية أكثر من (100) كتاب، ولا بد لنا أخيراً من أن نثمن، ونقدر عالياً هذا الباحث (محمد صالح الزركان) الذي كتب الكثير، وقدم هذه الدراسة الهامة برغم أن حياته كانت قصيرة لم تتجاوز ال/28/ عاماً والعجيب أنه زار بلاداً كثيرة بالإضافة إلى زياراته إلى الصين والاتحاد السوفيتي فقد زار بغداد والموصل وحيدر آباد وتركيا وبعض المدن الأخرى ..

استكمالاً لدراسته الفلسفية الكثيرة وهذا كله في فترة قصيرة وفي سنين عمره القليلة فقد أمضى حياته بين الكتب و الدراسات التي تستحق الوقوف والتأمل رحم الله (محمد صالح الزركان) لا يزال يعيش في قلوب وذاكرة الكثير من الذين يعرفونه .

-هذا الكتاب هو رسالة ماجستير مقدمة لقسم الفلسفة بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، من إعداد: محمد صالح الزركان، منشورات دار الفكر، القاهرة، 1963. وقد قيل عنها: أن مؤلفها قد بذل مجهوداً واضحاً في الكشف عن المصادر التي استعان بها الفخر الرازي، وقد عمل على إحصاء أفكاره الكلامية والفلسفية، وأن الزركان في دراسته هذه ينطلق من وجهة نظر مقيّدة بأحكام مسبقة على الفلسفة وعلم الكلام .

وقد حاول إثبات تهافت هذين العلمين وتهافت كل المحاولة للتوفيق فيما بينهما. والجدير بالذكر أن دراسة الزركان برغم كل شيء تعد رائدة في مجالها، من حيث إنها أول رسالة علميه تدرس الفخر الرازي وفكره الكلامي. نقلاً عن منتدى الأصليين

بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ

الـسَّـلَامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبـَرَكَـاتُـهُ

الحَمْدُ للهِ الحَمِيدِ المَجِيدِ؛ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَمُعَافَاتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَمُجَازَاتِهِ،

يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛

هَدَى قُلُوبَ أُنَاسٍ فَشَرَوُا الآخِرَةِ بِالدُّنْيَا، وَضَلَّ عَنِ هِدَايَتِهِ أَقْوَامٌ فَخَلَدُوا إِلَى الفَانِيَةِ وَضَيَّعُوا البَاقِيَةَ؛

[مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] {الكهف:17}،

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى الهُدَى فَاتَّبَعَهُ ثُلَّةٌ مِنَ السَّابِقِينَ فَدَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،

وَانْخَلَعُوا مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَعَادَوا عَشَائِرَهُمْ وَقَبَائِلَهُمْ؛ فَسَخَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ، وَاخْتَارَهُمْ حَمَلَةً لِدِينِهِ،

صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَكُمْ، وَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ،

وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ،

[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] {الشعراء:88-89}.

وفاته:

واكتشف محمد صالح زركان في لبنان فجأة بأنه مصاب بالسرطان، فتابع سفره إلى دمشق التي وصلها، وقد اعتلت صحته بشكل خطير حيث أجريت له عملية جراحية لم تكن بذات فائدة إذ فات الآوان، وفارق الحياة في تشرين الثاني عام 1964 بدمشق، ودفن في مسقط رأسه الميادين.

أصداء الرحيل:

وقد نعته مجلة (حضارة الإسلام)، ونقلت حفلة التأبين إحياء لذكرى وفاة فقيد كلية الشريعة ( 1385ه/ 1966م )، وقد تكلم في الحفل الأستاذ محمد المبارك، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور محمد أديب الصالح، والأستاذ خالد الرفاعي، كما ألقيت قصيدة باسم الأستاذ عبد المنعم الرحبي، وتكلم عن أسرة الفقيد شقيقه الأستاذ محمد علي زركان.

كلمة الأستاذ محمد المبارك:

بذرة صالحة طيبة:

رحمك الله يا صالح، لقد كنت ثمرة من هذه الثمار التي أنضجتها هذه الكلية، بذرة صالحة طيبة سقتها الكلية بماء العلم وغذتها بلباب الشريعة، فلما أينعت وحان قطافها قضت حكمة الله ألا يكون القاطفون لها من أهل هذه الدنيا.

لقد كان صالح زركان – رحمه الله – من هؤلاء الطلاب النابهين النابغين الذين ساروا في هذه الكلية سنة فسنة في جد لايعتريه غرور، وفي فهم لا يصحبه تبجح، وفي هدوء وصمت حتى كان أساتذته الذين يدرسونه جنبات هذه الثقافة المتنوعة الألوان والمتعددة الآفاق التي تمتاز بها كلية الشريعة بجامعة دمشق.

لا أزال أذكر جلساته مستمعاً في غرفة الدرس، ووقوفه معنا لمناقشة مسألة أو البحث في موضوع، لا أزال أذكره وكأنه الساعة أمامي. كان في نظراته أدب واستحياء وفي نبراته اعتداد وثقة.

إيفاده للدراسات العليا في دار العلوم بالقاهرة:

لقد اختارته كلية الشريعة، وكان الأول بين المتخرجين في عام تخرجه لتوفده للدراسات العليا لتحصيل درجة الدكتوراه في العقيدة والفلسفة الإسلامية.

وقضى في كلية دار العلوم في القاهرة أربع سنين دائباً يواصل الليل والنهار في بحث موضوع اختاره ليكون موضوع رسالة الماجستير، وهو الإمام الفخر الرازي وآثاره، ذلك الإمام الكبير صاحب التفسير والمؤلفات العظيمة في علم الكلام والفلسفة الإسلامية.

وكان الأستاذ المشرف على عمله هو أحد كبار الأساتذة المشتغلين بهذه البحوث، وهو الدكتور محمود قاسم رئيس قسم الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم.

صلاحه وصبره على طلب العلم:

أخبرني رفاقه الذين صاحبوه في القاهرة أنهم رأوا منه عجباً، فقد رافقوه في الدراسة بدمشق، ولكنهم لم يعرفوه حق المعرفة، وإذا به يتكشف لهم في القاهرة على حقيقته، شاب صالح لا يعرف اللهو – على ما في القاهرة من أسبابه وألوانه سبيلاً إلى حياته، قوي في إيمانه، متعبد لربه، لا يشغله عن عبادته شاغل، ولا يصرفه صارف، منكبّ على عمله العلمي الذي أوفد من أجله انكباباً لا يبارى فيه حتى كان موضع التقدير والاحترام من أساتذته، وكان البحث الذي اختاره لنفسه واختاره له المشرفون على بحثه شاقاً عسيراً، ذلك أنه يتصل بالفلسفة اتصالاً وثيقاً، ويتصل بالعقيدة الإسلامية كذلك اتصالاً عميقاً، فكان لا بد من أن يكون بحثه مرضياً مقنعاً لباحثي الفلسفة، وأن يكون كذلك بالنسبة للمشتغلين بعلم الكلام والعقيدة الإسلامية.

دراسة نفيسة عن الإمام الرازي وآرائه الكلامية والفلسفية:

وقد لقي في طريقه هذا مصاعب كثيرة أجهد نفسه في تذليلها، وتحمل في سبيل النهوض بعبء البحث مشاق شديدة أتعبت فكره، وأنهكت جسمه حتى طلع علينا بعد أربع سنوات بدراسة فريدة لم يسبقه إليها أحد من الباحثين، فقد استطاع – كما اعترف له أساتذته الذين ناقشوا رسالته – أن يقف موقف الناقد لأبحاث عدد من كبار المؤلفين في هذا العصر، وأن يخرج أول كتاب متجانس عن حياة الرازي وآرائه الكلامية والفلسفية على أساس علمي سليم ، فقد جلا هذه الشخصية الإسلامية العظيمة، وقدم لنا في دراسته صورة جامعة واضحة المعالم عن إمام من أئمة أهل السنة، ومفكر عظيم من مفكري الإسلام الذين جمعوا بين الفلسفة والكلام وبين التفكير العقلي العميق والإيمان الديني المستقى من نصوص الكتاب والسنة.

الجيل الجديد الذي يحمل رسالة الإسلام:

لقد قرأت هذا الكتاب العظيم الذي ألفه السيد صالح زركان رحمه الله، فوجدته كتاباً يستفيد منه العلماء والاختصاصيون، وجدت فيه ثمرة من ثمار هؤلاء الشبان الصالحين الذين تسعى أساتذة كلية الشريعة لتخريجهم لا على أساس أن يكونوا مقلدين تابعين أو نسخاً ثانية لأساتذتهم، بل ليكونوا فاتحين لآفاق جديدة، وليكملوا عمل أساتذتهم، ويسيروا خطوات أخرى إلى الأمام، وليكونوا الجيل الجديد الذي يحمل رسالة الإسلام متحررة من الخرافة ومن السطحية ومن التدجيل والانتهازية، منزهة عن أغراض الدنيا، يبتغون بها وجه الله ونفع عباده، ويعمل على بعث الإسلام من جديد على أسس فكرية سليمة وبدوافع إيمانية خالصة.

وهكذا كان صالح رحمه الله فقد انطوى على علم لا يخالطه كبر، وعلى تقوى لا يخالطها ادعاء، وعلى دين يصاحبه عقل، وعلى ورع لا يدل به على الناس، يعرف بالمعاملة ولا يبدو في المظاهر.

يا صالح:

لقد كانت آخر نظرة نظرتها إليك يوم خرجت من المستشفى الذي دخلته إثر عدوتك من القاهرة لعملية جراحية فكنت منهك القوى، ساهم النظرة، وكأنك تستقبل الآخرة بوجهك، وتودع الدنيا. سلمت عليك، وسلمت عليّ بوداعتك المألوفة، ورصانتك المعهودة، وتفارقنا على أن نلتقي بعد أن تستعيد بعض قوتك، ولكن قضى الله أن يكون ذلك آخر لقائنا في الدنيا، فعسى الله أن يجمعنا في مستقر رحمته، وفي ظل اللواء الأكبر لواء إمام النبيين وسيد الخلق أجمعين - صلوات الله عليه وسلامه، وأن يحشرنا مع الناجين في ذلك اليوم الرهيب، ويحتسب عملنا خالصاً في سبيله ويغفر لنا ذنوبنا، ويكفر عنا سيئاتنا.

رحمك الله يا صالح رحمة واسعة، وأثابك على ما تركت لنا من أثر أجزل الثواب، وكتبك مع المجاهدين في سبيل إعزاز دينه ونشر رسالته، وعوض كلية الشريعة التي فقدت بفقدك عضداً كبيراً كانت ترقبه وتنتظره يشد أزرها، من يخلفك من متخرجيها ليسهم بحمل رسالتها.

وعوض أهلك – طاب منبتهم – الذين فقدوا فيك غرساً نما، وأزهر، واستحصد خيراً كثيراً، وجعلك الله لهم في الآخرة ذخراً، وفي الدنيا ذكراً، وهيأ الله للإسلام والمسلمين من الجيل الجديد أمثالاً لك يحملون هذه الرسالة، ويسيرون في طريق الهدى على فقه من دينهم وبصيرة من ربهم. تغمدك الله بوابل من رحمته وغفرانه وروضوانه.

في ذكراك ياصالح:

وكتب الأستاذ خالد الرفاعي في نعيه يقول:

ذكرى الفضيلة والرجولة والوعي:

ما كنت أظنني أقف في هذا المكان مثل هذا الموقف لأشترك في إحياء ذكرى الأخ الحبيب الأستاذ محمد صالح الزركان، وأشيد بمآثره، وهو الذي كنت أرجو منه أن يحيي لنا ذكرى الفضيلة التي خف إشراقها، والرجولة التي مات فرسانها، والوعي الذي ولى، وترك وراءه قطيعاً من البشر تائهين.

كنت أرجو منه أن يحيي لنا ذكرى أبطال العلم والتجديد في الإسلام، ذكرى البصري، والغزالي وابن تيمية وابن الجوزي والأشعري والماتريدي، وذكرى فقيد الجهاد أستاذه السباعي، عليهم رحمة الله ورضوانه.

كنت آمل فيه أن يرفع راية محمد ناصعة الإشراق لا تطاولها أيدي العابثين، ولا ترنو إليها بسفه أعين المخدوعين.

وكان – رحمه الله – جديراً بمثل هذه المكرمات لأنني عرفت فيه ما لم يعرفه غيري، فلقد قضيت معه ستة عشر عاماً كان فيها سميري في السمر، وأخي في الله، وصاحبي في مقعد الدرس.

صالح الإنسان الذي نبحث عنه:

عرفت فيه الإنسان الكامل، والمؤمن الثائر، والعالم المخلص، عرفت فيه دواء هذه الأمة المفقود، حيث عز الدواء، ورجلها المجاهد حيث ندر المجاهدون وإنسانها الشاعر، حيث جمدت المادية قلوب الناس.

عرفت فيه ذلك الإنسان الذي كان يفتش عنه ديوجين، والذي حدثنا عنه الإمام جلال الدين الرومي بقوله:

رأيت الشيخ بالمصباح يسعى     له في كل ناحية مجال

يقول مللت أنعاماً وبُهماً           وإنساناً أريد فلا أنال

فقلت لقد طلبت بذا محالاً      فقال: ومنيتي ذاك المحالُ

نعم أيها الإخوة: لقد رأيت في صالح الإنسان الذي كنا نبحث عنه، ولكننا لم نكد نراه حتى فقدناه، فقدناه شاباً طريّ العود لم يزهر، محترق الفؤاد، ولما يسعرها حرباً شعواء على الضلال والانحراف، مجاهداً رفع السيف بعزم المؤمنين، وعالماً حمل القلم وأقدم، ولكنه قضى قبل أن يخوض الغمار.

وقد كتب الأستاذ عبد القادر عياش في سلسلة المدن الفراتية القديمة في سورية   في العدد 23 الذي كان بعنوان (الرحبة - قاعدة طريق الفرات) في الفقرة القائلة بداية حركة دراسات وتأليف مؤلفات بمنطقة الميادين ما نصه.. وهذه البداية بالنسبة إلى الميادين - الرحبة القديمة -

يبدؤها المرحوم الأستاذ محمد صالح الزركان من أبناء الميادين 1936/ 1964م.

بكتابة القيم (فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية) وقد نال به شهادة الماجستير من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة طبع بدار الفكر ببيروت من الحجم الكبير سنة 1971م.

وليس لأحد من أبناء دير الزور رسالة ماجستير مطبوعة حتى اليوم. وتؤرخ هذه الرسالة بداية حركة فكرية في تاريخ الميادين الحديثة.

إن مؤلفها وإن كان قد توفي، جدير بتهنئة أبناء الفرات له وثنائهم عليه، فلقد وضع اللبنة الأولى في أساس الدراسات العليا بمنطقة الميادين...).

وصادف أن وجهت جامعة بكين في الصين وجامعة موسكو في روسيا وجامعة صوفيا في بلغاريا دعوة إلى الطلاب الأوائل في جامعة دمشق لزيارة هذه الدول والاطلاع على معالمها الثقافية والعلمية فكان محمد صالح في عداد هؤلاء

الطلاب المدعوين وقد استمرت هذه الرحلة أو الزيارة شهراً ونصف الشهر ولما زاروا الصين استقبلهم الزعيمان (ماوتسى تونغ و وشوانلاي) في القصر الجمهوري ببكين في عام 1957 تشرين الأول.

وعرف عنه -رحمه الله- الصدق التام حتى في المزاح والمحبة لجميع خلق الله وتواضعه مع الناس وخاصة أهله وأصدقاؤه والمعروف عنه التهام العلم والكتاب وهما صديقاه في الحر والبرد والليل والنهار ورثاه صديقه الشاعر عبد المنعم الرحبي بقصيدة مؤثرة ألقيت في حفل تأبينه في كلية الشريعة بجامعة دمشق كان مطلعها:

أهكذا كانت الآلام توجعه      يبغي الوداع ولكن لا تودعه

ولما علم أستاذه الدكتور محمود قاسم عميد كلية دار العلوم بوفاته ضرب يده متأسفاً على فقد تلميذه وصديقه قائلاً:

(.. كنا نعد محمد صالح رحمه الله لأمر عظيم وليكون من مفكري ودارسي الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام لا في مصر وسورية وحدهما بل للعالمين العربي والإسلامي ولكن الله اختاره إلى جواره..).

وفى جامع الأزهر له قاعة باسمه تكريماً له.

وعرف عنه -رحمه الله- الصدق التام حتى في المزاح والمحبة لجميع خلق الله وتواضعه مع الناس وخاصة أهله وأصدقاؤه، والمعروف عنه التهام العلم والكتاب وهما صديقاه في الحر والبرد، والليل والنهار، ورثاه صديقه الشاعر عبد المنعم الرحبي بقصيدة مؤثرة ألقيت في حفل تأبينه في كلية الشريعة بجامعة دمشق كان مطلعها:

أهكذا كانت الآلام توجعه       يبغي الوداع ولكن لا تودعه

ولما علم أستاذه الدكتور محمود قاسم عميد كلية دار العلوم بوفاته ضرب يده متأسفاً على فقد تلميذه وصديقه قائلاً : (.. كنا نعد محمد صالح رحمه الله لأمر عظيم وليكون من مفكري ودارسي الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام لا في مصر وسورية وحدهما بل للعالمين العربي والإسلامي ولكن الله اختاره إلى جواره..). وفى جامع الأزهر له قاعة باسمه تكريماً له.

توفي في مقتبل الشباب عن عمر لم يتجاوز الثامنة والعشرين رحمه الله. لقد كان عفيفاً صادقاً محباً للناس نور على نور يشع وجهه وقلبه ولسانه بالنور

مصادر الترجمة:

1-مجلة حضارة الإسلام: العدد الثامن، السنة السادسة ( 1385ه/ 1966م).

2-رجال فقدناهم: إعداد مجد مكي: ص 176، 177 .

3-في مجلة (صوت الفرات): وتحديداً في 15 نيسان عام 1972م ...

4- رابطة العلماء السوريين.

وسوم: العدد 857