العالم العابد الثبت الدكتور محمود أحمد ميرة في ذمة الله ..

زهير سالم*

في وداع الراحلين :

clip_image001_77112.jpg

لقي وجه ربه ضحى هذا اليوم الجمعة السابع والعشرين من شوال / 1441 شيخنا وأستاذنا ومعلمنا الشيخ محمود ميرة رحمه الله تعالى وتقبله في الصالحين ..

من علماء حلب الشهباء الراسخين والسباقين ، توفاه الله في مهجره في مدينة الرياض تقبل الله منه جهده وجهاده وهجرته وثباته وصبره ووفاءه وجزاه خير جزاء العلماء العاملين ، والدعاة المثابرين ..لم يحل بينه وبين القيام على أمر دعوته شغل ولا مرض ولا سن ولا عذل عاذلين ولا تثبيط مثبطين ..

وكان أول ما تعرفنا بالشيخ رحمه الله تعالى في مدينتنا في حلب ، في أوائل الستينات ، عندما غاب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، رحمه الله تعالى ، عن حلب أو غُيّب بفعل الظالمين ، فأجلسه مجلسه في جامع زكي باشا ، في تدريس كتاب الفقه " فتح باب العناية "

وجاءنا الشيخ محمود رحمه الله تعالى ، يوم الاثنين بعد صلاة المغرب على الموعد المقرر للدرس ، والحزن يوشح الوجوه لغياب الشيخ عبد الفتاح ، ولعله من الصعب أن أشرح للخليين حجم القهر والحزن الذي يحسه الطلاب المحبون ، إذا غيّب الظلم عنهم شيخهم . ربما حضر بعض التلاميذ ، ليس رغبة في علم ، وإنما امتثالا لأمر شيخهم الأول : أن درس الاثنين في جامع زكي باشا يباشره الشيخ الأستاذ محمود أحمد ميرة ، فكان هذا التوكيل بحد ذاته شهادة وتزكية وتوثيق ، وكلما تقلب بنا الزمان ، وتبدلت ببعض الناس الأخلاق ؛ أردد نعمت الشهادة ونعم التوثيق ..

كثير من الناس عندما يتغيرون ويتبدلون ، أو تسول لهم أنفسهم فيغيرون ويبدلون : هذا دين وهذه دنيا ، هذه دعوة وهذه سياسة ، لا يدركون معنى العهد يعيش في قلوب أناس يصممون على أن يلقوا الله على عهدهم الأول معه " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهد الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " وقضى اليوم الشيخ محمود ثابتا على العهد ، وفيا له ، وترك الرسالة لمن خلفه من إخوانه : الثبات .. الثبات ، الوفاء ..الوفاء ..، احذروا أن يتلاعب بكم أو أن يتخبطكم الشيطان بمعسول وعد الكاذبين والمفرطين والمضيعين ..

وجاء الشيخ محمود رحمه الله إلى مجلس الشيخ في جامع زكي باشا ، والحزن يغشى وجوه الطلاب ، وقد تقلص عدد من يحضر الدرس إلى النصف تقريبا ، وبدأ بنا ليهون علينا ؛ بأن الله شرع التيمم عند فقد الماء . وأنه في مقامه الذي هو فيه ، يقولها رحمه الله تعالى بين البسمة والدمعة ، هو ذاك التيمم والصعيد الطهور . لعلي كنت يومها في السادسة عشرة ، وكانت أول مرة أسمع التمثيل ، فيعجبني ، ويزرع الشيخ رحمه الله تعالى بسمة على الشفاه ..

ثم امتدت بنا الأيام والتقيت الشيخ محمود رحمه الله تعالى أكثر من مرة ، وفي كل مرة ألتقيه ازداد منه علما وثقة ويقينا . أدرك اليوم أن بعض الرجال مجرد أن تلقاهم أو تسمع نبض حديثهم ، أو يحدثك محدث عن أخبارهم ، أو يحمل لك سلاما منهم ؛ يمتلئ قلبك باليقين وبالثقة وبالأمل ... وأحتسب على الله أن شيخنا وأستاذنا الشيخ محمود رحمه الله تعالى كان واحدا منهم ..

والتقيته مرة في محفل مشهود شارك فيه مرة ، جلسنا يومها متجاورين ، وسمع حوار المتحاورين ، وجدال المتجادلين ، فمال عليّ وقال : أعانكم الله على ما تعانون . هذه المرة الأخيرة ولا أعود !!

ولم يعد الأخ أبو أحمد يغشى المحافل تلك ، ولكنه لم ينقطع طوال غربة شارفت امتدت لعقول عن رسائل الصلة والمودة سقيا لقديم عهد يبذلها شيخنا أبو أحمد سباقا ، على عادة أهل فضل من " الطراز الأول "

كان الشيخ محمود رحمه الله تعالى رجل عبادة وعلم وعقل .. وما أقل أن يجتمع في الناس العلم والعقل . ويظنون أن الحقيقة تهذي كما يهذون !!

يموت العالم مثل الشيخ محمود فتشعر أن ركنا كنت تأوي إليه قد انهد ، تذكر كلمة نبي الله يونس " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " تعلم أن بعض ركنك الشديد قد انهدّ ، ثم تذكر قول سيدنا رسول الله : رحم الله أخي لوطا فقد كان يأوي إلى ركن شديد فلا تملك إلا أن تقول : حسبنا الله ونعم الوكيل ..

إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا ، وإنما ينتزعه بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبق عالما ؛ اتخذ الناس رؤوسا جهالا فضلوا وأضلوا .. حسبنا الله ونعم الوكيل ..

ومن علامة الرأس الجاهل : أن يدور رأيه مع مصلحته ، ولو خرق نحيا للعقة زيت ولا يبالي ... حسبنا الله ونعم الوكيل ..

ويذهب يوما بعد يوم الذين يعاش في أكنافهم ، ويلتمس الخير من أنفاسهم ..ذهب الذين يعاش في أكنافهم ، أنشدها يوما لبيد ، وتمثلت بها يوما أمنا معاوية ، ثم غدت ملاذا لكل الذين تغيب عن حياتهم شموسهم ...

رحم الله أستاذنا وشيخنا ومعلمنا وأخانا الشيخ محمود أحمد ميرة ، وتقبل منه صالح ما عمل ، وغفر له ما دون ذلك ، ورفع درجته في عليين ، وألحقه بالصالحين ..

اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ، واغفر لنا وله وعوض المسلمين وأهل الشام خاصة في مصيبتهم خيرا ..

وخالص العزاء والمواساة لأسرة الفقيد وأهل خاصته وإخوانه ومحبيه .. وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 882