كوكبة من نجوم الشهباء

أدباء الشام

روى لي أحد أقربائي منذ زمن بعيد أنه كان يذهب إلى دمشق في الماضي قبل تقاعده موفداً من مديرية مالية حلب، فكان يزور الدكتور ناظم القدسي رحمه الله عندما كان رئيساً للوزراء في مكتبه بالمهاجرين، وعند انتهاء الدوام كان يرافقه في طريق عودته إلى البيت سيراً على الأقدام بدون أي مرافقة أمنية، فكانا يمرّان على مسجد صغير في بوابة الصالحية فيصليان فيه العصر ثم يفترقان كلٌّ في حال سبيله.

ويروي أحد سائقي شركة أرسان للسفريات في ذلك الزمان هذه الواقعة: (اُستدعيت من قبل القصر الجمهوري في دمشـق ففوجئت بالرئيس ناظم القدسـي  يخرج من القصر ليودِّعُ امرأةً وشاباً يريدان السفر إلى حلب، فما لبثا أن ركبا في المقعد الأمامي إلى جانبي، وكان هناك ثلاثة ركاب آخرون من عامة الناس يشغلون المقعد الخلفي، وأثناء الرحلة سألت الشاب عن علاقته بالرئيس فأجاب: إنه أبي وتلك التي بجواري هي أمي).

كان الدكتور ناظم القدسي يحمل درجة الدكتوراه من جامعة جنيف في سويسرا في الحقوق الدولية، وشغل العديد من المناصب الرسمية، بما فيها رئاسة البرلمان ورئاسة الوزارة ورئاسة الجمهورية، وعندما قام حسني الزعيم بانقلابه العسكري سنة 1949 طلب منه تشكيل الوزارة فرفض فأمر باعتقاله وزجه في السجن، ثم أطلق سراحه ووضعه تحت الإقامة الجبرية في بيته في حلب، ومع ذلك فإن القدسي ظل ينتقده ويعارض انقلابه اللاشرعي علناً، كما عارض حكم أديب الشيشكلي العسكري فزجه هو الآخر في السجن.

ويقف الدكتور معروف الدواليبي قامةً شامخةً أخرى من قامات حلب الوطنية، يحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون في باريس، عمل مدرساً للقانون في جامعة دمشق، ثم دخل معترك الحياة السياسية وانتخب نائباً في البرلمان عن مدينته حلب ثم أصبح رئيساً للبرلمان، كما تقلَّدَ منصب رئيس الوزراء مرتين، وتولّى وزارتي الدفاع والخارجية أكثر من مرة، وهو الذي حمل باليد وثيقة الاستقلال بعد استلامها من وزير الخارجية الفرنسي فاستقلَّ الباخرة من ميناء مرسيليا ليسلمها إلى الرئيس شكري القوتلي في دمشق، وكان يقيم في بيت متواضع في حي المزرعة الذي كان آنذاك منطقة بساتين نائية، اشتراه من حرِّ ماله في أواخر ستينيات القرن الماضي، ويتذكر ابنه هشام فيقول: أذكر أنني كنت أقف مرةً في شرفة بيتنا، وكانت إحدى جاراتنا تقف في شرفة بيتها تتحدث مع جارة أخرى وتقول لها: انظري إلى رئيس الوزراء ينتظر الباص عند الموقف!

والزعيم سعد الله الجابري هو الآخر قامة من قامات مدينتنا الوطنية، لم يتوقف عن النضال من أجل الاستقلال، وأمضى فترات طويلة من عمره في السجون بسبب نضاله، وعندما تولى رئاسة الوزراء أثناء الانتداب الفرنسي تصرف باستقلالية تامة عن الفرنسيين فأوقفوه وزجوه في السجن، ويقول الشاعر عمر أبو ريشة بأنه في الذكرى الأولى لوفاة الجابري أراد أن يرى أين وكيف كان يعيش الرجل، فاستأذن أقاربه لزيارة بيته في حلب، وعندما شاهد غرفة نومه والزجاج المكسور في نافذتها وعليه طبق من الكرتون يغطي نصف النافذة سأل مرافقه في تلك الزيارة من أهل الجابري مستغرباً: أكان رئيس وزراء سورية ينام هنا؟ فأجابه: نعم، فهو لم يقبض قرشاً واحداً من الدولة، وكان يوزع راتبه على المستخدمين.

وكان الجابري رحمه الله قد أعاد إلى خزينة الدولة مبلغ 6 آلاف ليرة زادت عن مصروف الوفد السوري الذي ترأسه إلى اجتماع تأسيس الجامعة العربية الذي أقيم في الاسكندرية، رغم أنه مرض أثناء تلك المهمة وهو على رأس عمله ودخل مستشفى المواساة في الاسكندرية وخرج مديناً بما يزيد عن 12 ألف ليرة سورية للمستشفى، ولم يسمح لنفسه أن تمتد يده إلى المال الذي فاض عن حاجة الوفد.

تلك كانت كانت كوكبة من نجوم حلب الشهباء ازدانت بها سماؤها المتلألئة بالنجوم طوال عهود طويلة، وهي غيض من فيض قائمة طويلة من رجالاتها الوطنيين الأحرار، وكذلك كانت حال سماء الوطن برمته في مدن سورية الأخرى، غصت بأمثال تلك النجوم، سطَّروا بماء من ذهب تاريخ نضالنا الوطني ضد المحتل وبسيرة حياتهم المتواضعة ونزاهتهم وعفة أنفسهم وإبائهم، لا يهمُّ أحدهم وهو رئيس للجمهورية أن يرسل زوجته وابنه إلى حلب بسيارة الأجرة، ولا يهمُّ الآخر وهو رئيس للوزراء أن ينتظر الباص ليذهب إلى مقرَّ عمله! كلُّ ما كان يهمُّهم هو المحافظة على مال الشعب وأرواح المواطنين، وغادروا الوطن الذي أحبوه وأخلصوا له أيما إخلاص بكل هدوء كيلا تراقَ قطرةُ دمٍ واحدة من دماء أبناء الوطن.

وسوم: العدد 884