الضابط الشهيد محمد سعيد باعباد (أبو السعيد)

المستشار عبد الله العقيل

(1359 - 1390ه / 1941 - 1970م)

معرفتي به

أول من عرّفني به هو الأخ الكريم القاضي الفاضل عبد القادر العماري وأخبرني أنه من ضباط الإخوان المسلمين في اليمن، وأنه مجاهد صادق، وعسكري متمرس، ومسلم ملتزم، وأوصاني به خيرًا.

وحين شرع إخواننا من مختلف البلاد العربية في استنفار الأمة لاستعادة كرامتها التي أهينت في نكبة (1967م) تلك الهزيمة النكراء، التي قاد الجيوش العربية فيها المخمورون، والطغاة، والفراعنة من أدعياء الزعامة الكاذبة.

هذه الهزيمة المنكرة، التي لم تشارك فيها الشعوب المؤمنة، ولم يعط المجاهدون دورهم للتصدي لليهود، بل كان المجاهدون والدعاة يقبعون في أقباء السجون والمعتقلات في الوقت الذي ترقص فيه الراقصات وتغني المطربات لقادة الجيوش الرسمية، مكررين ما فعلته قريش في جاهليتها حين مواجهتها للرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام في معارك الإسلام الأولى، فأخزاهم الله كما أخزى قريشًا، وحطم كبرياءهم وغرورهم وأذاقهم الذل والهوان، على أيدي أذل خلق الله، من أبناء القردة والخنازير، الملعونين في كتاب الله، وعلى لسان أنبيائه ورسله.

تحرك الإخوان المسلمون هنا وهناك يهيبون بالأمة المسلمة، أن تثأر لكرامتها، وأن تمسح العار الذي ألحقه بهاالحكام المستبدون المتسلطون على شعوبهم الذين يصدق فيهم قول الشاعر:

عبيد للأجانب هم ولكن               على أبناء جلدتهم أسود

فاستجاب نفر من شباب الإسلام، من مختلف البلاد العربية والإسلامية، ولبوا النداء مسرعين إلى ميادين التدريب، ومعسكرات الإعداد، التي أقامها الإخوان المسلمون على الحدود مع اليهود 1968م، وكانوا من جنسيات وبلدان مختلفة، ومن هؤلاء أخونا محمد سعيد باعباد من اليمن الشقيق، حيث الإيمان يمان والحكمة يمانية، كما أخبر المصطفى (صلى الله عليه وسلم).

زيارته للكويت

لقد سعدنا بزيارته لنا في الكويت، وحضر الندوة الأسبوعية مساء الجمعة، وكانت لنا معه أحاديث عن دور الحركة الإسلامية المعاصرة، وما يجب عليها في مثل هذه الظروف، وواجب الشباب المسلم تجاه ما يجري للأمة من تقطيع أوصالها وإبعادها عن دينها، وتنفيذ مخططات أعدائها، في حرب الإسلام وأهله والبطش بالدعاة والتنكيل بالعلماء وإسكات كلمة الحق، وإعلاء شأن الباطل، والركوع أمام مطامع اليهود والمستعمرين الصليبيين، ولقد كان (رحمه الله) جذوة متقدة من الحماس، ومرجلاً يغلي من الغضب على أعداء الإسلام وعملاء الاستعمار، والمرتزقة المأجورين.

توجه (رحمه الله) إلى مكان الرباط في سبيل الله مع إخوانه الذين سبقوه ولحق بهم إخوان آخرون، من مختلف البلاد العربية والإسلامية فكانت نواة العمل الجهادي باسم الله وعلى بركة الله، وفي سبيل الله والمستضعفين في الأرض الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق.

من كلماته

- «.. لا يهمني في أية لحظة يختارني فيها القدر؛ ولكن كل ما يهمني أن أكون في ساحة الجهاد المقدس لكي يكون موتي بداية لطريق الجنة التي وعد الله بها المجاهدين في سبيله وسأصدق الله إلى أن تتحقق الآية الكريمة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23). إن أقصى ما أبتغيه وأرجوه أن أسافر إلى الجنة بطلقة مدفع أو بصاروخ موجه. لي أملان أولهما الجهاد في سبيل الله وقد تحقق. والثاني أن أستشهد في سبيله وقد يتحقق إن شاء الله» انتهى.

مولده ونشأته

لقد كان الأخ المجاهد (أبو السعيد) من طلاب ثانوية الشويخ بالكويت، ثم التحق بالكلية العسكرية في القاهرة، وكان متفوقًا على زملائه في دراسته، شهد له بذلك زملاؤه، الذين كانوا في دفّة الحكم باليمن الجنوبي، وهو من مواليد اليمن الجنوبي سنة 1359ه / 1941م.

جهاده واستشهاده

قال عنه د. محمد أبو فارس في كتابه القيم (شهداء فلسطين):

«كان (رحمه الله) جريئًا مقدامًا متواضعًا أليفًا يألف ويؤلف، وكان ضابطًا برتبة نقيب في الجيش اليمني، وبعد استيلاء الشيوعيين على السلطة، خرج من بلده وقد حكموا عليه بالإعدام، ولما حدثت نكبة عام 1967م، حيث ضاعت كل فلسطين وسيناء والجولان بسبب تفريط الحكومات العربية، اتجهت الجهود نحو العمل الجهادي الفدائي، وكان شهيدنا رحمه الله مع وفد مهمته الطواف بالعالم الإسلامي يحض المسلمين على الجهاد بالنفس والمال، وجلب المتطوعين لقواعد الإخوان المسلمين، وكان زميلاه أحدهما تركي والآخر إندونيسي، وحين انتهى به المطاف إلى القواعد، رابط مع إخوانه المجاهدين وشاركهم في التدريب والقتال، وكان ذا خبرة عسكرية، يحتاج لمثلها المجاهدون في القواعد، وكان عالي الهمة، نشيطًا، سريع الاستجابة للخير، يلبي أمر قائده إذا ندبه دون تردد أو إبطاء، بل يهب مهرولاً، وقد يكون قائده أقل كفاءة منه فلا يؤثر ذلك في نفسه.

خرج (رحمه الله) في دورية استطلاعية على نهر الأردن ليستطلع منافذ العبور إلى الضفة الغربية المحتلة من فلسطين ولإجراء الدراسات العسكرية، والمسح للإعداد للعمليات القادمة، فلاحظه العدو، واكتشف أمره ومن معه ففاجأه بوابل من الرصاص ليلاً، فسقط على الفور شهيدًا، وقد مزّق الرصاص جسده، وأصيب واحد ممن معه من الإخوان المجاهدين برصاصة، اخترقت فخذه وأخذت إحدى خصيتيه معها، فسار مسافة خمسة كيلومترات، حتى وصل إلى إخوانه فحملوه سريعًا إلى المستشفى، وأُجريت له عملية وهو الآن يعيش وقد تزوج امرأة ثانية وأنجبت منه بعد إصابته؛ فسبحان الله العلي العظيم رب العرش الكريم إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون» انتهى.

كان استشهاده يوم الاثنين 24/4/1970م عن عمر يناهز الثلاثين سنة، وقد نقل جثمانه إلى اليمن الجنوبي حيث مسقط رأسه، وقد خرج الناس في عدن كلهم لتشييع الجنازة، وكانوا يرددون من أعماقهم هتاف (لا إله إلا الله محمد رسول الله، الشهيد حبيب الله، طريق فلسطين طريق الإسلام)، هذا الهتاف المدوي من هذه الجماهير الغفيرة وبهذه الألفاظ الصريحة، وفي ظل النظام الشيوعي الحاكم لعدن في ذلك الوقت، يدل دلالة كبيرة على أن الأمة الإسلامية مهما تسلط عليها الطغاة والبغاة ومهما حاولوا طمس الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، فلن يستطيعوا ذلك أبدًا.

نماذج كريمة

إن هذه النماذج الكريمة من الإخوة المجاهدين الذين أرخصوا نفوسهم في سبيل الله دفاعًا عن دينهم وانتصارًا لإخوانهم المسلمين بفلسطين، هي التي كانت وما زالت أمل الأمة في حاضرها ومستقبلها فهي التي تبني وغيرها يهدم، وهي التي تجاهد وغيرها يلهو، وهي التي تعيش للآخرة وغيرها غارق في دنياه الفانية ولذاتها الزائفة.

إن أمثال هؤلاءهم الرجال بصدق الذين أعادوا سيرة المسلمين الأوائل، ولن تنهض الأمة الإسلامية ما لم يكن فيها مثل هذه النوعية من الرجال الذين يضعون أرواحهم على أكفهم فداء للإسلام ودفاعًا عن حرمات المسلمين ومقدساتهم كما يفعل أبطال حماس والجهاد الإسلامي بفلسطين والمجاهدون في كشمير والفلبين والشيشان وغيرها.

إن الإسلام - والإسلام وحده - هو القادر على أن ينقذ أمتنا من متاهات التشرذم والفرقة، ويعيد صياغتها من جديد كما أرادها الله (عز وجل): { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92)، كما أن الإسلام يقرر أن السبيل الوحيد للتصدي لليهود ومكرهم وحقدهم، هو سبيل القتال، لأنهم لا يصدقون الوعد، ولا يوفون بالعهد، وينقضون المواثيق والعهود، هذا شأنهم وديدنهم في القديم والحديث، ولا يصدقهم إلا جاهل أو عميل، أو أعمى البصيرة، مطموس القلب، وهم شعب ذليل مغضوب عليه من الله، ملعون من فوق سبع سماوات:

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 112).

يقول الإِمام الشهيد حسن البنا في رسالة (هل نحن قوم عمليون؟):

«إن الأمم في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات، ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب، إن الرجال سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا، إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة» انتهى.

وقد وفّق الله حركة الإخوان المسلمين - كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة - بعدد وافر من الرجال الذين توافرت فيهم شرائط الرجولة الصحيحة والحمد لله، فكان هؤلاء هم الذين جاهدوا اليهود في فلسطين عام 1948م، وجاهدوا الإنجليز في قناة السويس عام 1951م، وجاهدوا اليهود ثانية بعد نكبة عام 1967م، وفي كل هذه المواجهات مع الإنجليز واليهود، قدموا التضحيات الجسام، ومواكب من الشهداء، بعضها إثر بعض: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146).

ولم يكن هؤلاء الرجال من قطر واحد، بل من أقطار المسلمين كلها، يمثلون أمة الإسلام المجاهدة التي تأبى الظلم ولا تستسلم للضيم، وتصارع الباطل وتجالده وتتحدى الطواغيت وتستعلي بإيمانها على بطشهم وطغيانهم وتتمسك بحبل الله المتين، وكتابه المبين، وهدي النبي الأمين وقد عاشوا في معسكرات التدريب وميادين الجهاد، إخوة متحابين تربطهم عقيدة الإسلام وتظلهم راية الأخوة الإسلامية ويجمعهم حب الجهاد، والرغبة في الاستشهاد، فالمصري والسعودي والسوري والسوداني والأردني والعراقي والفلسطيني واليمني والخليجي واللبناني والمغربي وغيرهم كلهم إخوة متحابون في الإسلام يعملون للإسلام ويجاهدون في سبيل الله والمستضعفين من المسلمين في كل مكان، لأن جنسية المسلم هي عقيدته، والمسلمون في جميع الأرض هم إخوانه، ونصرة المسلم لأخيه المسلم واجب وفريضة وكل مسلم على وجه الأرض هو حارس لمقدسات المسلمين غيور على حرماتهم يقول الله (عز وجل):

{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء: 75 - 76).

رحم الله شهيدنا البطل المقدام المجاهد أبا السعيد وإخوانه الذين سبقوه والذين لحقوا به، وجمعنا وإياهم في دار كرامته ومستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

وصدق الدكتور يوسف القرضاوي في قوله:

فما معنى فلسطين

فلسطين بلا قدس

فيا أرض النبوات

ويا أهل الجهاد امضوا

(حماس) هي الرجاء غدًا

يقين ما به ريب

بلا أقصى ولا قدسِ

كجثمان بلا رأسِ

اصبري للكيد والدسِ

حداد العزم والبأسِ

براها باري القوسِ

يكاد يُحَسُّ باللمسِ

رثاؤه

وقد رثاه الشاعر الإسلامي د. محمد محمود صيام بقصيدة عنوانها (دمعة على الشهيد) جاء فيها:

أيها الراحل المخلِّف فينا

نم قريرًا فليس في الأرض خيرٌ

نم قريرًا (أبا سعيد) وهاهم

نفروا للقتال يرعاهم الله

نم قريرًا وسوف نبقى جميعًا

نم قريرًا وسوف نكمل شوطًا

نم قريرًا وسوف نمضي على الدرب

جمرات تشع تحت الرمادِ

إي وربي من نيل الاستشهادِ

إخوة الروح من جميع البلادِ

بعزم وقوة وعنادِ

لجميع الطغاة بالمرصادِ

كنتَ فيه من خيرة الروّاد

ففينا آلاف (باعبادِ)

كما رثاه الشاعر الإسلامي د. كمال رشيد بقصيدة منها:

ثائر من ذرى اليمن

عاش عمرًا مجاهدًا

عاش بالله مؤمنًا

راعه أن يرى العدا

تحرق المسجد الذي

وغدا اليوم حاله

هاله حال أمة

لست أبكيك يا أخي

عدن أنت شبلها

جنّة الخلد أبشري

جاءنا يحمل الكفنْ

ما تراخى ولا وهنْ

حارب الكفر والوثنْ

تغصب القدس والوطنْ

عزّ في سالف الزمنْ

بيد الكفر مرتهنْ

تعشق النوم والوسنْ

رغم دمعي الذي هتنْ

عد شهيدًا إلى عدنْ

جاءك السيد الفطنْ

والحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 908