الداعية محمد عبد الحميد أحمد (أبو الجامعيين)

المستشار عبد الله العقيل

(1329 - 1412ه / 1911 - 1992م)

مولده ونشأته

وُلد في محافظة البحيرة مركز شبراخيت يوم 23/9/1911م، ونشأ في أسرة دينية فوالده وجدّه من الأزهريين وقد حصل والده على شهادة العالمية واشتغل بالمحاماة الشرعية.

بدأ دراسته في كتّاب القرية فحفظ بعض سور القرآن الكريم، ثم انتقل مع والده إلى القاهرة والتحق بمدرسة الجمعية الإِسلامية وحصل على الشهادة الابتدائية، ثم التحق بمدرسة الإِبراهيمية الثانوية، وحصل على الشهادة الثانوية القسم الأدبي، ثم التحق بالجامعة المصرية بكلية الآداب وتخرّج في الكلية - قسم اللغة العربية - سنة 1938م، ثم عُين في مدرسة (الإخوان المسلمون) بالإسماعيلية، وكان يعمل سكرتيرًا لتحرير (مجلة النذير) التي يرأس تحريرها الأستاذ صالح عشماوي.

صلته بالإخوان المسلمين

تعرّف على الإِخوان المسلمين وهو طالب في الجامعة 1933م بإرشاد من الشيخ طنطاوي جوهري، حين عرض عليه هو وإخوانه الطلاب تشكيل جمعية إسلامية، فأشار عليهم بالانضمام إلى الإِخوان المسلمين، تلك التي تعتمد على الإِسلام دينًا ودولة وعبادة وقيادة، وتعتمد على التربية لا على الكتب والنظريات وحدها، بل التربية العملية بالرحلات والكتائب والدعوات الفردية والجماعية في المساجد والأندية، وأثنى على مؤسس الحركة الإِمام الشهيد حسن البنا الذي زكّاه شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي لتولي مجلة (المنار) بعد وفاة مؤسسها الشيخ السيد محمد رشيد رضا، فما كان من الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد وإخوانه الطلاب الستة إلا الاستجابة لنصيحة الشيخ طنطاوي جوهري والانضمام إلى الإخوان المسلمين وقد اجتمعوا مع الإمام البنا في منزل الشيخ جوهري فكانت البداية واختير محمد عبد الحميد أحمد نقيبًا للطلاب.

معرفتي به

عرفتُ الأستاذ الكبير الداعية المسلم محمد عبد الحميد أحمد من خلال ما كان يكتبه في مجلة (الإِخوان المسلمون) الأسبوعية أواخر الأربعينيات الميلادية من القرن العشرين، ثم التقيتُ به في مصر، وكان له نشاط بارز في محيط الطلاب بحكم خبرته الطويلة في العمل الطلابي وكان من أوائل الطلبة الذين التحقوا بالحركة الإسلامية يوم كان يدرس بكلية الآداب جامعة القاهرة (فؤاد الأول سابقًا) ولذلك لُقب ب(أبو الجامعيين) من الإِخوان المسلمين.

أعماله ونشاطه

عقب تخرّجه عمل في حقل التدريس في مصر والعراق والأردن، فقد انتدب سنة 1941م للعمل بالعراق بالمدارس الثانوية، ثم انضم إليه الدكتور حسين كمال الدِّين مدرّسًا في كلية الهندسة ببغداد فتعاون الاثنان على نشر الدعوة الإسلامية في العراق، وكانا نواة العمل الإِخواني هناك ثم لحق بهما الأستاذ محمود يوسف من إخوان مصر ثم تبعه كامل النحاس وغيرهم من الإخوان. وكان الأستاذ الصواف يدرس في الأزهر وبعد تخرّجه نشط معهما في الدعوة إلى الله في العراق. وفي 1946م غادر العراق بعد انتهاء مدة انتدابه وعاد إلى مصر ليباشر عمله كمحاضر ومدرس، كما شارك في الكتابة في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية التي صدرت في العام نفسه.

ثم انتُدب للعمل بالتدريس في الكلية العلمية الإسلامية بالأردن عام 1947/1948م، بناء على طلب الحاج عبد اللطيف أبو قورة المراقب العام للإخوان المسلمين آنذاك ثم عاد إلى مصر حيث واجه الإخوان المسلمون المحنة بحلّ الجماعة في 8/12/1948م واعتقل أعضاؤها وزجّ بهم في السجون والمعتقلات، كما اعتقل سنة 1954م وسنة 1960م وسنة 1965م. وبعد خروجه من السجن ذهب إلى الحج ثم استقر في السعودية وعمل موجهًا للتربية في رئاسة تعليم البنات بمكة المكرمة. وبعد عامين نقلت خدماته إلى وزارة المعارف وعين مديرًا لمدارس منارات جدة ومدرسًا فيها لمدة عامين ثم نقلت خدمته إلى وزارة الحج وعمل في تحرير مجلة التضامن الإسلامي التي تصدرها الوزارة.

ثم عمل في جامعة الملك عبد العزيز مدرّسًا بقسم الدعوة الذي كان يرأسه الشيخ محمد الغزالي بكلية الشريعة، وزار بلاد الشام والخليج وكان آخر أعماله التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة مدة سبع سنوات لنهاية 1985م.

آثاره وجهوده

وقد تربى على يديه جيل من الشباب في العراق ومصر والأردن والسعودية هم طليعة الصحوة الإسلامية المباركة في تلك الأقطار وهم الأمل المرتجى الذين تعلّق عليهم الآمال لإنهاض الأمة من كبوتها وعودتها إلى الإسلام منهجًا ونظام حياة.

إن الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد علم من أعلام الإسلام المعاصرين، وداعية من دعاته الذين كرّسوا حياتهم لحمل رسالة الدعوة إلى الله، فقد كان شعلة من النشاط والحيوية والحركة المستمرة التي لا تهدأ رغم تقدّم السن ووطأة المرض والشيخوخة، فكان همّه إبلاغ الدعوة إلى الناس جميعًا وبخاصة الشباب والطلبة المثقفين، ولقد آتتْ هذه الجهود المباركة ثمارها الطيبة وحمل أمانة الدعوة جيل ضخم من الشباب الذين آمنوا بالإسلام عقيدة وعبادة ونظامًا وتشريعًا وسياسة وحكمًا وعملوا به ودعوا الناس إليه وصبروا على البلاء فيه وقاوموا الطغاة واستعلوا بإيمانهم على زخارف الدنيا، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23).

لقد كانت له دروسه ومحاضراته وندواته وحواراته التي سعدنا بها فترة الدراسة الجامعية بمصر من سنة (1370ه - 1950م) إلى (1374ه - 1954م)، وكنا نحرص على هذه الدروس التي كانت الزاد لأمثالنا من الشباب في ذلك الوقت أمام هذا الرُّكام من الأفكار الوافدة والمذاهب الدخيلة التي كانت تجتاح العالم العربي والإسلامي عقب الحرب العالمية الثانية، والتي كان يحمل لواءها المستغربون وأعوان الاستعمار وأذنابه الذين انسلخوا من دينهم وعروبتهم، وساروا في ركب المستعمر يقلدونه في كل شيء بالحق وبالباطل، بالنافع وبالضار على حد سواء، فمثلهم كمثل الإمّعات التي لا رأي لها وإنما تسير مع التيار حيث سار وتتبع الأهواء والشهوات ولو أوردتها المهالك.

ويعتبر الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد من التلامذة النجباء للإمام الشهيد حسن البنا فقد تتلمذ على يديه وأخذ عنه الكثير من أساليب الدعوة ومنهج السلوك وكان له التأثير العظيم في حياته الفكرية والروحية، لأن الإمام البنا كان مدرسة قائمة بذاتها من حيث الفقه الشامل للإسلام والتربية العملية للأفراد والاهتمام بكل المسلمين في كل مكان وترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين وطرح الإسلام كحل بديل لكل الأنظمة المستوردة والقوانين الوضعية، فكانت حركة الإمام البنا من الحركات الإصلاحية الراشدة التي واكبتها أو سبقتها كالحركة السلفية على يد المجتهد الإمام محمد بن عبد الوهاب، والحركة السنوسية في ليبيا، وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر وغيرها.

إن الدعاة الصادقين هم الذين يتحركون بالإسلام الحق الذي جاء بكتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فلا يخضعون لنزغات الشياطين ولا لشهوات السلاطين بل يمضون في الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى مرضاة الله.

يقول الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع للإخوان المسلمين:

«المؤمنون بالله تعالى كثيرون، ولكن من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، ومن هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أخي الكريم المربي الرائد محمد عبد الحميد أحمد وما أحسبه إلا كذلك ولا أزكي على الله أحدًا.

إن الأخ الكريم هو أحد رجال جماعة الإِخوان المسلمين ومن الرعيل الأول، إذ كان أول من حمل فكرة الإخوان المسلمين واقتحم بها الجامعة المصرية وغزا بها قلوب الشباب وجمعهم على كلمة التوحيد فاعتزوا به واعتز بهم ومن ثم انتشرت الدعوة الإسلامية في جميع دور العلم، وقاموا بنشرها في حماس وفهم واستقامة على أمر الله.

إن هذا الأخ الكريم الذي حمل هذه الرسالة قد بذل في سبيل نشرها كل غالٍ وثمين واستطاع في قوته وشبابه أن يلج كل المجتمعات حاملاً هذه الراية دون كللٍ أو ملل، بل إنه قد تعرّض لكثير من المتاعب والمشقات، وقامت في سبيله كثير من العقبات، لكنه استطاع بفضل من الله ومنّة، أن يزيل العقبات وأن يجمع الصفوف، وأن يجعل كلمة الله هي العليا في وقت كانت فيه الأفكار المحاربة للإسلام هي السائدة والمزودة بكثير من الإمكانات. ولكن الرجل صبر وصابر وعمل في دأبٍ حتى لقي الله صابرًا محتسبًا، لم يغيّر ولم يبدّل حتى استطاع أن يورث ذلك الجيل من الشباب الذي تعتز به الدعوة الإسلامية، والذي حملها بدوره إلى الأجيال التي تعاقبت.

كما أن الأخ الكريم كان من أوائل من نشروا دعوة الإخوان المسلمين في العراق حين عمل مدرسًا هناك فبذر البذرة ونمت الشجرة وامتدت فروعها» انتهى.

منهاجه ومواقفه

يحدّثنا الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد عن نشاطهم بالجامعة فيقول:

«كنا في الجامعات نتوسم الطلاب الصالحين منهم فندعوهم إلى حضور المحاضرات الإسلامية بدار الأستاذ الإمام حسن البنا (رحمه الله).

ومما يساعدنا على التعرف على هؤلاء الطلاب الصالحين، حرصنا على إقامة مصلى لكل كلية من كليات الجامعة وأداء صلاة الظهر والعصر أحيانًا فيقبل على الصلاة الشباب المؤمن فندعوه إلى الإخوان فيستجيب لنا أكثرهم بحمد الله وكان معي الزميل عبد المحسن الحسيني، وعبد الحكيم عابدين، ثم إبراهيم العزبي، ومحمد محمود السيد غالي، وعبد المحسن شربي، ومحمود عبدالحليم، وغيرهم ولمَّا زاد عدد شباب الإخوان من الطلاب رأينا الاجتماع بدار المركز العام للإخوان المسلمين في ميدان العتبة الخضراء حيث نستمع إلى محاضرة الإمام الشهيد حسن البنا.

وقد وفقنا لاختيار غرفة مناسبة بالكلية لتكون مصلى ومركزًا للدعوة، كان أساتذة قسم اللغة الإنجليزية يستعملونها لحفظ أروابهم الجامعية واستأذنا عميد الكلية الدكتور منصور فهمي فأذن لنا بذلك.

وقد فوجئت الكلية بأذان الظهر في هذه الكلية التي يسيطر عليها الإنجليز ولم يكن فيها سوى مدرس مصري واحد.

وكان الإنجليز يغرون الطلاب بالمكافآت السخية والسفر على حساب القسم إلى إنجلترا وكان من أبرز الطلاب المتأثرين بالغزو الفكري الطالب لويس عوض» انتهى.

يقول الإمام الشهيد حسن البنا في خطبته في طلاب الإخوان المسلمين من شباب الجامعة المصرية سنة 1931م:

«... ولا يفوتني في مفتتح هذه الكلمة أن أحيي تلك الساعة المباركة التي جلست فيها إلى ستة من إخوانكم منذ أربعة أعوام نتذاكر فيها واجب شباب الجامعة نحو الإسلام... وفي نهاية العام الثاني جمع هذا الحفل أربعين من إخوانكم، وفي نهاية العام الثالث كان عددهم ثلاثمائة وهاأنتم الآن في عامكم الرابع تزيدون ولا تنقصون {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}» انتهى.

يروي الأستاذ أحمد أبو شادي في كتابه (رحلتي مع الجماعة الصامدة):

«شاء الله أن أكون قريبًا من الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد في محنة سنة 1965م فأفدت من صحبته كثيرًا وتعلمت منه بالقدوة والمعاشرة أكثر مما تعلمت بالدرس والمطالعة.. كان بحرًا من العلم لا شاطئ له، فهو يحدث عن الدعوة التي اعتنقها في فجر شبابه، ويحدثنا عن الأدب في شعر إقبال، وقد كان حفيًّا به يحفظ أكثره ويزجيه لنا غضا طريًا فننفعل به كما انفعل هو به، ثم هو يعيش بنا مع حِكَمِ ابن عطاء الله السكندري، وكثيرًا ما كان يترنّم بهذه الحكم التي تثبّت قلوب المستضعفين إذا ادلهمت الخطوب وكشّرت المحنة عن أنيابها ويئس الجميع من الظفر بالحرية.. من هذه الحكم التي حفظناها منه:

- لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك؛ فإن الله قد ضمن لك الإجابة فيما يختاره هو لك لا فيما تختاره أنت لنفسك، في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد.. لأنه فعّالٌ لما يريد.

- إذا كان الله معك فمن عليك؟.. وإذا كان عليك فمن معك؟» انتهى.

مؤلفاته

وللأستاذ محمد عبد الحميد بعض المؤلفات والكتب، منها:

- كلمات وآراء.

- في وجه الطوفان.

- العقيدة وحياة رجل العقيدة.

- ذكرياتي.

- الاهتمام ودوافع القراءة (بحث).

- المنظور الاجتماعي في دراسة وسائل الإعلام (بحث).

فضلاً عن الرسائل والمقالات التي كان ينشرها في مجلات النذير والإخوان المسلمون، والدعوة، والمباحث القضائية، وغيرها.

وقد بدأ الأستاذ محمد عبد الحميد الكتابة وهو طالب في المرحلة الجامعية في كلية الآداب، فقد خصص الإمام البنا في مجلته الأولى مجلة (الإخوان المسلمين) الأسبوعية بابًا باسم (باب الطلبة) كان أبرز كتابه الأستاذ محمد عبد الحميد وذلك عام 1933م.

يقول الأستاذ محمد عبد الحميد عن أستاذه الإمام الشهيد حسن البنا:

«... ذكرياتي مع الشهيد الإمام حسن البنا (رحمه الله) ذكريات عطرة، فقد كان (رحمه الله) آية من آيات الله، كان اسمًا على مسمى «حسن البنا»، لقد بنى فأحسن البناء، وربى فأحكم التربية، كان سمته سمت الحكماء، وروحه روح الأولياء، وفراسته فراسة الأصفياء، كلماته إيحاء، وتوجيهاته نور وشفاء، عرفته فعرفت الرجولة في رجل، والقيادة في قائد، والإسلام في مسلم، وبايعته على العمل للإسلام داعيًا إلى الله ورسوله وإلى كتاب الله وسنة محمد (صلى الله عليه وسلم)، في مصر، والعراق، والأردن، والسعودية، وأحمد الله الذي وفقني لهذه الدعوة التي هي خير من الدنيا وما فيها، وأسأله أن يعصمني من الفتن ويثبتني على الدعوة حتى ألقى الله راضيًا مرضيًا» انتهى.

يقول الشيخ محمد الغزالي:

«من الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل، لقد سبقه في المشرق العربي، والمغرب العربي، وأعماق الهند وأندونيسيا وغيرهم، رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاءً حسنًا في خدمة دينهم وأمتهم.

وليس يضير هؤلاء أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله، وأتمّ من بعدهم بقية الشوط الذي هلكوا دونه.

إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين.

كان مدمنًا لتلاوة القرآن الكريم يتلوه بصوت رخيم، وكان يُحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله مقدرة ملحوظة على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.

إن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.

وقد درس السُّنَّة المطهَّرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند الإِمام أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف.

ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مُهذّب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورُّط فيما تورط فيه.

ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع محاورة لبقة للابتعاد عن أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.

وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة وتعمق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.

ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف قرية من القرى الأربعة آلاف التي تُكوِّن القطر كله.

وخلال عشرين عامًا تقريبًا صنع الجماعة التي صرعت الاستعمار السياسي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد.

ثم تحركت أمريكا وإنجلترا وفرنسا وأرسلت سفراءها إلى حكومة الملك فاروق طالبين حلّ جماعة الإخوان المسلمين.

وحُلَّت الجماعة وقُتل إمامها الشاب الذي بلغ اثنتين وأربعين سنة من العمر، وحملته أكف النساء مع والده الشيخ الثاكل إلى مثواه الأخير، فإن الشرطة كانت تطاردنا - نحن المُشيِّعين - حتى لا نقترب من مسجد (قيسون) الذي بدأت منه الجنازة.

لقد بدأ حسن البنا عمله من الصفر، وشرع دون ضجيج يُحيي الإسلام المُستكين في القلوب، ويُوجهه للعمل. ويكفي الإمام الشهيد شرفًا أنه صانع الشباب الذين نسفوا معسكرات الإنجليز على ضفاف القناة وما زالوا بهم حتى أغروهم بالرحيل.

ويكفيه شرفًا أنه صانع الشباب الذين ما اشتبكوا مع اليهود في حرب إلاّ ألحقوا بهم الهزيمة وأجبروهم على الهروب.

إن ذلك هو ما جعل الاستعمار مُصرًا على معاداة هذه المدرسة وإلحاق الأذى بها حيثما ظهرت.

أنا لا أعتبر التتار هم مسقطي الخلافة في بغداد، إن الخلافة أسقطتها من قبل قصور مترعة بالإثم متخمة بالملذات الحرام.

أنا لا أعدّ الصليبيين هم مسقطي دولتنا في الأندلس، إن المُترفين الناعمين هم الذين أنزلوا راية الإسلام عن هذه الربوع الخضرة، إن ملوك الطوائف في الأندلس لم يكونوا أبناء شرعيين لطارق بن زياد، ولا لغيره من الأبطال الذين باعوا لله أنفسهم فأورثهم الأرضين».

(محمد الغزالي - من كتاب «دستور الوحدة الثقافية ص 6 - 8، 13 طبعة دار القلم بدمشق).

وفاته

هذا ولم يغادر الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد مكة المكرمة بعد تقاعده عن التدريس، بل أقام فيها مجاورًا إلى أن وافاه الأجل المحتوم يوم 4/5/1992م بعد مرض عضال استمر شهورًا، وصلي عليه في المسجد الحرام ودفن في مقبرة (المعلاة) بمكة المكرمة. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين.

وسوم: العدد 914