العالم الشهيد الشيخ محمد بشير المراد

عمر العبسو

sdghfg999.jpg

( ١٣٤٠ - ١٩٢٠م) / ( ١٤٠٢ - ١٩٨٢م )

يقول الله جل جلاله: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا صدق الله العظيم.

كما تحيا الأرض بغيث السماء، تحيا القلوب بذكر الشهداء والعلماء، فإذا كان العلماء هم الشهداء فإن الحديث في ظلال ذكراهم نور للقلوب يزين حياتها.

   هو واحد ممن تركوا بصمة في تاريخ سورية الحديث، حتى غدت ذكراه ملكاً للسوريين لا لأبنائه ولا لأهل حماة على وجه الخصوص، إنه فضيلة الشيخ محمد بشير ابن الشيخ أحمد بن الشيخ سليم المراد المفقود سنة 1402 هـ 1982م.

ولادته، ونشأته:

ولد الشيخ محمد بشير المراد سنة 1340 هـ - 1920م بمدينة حماة في أسرة علم ودين، حيث نشأ، وترعرع في كنف والده الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد سليم المراد، التقي الصالح والفقيه الورع والذي لقِّب بأبي حنيفة عصره.

طلبه العلم، وشيوخه:

تلقى الشيخ محمد بشير المراد علومه الأولى على يد والده من قرآنٍ وفقهٍ وتوحيدٍ وتصوفٍ ونحْوٍ وغيرها، وقد أحاطه أخوه الكبير الشيخ عبد العزيز بكل رعاية وعطف، فكان له بمثابة الأب، وقد تلقى على يديه بعض العلوم وخاصة علم المواريث، بالإضافة إلى تعليمه فنون السباحة وركوب الخيل، بعد ذلك التحق بمدرسة عنوان النجاح.

ثم التحق بالصف الثاني الشرعي بالمدرسة الشرعية، وذلك سنة / 1933 م التي كان يدرِّس فيها النخبة من علماء مدينة حماة كالشيخ محمد توفيق الصباغ الفقيه الشافعي المعروف رئيس جمعية العلماء، والشيخ محمد زاكي الدندشي، والشيخ أسعد المعراوي، والشيخ مصطفى علوش، والشيخ عارف القوشجي، والشيخ محمد البوشي الشققي، والشيخ نوري الحافظ، والشيخ علي خير الله، وبقي فيها ثلاث سنوات، وأخذ منها الشهادة الشرعية سنة / 1936 م، وكان معه في هذه السنوات زميله ورفيقه وتِرْبُه وابن عمه الشيخ محمد علي المراد الثاني، حيث كانا في سن متقاربة، فكانت دراستهما معاً في كل مراحلها.

بعدها سافر إلى مصر، والتحق بالأزهر الشريف حيث حصل على البكالوريوس في الشريعة، ثم حصل على الشهادة العالمية تخصص قضاء.

وقد أفاد من شيوخ الأزهر خاصة، ومن كثير من شيوخ مصر عامة.

وظائفه، وزواجه:

بعدها عاد إلى وطنه سوريا ليعمل مدرساً لمادة التربية الإسلامية في محافظة دير الزور لمدة سنة واحدة، وينتقل بعدها إلى سلك القضاء، حيث عيّن قاضياً شرعياً في محافظة درعا عام /1950 وبقي فيها خمس سنوات، تزوج خلالها من ابنة ابن عمه الشيخ محمد ظافر المراد.

تم نقله إلى محافظة اللاذقية، فلم يستمر بها طويلاً بسبب قضية حكم فيها كانت سبباً في إخراجه من سلك القضاء.

نزاهته في القضاء:

وتتلخص القضية بتثبيت زواج خادمة من سيدها الإقطاعي صاحب النفوذ بعد أن وعدها بذلك، ولم يف بوعده، ثم ماطلها سنوات عديدة، فرفعت قضيةً ضده إلا أنه كان يؤجلها بسبب نفوذه وسطوته إلى أن جاءت للشيخ الذي قرر إنهاء القضية رغم محاولة هذا المتنفذ إغراء الشيخ برشوة كبيرة لا تُتصور في وقتها، ولما شعر بالإفلاس هدَّد وتوعَّد، لكن الشيخ استمر في إجراءات القضية حتى كان يوم النطق بالحكم تسلّم البريد الذي فيه كتاب نقله إلى مدينة النبك، فلم يوقع عليه حتى ينتهي من القضية التي شغلت اللاذقية بأكملها، فاعتلى القوس ليفاجَأ بقاعة المحكمة، وقد امتلأت عن بكرة أبيها، استعرض الوالد القضية بذكر حيثياتها كاملة وما إن أصدر حكمه بتثبيت الزواج حتى ضجت المحكمة بالتصفيق والهتاف للقاضي الحموي.

   وبذلك أنهى معاناة هذه المرأة التي استمرت سنوات طويلة، وتم نقله إلى مدينة النبك وفيها وصلته رسالتا تهديد بالقتل، ثم تمَّ استصدار مرسوم جمهوري بتنحيته من القضاء ( أيام الوحدة ) عام 1958م.

ولأهمية هذه القضية أذكر موقفين اثنين لهما علاقة وطيدة بهذه القضية:

أولهما: أن الأديب المعروف الشيخ محمد المجذوب كتب في مجموعة قصصية بعنوان ( الألغام المتفجرة ) هذه القضية لشدة إعجابه بجرأة القاضي، وصاغها بأسلوب قصصي رائع بدَّل فيها أسماء الشخصيات، فجعل اسم القاضي رشيد عوضاً عن بشير ، وذلك حفاظا على خصوصيات أصحاب القضية، وأرسل لولده محمد أيمن النسخة الوحيدة قبل وفاته بفترة وجيزة ليطلع عليها ثم يعيدها له، وكان ماأراد .

ثانيهما: في موسم الحج لعام 1979م التقى ولده محمد ميسر مع الشيخ سعيد الطنطاوي في مكة المكرمة، ولما عرف الشيخ الطنطاوي أنه من آل المراد قال له: يوجد قاض من عائلتكم عمل في اللاذقية، وأصدر حكماً جريئاً ضد شخصية لها وزنها في تلك البلد، وإني أتمنى أن أتعرف عليه، فهل تعرفه ؟ فقال له: إنه والدي الشيخ محمد بشير المراد، وهو موجود الآن هنا في مكة، ثم تمَّ اللقاء بينهما.

عودته إلى حماة:

عاد الشيخ إلى مدينته حماة حيث عمل مدرساً في دار العلم والتربية، وفي الثانوية الشرعية، وفي سنة / 1960 م عين مفتياً في بلدة السلمية شرقي حماة، فكان يذهب إليها في بداية كل أسبوع، ويعود في نهايته.

تعيينه مفتيا لحماة:

بعد وفاة الشيخ محمد سعيد النعساني ( ت 1387 هـ - 1967 م ) مفتي حماة عين الشيخ مفتياً لمحافظة حماة، وبقي في هذا المنصب حتى ساعة اعتقاله أثناء أحداث حماة الأخيرة عام 1982م.

زهده، وعبادته:

- تقول زوجته عنه: ما تقلب الشيخ مرة في فراشه وهو نائم إلا ونطق بالشهادتين.

- كان مواظباً على صلاة التهجد، مع مواظبته على أوراد الصباح والمساء، كما كان محافظاً على ورد وختم الطريقة النقشبندية-طريقة العلماء- والتي أخذها عن والده شيخ الطريقة الشيخ أحمد رحمه الله تعالى.

- كثيراً ما كان يدعو ربه أن يرزقه الشهادة في سبيله، وقد حقق الله له ذلك.

- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان في الجامع الجديد منذ أن استقر في حماة، ولم يفوت سنة واحدة إلا في عام 1401هـ-1981م عندما طلب منه الشيخ عبد الله الحلاق الذهاب معه ومع وفد العلماء لمقابلة الرئيس لمطالبته بالإفراج عن المعتقلين، وأن قضاء حاجات الناس أفضل من الاعتكاف، فامتثل الشيخ للطلب وقطع اعتكافه وذهب مع العلماء وحضر اللقاء، وتكلم عن الحالة التي وصل إليها الناس من الخوف والهلع وعدم الأمن حتى أصبحت الحياة جحيماً لا تطاق، وطالبه بالإفراج عن المساجين بمناسبة قرب العيد لتكون الفرحة فرحتين. فكان الرئيس منصتا يهز رأسه دون تعليق.

ولما عاد الوفد إلى حماه عاد الشيخ إلى معتكفه، وزادت الاعتقالات وزاد الإرهاب.

أعماله التي كان يقوم بها:

- أثناء وجوده في السلمية كان له دور بارز في خدمة الإسلام والمسلمين وخصوصاً أن هذه البلدة تعتبر معقلاً للطائفة الإسماعيلية، حيث وقف في وجههم وحال بينهم وبين محاولاتهم للمجيء برُفات آغا خان من الهند- الذي يعبدونه من دون الله -.

وله موقف مشهود مع رئيس الجمهورية ناظم القدسي الذي تأثر لكلام الشيخ، وتعهد له بعدم السماح لهذه الطائفة بإحضار ربهم المزعوم مادام رئيسا للبلاد ،لكنهم أحضروه في بداية تسلم حافظ الأسد لرئاسة البلاد .

-تعرض لبعض المضايقات أثناء أحداث حماة عام / 1964 م من قِبَلِ عناصر الحرس القومي، ومُنع من دخول حماه مرتين حتى خفت حدَّة التوتر .

- أثناء وجوده في السلمية كان يجلس كل ليلة بعد العشاء مع بعض أحبابه وأصحابه في جلسة علمية فيها الوعظ والإرشاد والفقه والفتوى، وذلك طوال بقائه فيها.

- كان له درس أسبوعي في بيته لبعض الأطباء من أمثال الدكتور عبد الرزاق الكيلاني وغيره، وكان ابن عمه الشيخ أحمد كلال أحد أعمدة الدرس، واستمر هذا الدرس أكثر من عشرين سنة .

- وكان له درسان في يومي السبت والأحد من كل أسبوع لبعض الشباب طلاب العلم الشرعي في مقر " جمعية النهضة الإسلامية "، ثم نقل إلى " زاوية السلسلة " في منطقة باب البلد، دَرْسٌ في الفقه الحنفي، وآخر في التوحيد.

- استقباله لكل الناس بشتى ثقافاتهم وفئاتهم ومللهم ونحلهم في بيته العادي المتواضع في أي وقت، حتى أصبح البيت، وكأنه محكمة شرعية يفتح بابه من بعد صلاة الفجر حتى ساعة متأخرةٍ من الليل في كثير من الأيام. وقد كان يوصي أولاده دائماً بألا يردوا أحداً جاء لسؤال شرعي أومسألة خاصة ولو كان نائماً.

- استشارته ومدارسته لرفيقه وزميله وتِربه الشيخ محمد علي المراد في كثير من المسائل الفقهية، واستعانته به - لوجود مكتبته العامرة.

- إذا استعصت قضية في المحكمة الشرعية فإن رئيس المحكمة يحيلها إلى فضيلة المفتي، ويعتبر حكمه نافذاً غير قابل للنقض أو الاستئناف، وقد انتهت كثير من القضايا على يد الشيخ بعد أن استعصى حلها في المحاكم سنين عديدة .

- لم يكن يرد أحداً في خدمة طلبها منه مهما عظمت، لأنه كان يعتبر أن قضاء حوائج الناس ثوب يُلبسه الله تعالى من شاء من عباده، وكان كثيراً ما يردد قصة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عندما ترك اعتكافه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج ليقضي حاجة أحد المسلمين، وهو يقول: لأن أقضي حاجة أخي خير لي من اعتكاف عشر سنوات في هذا المسجد.

- كان كثيراً ما يسعى لتوظيف بعض الشباب العاطلين عن العمل، ويسعى لبعض العائلات الفقيرة براتب ثابت عن طريق بعض التجار وأهل الخير ، أو لإشراكهم في جمعيات سكنية للحصول على سكن بقسط مريح .

- كان يمنح طلاب العلم الملتحين شهادة من يهمه الأمر حتى لايتم حلق لحاهم أثناء خدمتهم في الجيش.

- حل مشكلة الغاب التي راح ضحيتها أكثر من عشرين قتيلا، وكان الحزب وراءها، ثم لم يستطع إيقافها حتى تم الأمر على يد الشيخ بشير وإخوانه من العلماء إثر رؤيا الشيخ محمود الشقفة للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه دفع الشيخ بشير لحلها، فامتثل للطلب، وقام مع إخوانه العلماء بحلها بعد أن استجابت الأطراف المتنازعة لهم، وحقنت الدماء التي لم تستطع الحكومة والحزب إيقافها، وهذا بفضل الله تعالى وإخلاص القائمين على هذا الأمر .

مواقفه السياسية:

- في بداية تسلم حافظ أسد السلطة في سوريا سنة / 1970 م قرر زيارة المحافظات السورية لكسب ثقة الشعب، فلما حضر إلى حماة أطال المكوث فيها أكثر من غيرها، وقد تمّ تكليف الشيخ محمد بشير بخطبة الجمعة بتكليف من الرئيس شخصيا، وبعد أخذ ورد بين الشيخ ورئيس الشعبة السياسية الذي كلف بتبليغه تمت موافقته على الخطبة التي يختارها بنفسه دون إملاء عليه، وخطب الشيخ خطبة الجمعة، وكانت خطبةً موفقةً بتوفيق إلهي عجيب خالية من المديح الكاذب والنفاق والتملق، تشع فيها روح الحماسة والتشجيع، ابتدأها بقوله تعالى: ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير ...)، ومن جملة ما قاله مذكراً به الرئيس: واعلم يا سيادة الرئيس أنك ستقف بين يدي الله وحيداً لا خدم ولا حشم ولا جند ولا سلطان ... لمن الملك اليوم ؟؟؟ لله الواحد القهار ..... وكان صداها طيباً في أرجاء سورية كلها ولله الحمد والمنة.

- خطبته في احتفال المولد النبوي الشريف:

ففي عام / 1972 م احتفلت مدينة حماة بذكرى المولد النبوي الشريف احتفالاً لا نظير له، فلم يبق مسجدٌ ولا حيٌ إلا احتفل بهذه المناسبة، وازدانت المدينة كلها ولبست حلةً قشيبةً، وكان الشيخ رحمه الله خطيباً في كثير من الاحتفالات، وكان أهمها خطبته في جامع الشيخ علوان حيث الاحتفال الرسمي والشعبي، وقد امتلأ الجامع بالحضور ، وكان منهم المحافظ وجميع رجال الدولة، وكانت كلمة الشيخ معبرة ومؤثرة، فمن جملة ما قال: ( إن كانت الرجعية هي الرجوع إلى الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وإلى الأخلاق العربية والإسلامية فأنا أول الرجعيين، وإن كانت التقدمية هي التقدم نحو الرذيلة والفساد في الأخلاق والدين فأنا لستُ تقدمياً بل ضد هذه التقدمية .... )

- اتهام الرئيس له بالمؤامرة ورده عليه:

على إثر أحداث الدستور في أوائل 1973م كان يتم في بيت المفتي أو بيت ابن عمه الشيخ محمد علي اجتماعات متكررة لعلماء حماة للرد على تعديل الدستور وما يستجد من أحداث متتابعة.

   وبعد أيام دُعِيَ علماء حماة مع بقية علماء سوريا للقاء الرئيس ومناقشته بهذه الأمور، وتم اللقاء ودام لأكثر من ست ساعات، وقد وجه الرئيس كلامه للشيخ بشير مباشرة أثناء حديثه عن حماة وما يجري فيها من أحداث متهما إياه بالتآمر على الدولة ونظام الحكم، من خلال الاجتماعات التي كانت تجري في بيوتات العائلة، واستمر في حديثه قرابة عشرين دقيقة، وما أن انتهى من حديثه حتى وقف الشيخ ليرد عليه بجرأة وصراحة مفنداً تهمه مبيناً كذب أجهزته التي عكست الحقيقة وأبدلت الحق باطلاً، مستشهداً ببعض العلماء الذين ساعدوه بتهدئة البلد وإنهاء حالة الإضراب .

- من عادة الحكام والمسؤولين جس نبض بعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع لمعرفة مدى سيطرتهم عليهم والتحكم فيهم، لذلك كُلف محافظ حماة آنذاك / محمد ديب رحال / بهذه المهمة حيث بدأ يمنُّ على الشيخ ببعض ما قدمته الدولة عليه من توظيف ومنحه سيارة – شأنه شأن سائر مدراء الدوائر- وتلبية طلباته والتي عادة تكون تلبية لحاجات الناس وإلى غير ذلك من هذا الهراء، وختم حديثه طالبا من الشيخ أن يساير الوضع قليلا ويغض الطرف عن بعض الأمور ، لم يسمح الشيخ له بإكمال حديثه بل انتفض قائلا: أبا عماد: أتريد أن تساومني على ديني ؟ وظيفتكم هذه تحت نعلي ..... والله إنني مستعد أن أتركَ هذه الوظيفة وأنزلَ إلى السوق وأبيعَ البرتقال ولا أساوم على ديني ... فما كان من المحافظ إلا أن أسرع إلى الاعتذار من الشيخ، وهو يحلف بالله أنه ما أراد الإساءة إليه، وصار بعد ذلك يتأدب مع الشيخ كثيراً .

- الضغط عليه وذلك بسجن ولده محمد مأمون : في صيف عام / 1979 م وبعد حادثة المدفعية بحلب اعتقل ولده محمد مأمون، ونقل إلى حمص، وأمضى فترة الاعتقال في السجن المركزي فيها، ولم تكن هناك تهمة موجهة ضده، وعلم فيما بعد أن هذا الاعتقال كان للضغط على الشيخ، وأثناء الاعتقال كان يأتيه بعض العملاء، ويقولون له: اذهب إلى الرئيس وكلمه فلا يحتاج الأمر سوى زيارة، وطلب من الرئيس فقط، فكان يجيب: ما الذي يميِّز ابني عن غيره حتى أطالب بإطلاق سراحه دون بقية المعتقلين، وما على ابني إن مكث في السجن ، إنَّ له أسوةً حسنةً بسيدنا يوسف عليه السلام، والله لا أذل نفسي ولا أطلب من البشر، لا أطلب إلا من الله أن يفرج عن المسلمين جميعاً، وبعد مضي سبعة أشهر حاولت الحكومة تهدئة الموقف، فأطلقت سراح بعض المعتقلين ومنهم ولده محمد مأمون، فاتصل أحد كبار المسؤولين بالشيخ في ساعة متأخرة من الليل وأخبره بإطلاق سراح ولده حتى يأتي لاستلامه من مقر الحزب، فأجابه الشيخ بقوله: أنتم تحضروه إلى البيت كما أخذتموه، وهذا عملكم ولا دخل لي به، وفعلاً كلفوا أحد الحاضرين وأوصله إلى البيت.

- بعد محاولة اغتيال محافظ حماة اللواء محمود قوشجي بأيام قليلة، دعا المحافظ عدداً كبيراً من فعاليات البلد ومدراء الدوائر والمسؤولين وعلى رأسهم المفتي، وصار يتكلم بكلام أشبه بالهذيان حتى قال: والله إن محمداً ما تحمل مثل ما تحملتُ من الأذى ..... وهنا صرخ الشيخ بوجهه قائلاً : ما هذا الكفر ؟ ! وأي أذى لقيت ؟ ومن أنت حتى تقرن نفسك بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وأي عناء تحملت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخنس المحافظ، ولم ينبس ببنت شفة.

- في الشهر التاسع من عام 1981 حضر الشيخ للحج وكان معه الشيخ عبد الله الحلاق، وبدأ الشيخ يحكي عن الهموم التي يعيشونها والحالة الصعبة في البلد، وكان مما قاله:

     عندما يأتي المساء نشعر، وكأن جبالا تجثم على صدورنا، ولانصدق كيف يأتي النهار ،وإذا أصبحنا فإننا لانصدق أن يأتي المساء، إننا نعيش حالة لايعلم صعوبتها إلا الله سبحانه وتعالى .

ثم أردف قائلا : عندما دخل الجيش حماة وتم تفتيشها لمدة أسبوع، أتو لتفتيشنا في البيت ثماني مرات، وفي المرة الثامنة دخلوا كالعادة، وقد توزعوا في ساحة البيت وأسلحتهم مصوبة تجاهنا، وهم في حالة ذعر ، وإذ بالضابط رئيس المجموعة يقول لي يا أستاذ نحن عندنا توصيات بالاهتمام بكم . قلت له : إذا كان عندكم توصيات بي، وفتشتم بيتي ثماني مرات، فكيف إذا لم تكن هناك توصيات فما تفعلون؟

عرض ولده محمد ميسر عليه أن يوافق على ترك سوريا والحضور إلى الإمارات، وسيجد أفضل الوظائف في وزارة الأوقاف أو وزارة العدل، فأجاب الشيخ قائلا: لمن أترك البلد ؟ ألم تر أنه لم يبق في حماة من يُستفتى ؟ يابني والله إني أتيت للحج وأنا خائف من ربي أن يسألني عن تركي البلد وحضوري للحج، وهي حجة نفل.

ثم تابع قائلا : أرسل لي الرئيس ضابطاً من وزارة الداخلية برتبة لواء، وقال لي : إن سيادة الرئيس يهديك السلام، ويقول لك إن وزارة الأوقاف بانتظارك . ضحكت من هذا العرض، وقلت له: سلم على الرئيس، وقل له: الوزارة لها أهلها، وبشير ليس أهلاً لها.

فوجئ الضابط بهذا الجواب، وقال لي: يا سيدي هذا العرض لا يحظى به أي إنسان إلا من حاز على ثقة السيد الرئيس.

قلت له: قل للرئيس: بشير لا يخرج من حماة فمكاني هنا ولا أغادر مدينتي، ثم تركني، وهو يقول لي أرجو أن تفكر بالموضوع، وسأعود إليكم بعد عدة أيام، وفعلاً عاد الرجل مرة أخرى مكرراً طلبه السابق، فقلت له بلهجة حادة: ذكرت لك سابقاً وأعيد مرة أخرى: بلغ الرئيس أن بشير لا يخرج من حماة أبداً، وإن كان ثمن ذلك ترك منصبي وجلوسي في البيت فلا مانع عندي لأن الله تعالى اختار عائلتنا للإفتاء منذ القدم وهذه مهنة آبائي وأجدادي فلا حرج عندي.

عند ذلك قلت له: وهل تظن أن الرئيس سيتركك دون حساب ؟

فقال لي هناك احتمالان: إما السجن وإما القتل، فإن كانت الأولى فلست أول المعتقلين، وإن كانت الثانية فأرجو أن يقبلني الله في عداد الشهداء، ثم أنهى كلامه بهذه العبارة: يا محلى ما دبر الله .

استشهاده:

بقي الشيخ في حماة، ولم يخرج منها رغم الضغوط الكبيرة عليه، ومن هذه الضغوط: اتهام الرئيس له بالمؤامرة على الحكومة والتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين ضد الدولة، وردُّ الشيخ على الرئيس، ومطالبته له بتغيير الواجهة الحزبية التي تسيء للبلد، وقد أزعجه هذا الطلب كثيرا، ورفضه لمنصب الوزارة، ثم سجن ولده محمد مأمون، وغيرها كثير .

بقي الشيخ في هذه الحال الصعبة السيئة، إلى أن جاءت أحداث حماة الكبرى سنة / 1982 / م، وبدأ التفتيش ودخول المنازل في أي وقت من ليل أو نهار ، لا يراعون حرمة لمنزل ولا لمريض ولا لشيخ كبير ولا لامرأة ولا لطفل صغير، حتى إن النساء صرن يرتدين ملابسهن الكاملة ليلاً ونهاراً وينمن بها، لأنهن لا يعرفن في أي لحظة يأتي التفتيش، وحينما بدأت الأحداث كانت الحكومة ترسل سيارة الإسعاف أو دبابة مصفحة لإخراج من تريد نجاته من أنصارها من البلد، وأخيراً قطع خط الهاتف عن البيت، وبقي الناس محاصرين في بيوتهم، يأتي الجيش، ويدخل البيوت ويأخذ من يريد ويقتل من يريد وينهب ما يريد، إلى أن جاء يوم الاثنين / 22 / 2 / 1982 م عندما داهمت صباحاً بيتَ أخيه الشيخ عبد العزيز قوةٌ من الجيش والأمن، واعتقلت كل من فيه من الرجال وهم: الشيخ أحمد عبد العزيز المراد، والشيخ عبد الودود عبد العزيز المراد، وولداه منير وصفوان عبد الودود المراد، والشيخ ناجي عبد العزيز المراد، والشيخ عبد المنعم عبد العزيز المراد، والشيخ أحمد كلال حسن المراد، والشيخ عبد الفتاح حسن المراد، وبعد العصر جاءت قوة أخرى من الجيش والأمن واقتادت الشيخ مع ابنه أحمد ماهر الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره إلى جهة مجهولة.

أُخذ أولاً إلى مطار حماة العسكري، وهناك طلبوا منه أن يرسل برقية استنكار للرئيس لما حصل في المدينة فرفض ذلك وأصرَّ على رفضه.

   تحدث أحد الذين كانوا يخدمون في مطار حماه العسكري، وقد أخبر أنه أثناء وجوده في المطار أحضروا مجموعة من المشايخ، علم فيما بعد أنهم مفتي حماه وابنه وأقرباؤه، ثم حضر أحد الضباط الكبار وكلم المفتي مباشرة: السيد الرئيس يطلب منك أن تخرج على التلفاز، وتجرم الإخوان، وتنسب كل ما حصل في حماة إليهم، وبذلك يتم الإفراج عنك، وتعود إلى بيتك وأسرتك.

فرد عليه الشيخ قائلا: لم يبق من العمر ما يستأهل البقاء، فالذي ذهب أكثر بكثير مما بقي.

لم يمهل الضابط الشيخ ليستكمل حديثه، حيث أعطى الإيعاز للعناصر المصطفة قبالتهم بإطلاق النار عليهم، فما كان من الشيخ إلا أن قال آخر عبارة له في هذه الدنيا وهو يشير بيده إليهم: أتخوفونا من الموت ؟

وهكذا قضى الشيخ شهيداً بإذن الله تعالى، لم يبدل ولم يغير ، وكتب بهذا الختام السطر الأخير من سيرة حياة عالمٍ صدق بلده وأمته ولا أزكيه على الله.

وهذه شهادة لرجل صاحبه في دراسته الأزهرية ست سنين هو أ.د. عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف الأردني الأسبق رحمه الله الذي قال: لقد عرفت الحكام والعلماء والتجار والخاصة والعامة فلم أجد أحسن خلقاً من الشيخ محمد بشير المراد.

وعن استشهاد الشيخ قال: لقد كان الشيخ أصدَقَنا فأناله الله الشهادة.

رحم الله الشيخ وسائر شهدائنا، وجمعنا بهم في مستقر رحمته.

رثاء المفتي:

وكتب الشاعر الإسلامي د. محمد منير الجنباز قصيدة في رثاء العلامة الشيخ محمد بشير بن أحمد بن محمد سليم مراد، الذي استشهد إثر التعذيب الشديد بدق المسامير على رأسه! وتناثر مخه الطاهر، في أحداث مجزرة حماة الكبرى الأليمة عام 1982م، فكان الشيخ أنموذجاً للعالم العامل المجاهد، تقبله الله في الشهداء، ورفع منزلته في المهديين.

وقد حكي فيها الحادثة، وما تعرض له الشيخ من التعذيب حتى الموت.

سِيما الوقارِ بصبح وجهكَ قد بدا والبشرُ في عينيكَ يُوحي بالندى

ونهلتَ من زاد الفضائل والتقى وَرَقَيتَ فيها مسرعاً ولك الرضا

وجعلتَ قلبك نابضاً لإلههِ ووقفتَ صَلْباً لا تَلينُ إلى العدا

حمّلتَ نفسكَ والصِّحَابَ مصاعباً ووجدتَهَا مَهْدَاً لتحقيق المنى

وبليلةٍ كان السُّهادُ حَليفَكُمْ والبَرْدُ أقبل والعدُوُّ لكم دنا

فخرجتمُ بالنار تدفع شرّهم وجمعتمُ من حولكم أهل الحِمى

فاستنفد الجُهْدُ الذخيرةَ وانقضتْ وَحَزِنْتَ أنَّكَ مَا التَقَيْتَ معَ الرّدَى

لتنالَ خيرَ شهادةٍ تمضي بها نحو الجِنَانِ، وتستريحَ مِنَ الدُّنى

لكنّما الأقدارُ خُطّتْ سرمداً حتى إذا نَفِدَتْ عَلِمْنَا مَا جَرى

واللهُ قد خصَّ المُغَيَّبَ نفسَه   وقضى امتحاناً وابتلاءً للورى

فوقعتَ في أسْرِ العصابة مُثْقلاً بالقَيْدِ حتى ما استطعتَ بهِ الخُطَا.

وحُمِلتَ للسجن الرهيب لِتُبتلى بأشدِّ ما شَهِدَ الخلائقُ من بِلى

لَسْعُ السياط يهونُ لولا أنها   بَدْءٌ وتقدِمَةٌ لحرقٍ باللظى

ولدقّ مسمارٍ برأسك كي تَرَى سجَّانَكَ العاتي إليه المنتهى

لكنْ جَنَانُكَ ظَلَّ يَذْكر دَائماً   رَبَّاً يُعينُ المُبْتَلِينَ بما يَرى

فأفاضَ ذِكْراً منْ لِسَانِكَ طَيِّبَاً فاغتاظ مِنْ ذِكْرِ الإلهِ مَنِ افْتَرى

فأتى لسانَكَ قاطعاً ذكرَ الهُدى فاشْتَدَّ خَفْقُ القلبِ منْ ذِكْرٍ عَلا

وتزايدت دقاتُه لمسامعٍ "سبحانَ ربي" أفصحتْ عنها اللّمَى.

فارتاع سجّانُ الغِوايَةِ، وانتحى ركناً وسدَّ السَّمْعَ عنْ أُذُنِ الهوى

وارتدَّ للشيخ المسلسل ضَارباً ويصيحُ: أسْكِتْ كلَّ صوتٍ إنْ بدا

والشيخُ مقطوع اللسان وقلبُه خفقٌ، فأظهر ما به رجعُ الصدى

وإذا البهائمُ والطيورُ لخفقهِ سَمْعٌ، فترجَمَتِ النداءَ كما سَرَى

أنشودةُ العصر الجريح لمسلمٍ تسري، وتخترقُ السجونَ منَ الكُوى...

فتهزُّ أعماقاً وتصفعُ تائهاً   وتُزيلُ أحلاماً يُزَيّنُهَا الكرى

وغدا الزمانُ وما بهِ منْ نُخْبَةٍ تُبدي التآزر والتلاحمَ في القوى

كَثُرَ القِطافُ منِ الرؤوسِ لإخْوَةٍ وغدتْ جماجمُهم تُصَفُّ مع الدمى

سُكبت دماءٌ لو جمعتم سيلها لغدت بحاراً أغرقت أهل الغوى

فإلامَ تخشون المماتَ وحاقداً إن تطلبوا موتاً تروا عيش الرضا

والشيخ يرسُفُ في القيود ورأسُه دَقَّ الطغاةُ به مساميرَ الأذى

أضحى يرى خُصَمَاءه لكنّه فقد الحِراك ودمعُهُ سيلٌ هَمَى

يدعو على الظلْم العَتِيِّ لحاقدٍ ورثَ العَدَاءَ لديننا مِمَّا مَضى

وأحسَّ جلادوه أنَّ دُمُوْعَهُ كَتبتْ على خَدٍّ " سَيُخْذَلُ مَنْ بَغَى".

فاسْتُلَّتِ العينانِ منه بمنجل هل منْ دموعٍ للتحدي تُرتجى

فإذا مغاراتُ العيونِ بَدَتْ لهمْ كهفاً يُعِدُّ شبابَ أحمدَ للوغى

هَلَعٌ أصابَ الحاقدينَ بما رَأوا قالوا اهْدموه وَمَزّقُوا مَنْ قد أوَى

وتقدموا بالشيخ نحو مدقّة في فكِّها أسنانُ ذئبٍ قد عوى

شَدُّوا عليها رأسَهُ وبشدَّةٍ فتلوا أسِنَّتَها فعضَّتْ وارتمى

وتناثر المُخُّ الطَّهُورُ لعَالِمٍ فيه العلومُ وفيهِ قُرآنُ الهُدى

وتضاحكَ الأشرارُ هذا رأسُهُمْ إنَّا كسرنا الرأسَ والأمْرُ انتهى

وخلتْ لنا الدارُ الشَّمُوسَ وطأطأتْ رأساً وكانتْ شَوْكَةً تؤذي الدجى.

وقفتْ قروناً ضِدَّنا بصلابةٍ وتعاورتنا بالسيوفِ وبالقنا

واليومَ نَسْحَقُ كلَّ مَنْ سَيُريبُنَا كيلا يفاجئنا الصلاحُ إذا انتضى

سنسوّر الدارَ التي نأوي بها ونقيمُ خطَّ تنصُّتٍ فوقَ الذرا

ونوزّع الأغلال فيما بيننا ونُجيعُ كل مُواطنٍ يأبى النوى

يكفي بأنا قلةٌ من أعصرٍ   واليوم يَكْثُرُ عَدُّنا ولنا القوى

سنشيّب الأطفالَ حتى لا نَرى إلا وليداً شابَ همّاً وانبرى

كُنَّا نحاسَبُ إنْ أبَدْنَا بلدةً واليوم ندفنُ أمّةً تحتَ الثَّرَى

فلنا الحجازُ ومصرُ كانت مُلْكَنَا والمغربُ الأقصى وحتى المنتهى

سنعيدها وإنِ الزمانُ بدا لنا مستعصياً مهما تقلّب وارتدى

عاد ابنُ قُرْمُطَ في ثيابِ حَدَاثَة بل عاد مدعوماً بإخوان الصفا

يا رب كم صاغ الذين تزندقوا ضد العباد مؤامراتٍ تُفترى

وتراهمُ عينٌ لذاتك لا تنم كم خططوا للدين في نزع العُرى

رُدَّ السهام لنحرهم يا ناصراً وأعِنْ عبادَك يا قويُّ بما ترى

فجنودُكم يا رب لا يُحصى لها عَدٌّ ولا نوعٌ فدمّرْ مَنْ طغى

مصادر الترجمة:

١- موقع رابطة العلماء السوريين.

٢- موقع د. محمد منير الجنباز في شبكة الألوكة.

٣- صفحة علماء حماة على الفيس بوك.

٤- مواقع الكترونية أخرى.

وسوم: العدد 999