في ضيافة عالم: الشيخ الدكتور عبد الرزاق قسوم… العالم الموسوعي والمفكر المجاهد

حشاني زغيدي

في رحاب الفكر الجزائري الأصيل، تشرق أسماء حفرت بصماتها في سجل الذاكرة الوطنية، وجعلت من العلم رسالة، ومن القلم جهادًا، ومن الهوية لواء لا ينكسر. ومن بين هؤلاء الأفذاذ، يبرز اسم العلامة الدكتور عبد الرزاق قسوم، العالم الموسوعي، والمجاهد بالقلم، والحارس الأمين لثوابت الأمة.

نشأ الشيخ قسوم في مدينة المغير  العريقة، مهد الإصلاح ومصهر النبوغ، في كنف أسرة جزائرية أصيلة تنضح قيمًا دينية ووطنية. شغف بالعلم منذ نعومة أظافره، فتلقّى تعليمه الأولي على يد شيوخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتشرب من معينهم النقي مبادئ النهضة، والإصلاح، والتنوير. ثم انتقل إلى جامع الزيتونة بتونس، قبل أن يُتوَّج مساره العلمي بالحصول على الدكتوراه من جامعة باريس، وهو ما أتاح له الاطلاع العميق على الفكر الغربي، دون أن يفقد توازنه أو يتنازل عن هويته.

لم يكن الشيخ قسوم عالمًا محصورًا بين جدران المكتبات، بل ظل دائم الحضور في قضايا أمته، مدافعًا شرسًا عن الإسلام، واللغة العربية، والجزائر. وفي فترة التسعينيات، حين تكالبت الفتن على الوطن، وقف بقوة ليدعو إلى السلم والمصالحة، وكان صوته صوت العقلاء الذين آثروا وحدة الوطن على الانزلاق نحو المجهول.

تميّز مساره الأكاديمي بغزارة علمية، تتجلى في عدد من مؤلفاته الفكرية التي رسّخ من خلالها منهجًا علميًا يعانق قضايا الواقع. ففي كتابه "فلسفة التاريخ من منظور إسلامي"، سعى إلى بناء وعي حضاري بمنطق السنن الإلهية في التاريخ، مؤكدًا أن "الوعي بالتاريخ هو الوعي بالمستقبل"¹. أما في دراسته "مفهوم الزمن في فلسفة ابن رشد"، فقد خاض في قضايا الزمن والوجود بمنهج فلسفي رصين².

كما كتب في جريدة "البصائر" سلسلة مقالات جمعت بين التحليل العميق والتوجيه التربوي، من بينها مقاله "ليس لها من دون الله كاشفة"³، الذي نُشر في خضم جائحة كورونا، فدعا فيه إلى التضرّع والتأمل في سنن الابتلاء. وفي مقال آخر بعنوان "ظلموك وما أنصفوك أيتها المرأة"، دافع بقوة عن مكانة المرأة في الإسلام بعيدًا عن التجاذبات الإيديولوجية⁴.

شغل الشيخ عبد الرزاق قسوم مناصب علمية وثقافية رفيعة، منها عمادة كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر، ورئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهي المنصة التي أعاد من خلالها إحياء روح الجمعية، مانحًا إياها زخمًا جديدًا في معركة الهوية. وقد برع في توظيف منبر "البصائر"، لسان حال الجمعية، ليؤسس خطابًا متوازنًا بين الأصالة والمعاصرة، وبين الثوابت والتحديات.

ولعل ما يزيد من احترام هذا العالم، هو زهده في الأضواء، وتواضعه الجم، ووفاؤه لمسيرة جمعية العلماء، إذ كان يرى نفسه امتدادًا لجيل ابن باديس والإبراهيمي، لا مجرد خلف لهم. وقد لخّص رؤيته النهضوية بقوله: "نحن في حاجة إلى أن نعود إلى الإسلام الحضاري، لا إسلام الشعارات؛ إلى الإسلام الذي يبني الإنسان قبل أن يبني العمران"⁵.

إن الحديث عن الدكتور عبد الرزاق قسوم، هو حديث عن عالم تمازجت فيه خصال الفقيه، والمفكر، والمربّي، والمجاهد. هو واحد من أولئك الذين ظلوا يثبتون أن الجزائر لم تنقطع عن جذورها، وأن الرسالة مستمرة، طالما حملها رجال أوفياء، آمنوا أن "العلم والجهاد صنوان لا ينفصلان في بناء الأوطان".

---

الهوامش:

  1. عبد الرزاق قسوم، فلسفة التاريخ من منظور إسلامي: قراءة إسلامية معاصرة، منشورات دار الوعي، الجزائر، 2009.
  2. عبد الرزاق قسوم، مفهوم الزمن في فلسفة ابن رشد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987.
  3. عبد الرزاق قسوم، "ليس لها من دون الله كاشفة"، البصائر، 17 مارس 2020.
  4. عبد الرزاق قسوم، "ظلموك وما أنصفوك أيتها المرأة!"، البصائر، 10 مارس 2020.
  5. عبد الرزاق قسوم، البصائر، العدد 1087، 2022.

وسوم: العدد 1126