الكاتب الإسلامي الأستاذ أنور الجندي

بدر محمد بدر

في ذكرى الصحفي والمؤرخ والأديب

والكاتب الإسلامي الأستاذ أنور الجندي

بدر محمد بدر

[email protected]

هو الكاتب الإسلامي والمؤرخ والصحفي الأستاذ أنور الجندي، صاحب المؤلفات الموسوعية، والرؤية الواعية، والدأب البحثي، الذي ترك لنا عشرات المؤلفات الإسلامية والتاريخية والفكرية، ومئات المقالات المتنوعة. 

معرفتي به

عقب انتهاء دراستي الجامعية انتقلت في أوائل الثمانينيات للإقامة في منطقة "الطالبية" بحي الهرم، وذات يوم طلب مني الصحفي الكبير الأستاذ جابر رزق أن أذهب للأستاذ أنور الجندي، باعتباره يسكن في نفس الشارع الذي أقيم فيه،  لاستلام مقال للنشر في مجلة "الاعتصام"، التي كانت تصدر عن الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة.

ذهبت إلى منزل الأستاذ أنور بعد الاتصال به، والتقيت به لأول مرة وجدته يسكن في بيت بسيط متواضع مكون من دور أول وأرضي فقط، ويبدو أنه أنشئ عندما كانت المنطقة المحيطة به أرضا زراعية، والتقيت بالأستاذ أنور الذي رحب بي بشدة وقبل أن يسلمني المقال أعطاني أحد كتبه هدية، وأعطاني قلم ياباني الصنع من نوع سهل الاستعمال في الكتابة (بايلوت)، وسعدت بالاستقبال الأبوي وبالهديتين الغاليتين، وعندما علم بزواجي حديثا دعا لي ولزوجتى، وطلب أن نزوره في الوقت الذي نريد.

توالت بعد ذلك زياراتي لهذا الباحث العلامة، والكاتب الإسلامي الكبير، وكنت أراه كثيرا يمشي في شارع عثمان محرم حيث يسكن، يحمل الصحف والمجلات، أو يشتري لزوجته أغراض المنزل من السوق المجاور، أو يذهب إلى إحدى مكتبات وسط البلد، خصوصا مكتبة معهد البحوث العربية بجاردن سيتي.

وكان رحمه الله شديد التواضع والبساطة، رغم علمه الغزير وكتاباته الدائمة في عدد كبير من الصحف والمجلات العربية، حيث كان عضوا في نقابة الصحفيين عن جريدة الجمهورية.

نشأته

ولد أحمد أنور سيد أحمد الجندي عام 1917 بقرية ديروط التابعة لمركز أسيوط بصعيد مصر، ويمتد نسبه لعائلة عريقة عُرفت بالعلم، فجده لوالدته كان قاضياً شرعياً يشتغل بتحقيق التراث، وكان والده مثقفاً يهتم بالثقافة الإسلامية، وكان أنور، الذي تسمى باسم «أنور باشا» القائد التركي الذي اشترك في حرب فلسطين، والذي كان ذائع الشهرة حينئذ، قد حفظ القرآن الكريم كاملاً في كتَّاب القرية في سن مبكرة، ثم ألحقه والده بوظيفة في بنك مصر، بعد أن أنهى دراسة التجارة بالمرحلة التعليمية المتوسطة، ثم واصل دراسته أثناء عمله، حيث التحق بالجامعة في الفترة المسائية ودرس الاقتصاد وإدارة الأعمال، إلى أن تخرج في الجامعة الأمريكية، بعد أن أجاد اللغة الإنجليزية، التي سعى لدراستها حتى يطلع على شبهات الغربيين التي تطعن في الإسلام.

 

مشواره في الكتابة

بدأ أنور الجندي الكتابة في مرحلة مبكرة حيث نشر في مجلة "أبولو" الأدبية الرفيعة، التي كان يحررها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام 1933 م، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، فكتب مقالة رصينة تقدم بها وأجيزت للنشر، وكان يقول: «ما زلت أفخر بأني كتبت في "أبولو" وأنا في هذه السن "17 عاماً"، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل: البلاغ وكوكب الشرق والرسالة وغيرها من المجلات والصحف».

وتُشَكِّلُ سنة 1940 م علامة فارقة في حياة الأستاذ أنور الجندي، وذلك عندما قرأ ملخصاً عن كتاب «وجهة الإسلام» لمجموعة من المستشرقين، ولفت نظره إلى التحدي للإسلام ومؤامرة التغريب، ويصف ذلك بقوله: «وبدأت أقف في الصف: قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي، غير أني لم أتبين الطريق فوراً، وكان عليّ أن أخوض في بحر لجي ثلاثين عاماً.. كانت وجهتي الأدب، ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيء الخفي الذي يتحرك في الأعماق.. هذه الدعوة التغريبية في مدها وجزرها، في تحولها وتطورها».

وهكذا بدأ أنور الجندي بميدان الأدب الذي بلغ اختراقه حداً كبيراً، حيث كان أكثر الميادين غزواً في حينها، وأعلاها صوتاً وأوسعها انتشارًا، فواجه قمم هذا الميدان، مثل طه حسين والعقاد وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وجورحي زيدان وتوفيق الحكيم وغيرهم.

وأقام الموازين العادلة لمحاكمة هؤلاء في ميزان الإسلام وصحة الفكرة الإسلامية، فأخرج عشرات الكتب من العيار الفكري الثقيل مثل: «أضواء على الأدب العربي المعاصر»، و«الأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية»، و«أخطاء المنهج الغربي الوافد»، و«إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام»، خص منها «طه حسين» وحده بكتابين كبيرين، هما: «طه حسين وحياته في ميزان الإسلام»، و«محاكمة فكر طه حسين»؛ ذلك لأن الجندي كان يرى أن طه حسين هو قمة أطروحة التغريب، وأقوى معاقلها، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هو قمة الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية.

وخلال ذلك كان يتحرى الدقة والإنصاف، فقد جاءت كتاباته الرصينة منصفة في الوقت نفسه لأصحاب الفكرة الإسلامية الصحيحة، من أمثال مصطفى صادق الرافعي وعلي أحمد باكثير وعبد الحميد جودة السحار وكامل كيلاني ومحمود تيمور وغيرهم من أصحاب الفكر المعتدل والأدب المتلزم.

إسهاماته

كان الأستاذ أنور باحثاً دؤوباً وذا همة عالية، يقول: «قرأت بطاقات دار الكتب، وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها، وراجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، راجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاماً، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن، كل ذلك من أجل "تقدير موقف" القدرة على التعرف على (موضوع) معين في وقت ما».

ولقى الجندي في طريق جهاده بالكلمة الكثير من العناء والعنت، فقد تعرض للظلم والأذى، فضلاً عن أنه اعتقل لمدة عام سنة 1951م، وأخذ على نفسه وضع منهج إسلامي متكامل لمقدمات العلوم والمناهج، يكون زادًا لأبناء الحركة الإسلامية ونبراساً لطلاب العلم والأمناء في كل مكان؛ فأخرج هذا المنهج في 10 أجزاء ضخمة، يتناول فيه بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني الفارسي والهندي، وكيف انبعثت حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه، وعلى زاد وعطاء من الإسلام، فقاومت حركات الاحتلال والاستغلال والتغريب والتخريب والغزو الفكري والثقافي.

وهذه الموسوعة الضخمة تعجز الآن عشرات المجامع والمؤسسات والهيئات أن تأتي بمثلها، وكان للقائه بالشيخ «حسن البنا» أثر كبير في إخراج تلك الموسوعة.

كذلك كانت من القضايا الرئيسة التي شغلت حيزاً كبيراً من فكره، هي قضية تحكيم الشريعة الإسلامية، حيث كان يقول: «أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة»، وقد صنف الجندي ما يربو على مائتي كتاب، وأكثر من ثلاثمائة رسالة، في مختلف قضايا المعرفة والثقافة الإسلامية، ومن أهم كتبه: «أسلمة المعرفة»، و«نقد مناهج الغرب»، و«الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية»، و«اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار»، و«أخطاء المنهج الغربي الوافد»، و«تاريخ الصحافة الإسلامية»،ومن إسهاماته أيضا كتاب «الصحافة والأقلام المسمومة»، وفيه يحمل على منهج بعض الصحف المصرية في نشر ما أسماه «منهج زعزعة أسس المجتمع الإسلامي» في الفترة ما بين نكبة 1948م ونكسة 1967م كما يتضح من عنوان الكتاب الفرعى، وكان آخر كتبه هو كتاب «نجم الإسلام لا يزال يصعد»، وقد أوصى قبل وفاته بأن يتم تصنيف كتبه ومكتبته كلها، ثم دفعها لمؤسسة إسلامية تقوم بطرح هذه المكتبة للجمهور من القراء والباحثين للاستفادة منها، وقد شدد على أن كل تراثه الفكري يجب أن يكون وقفاً للمسلمين.

تكريمه

حصل الأستاذ أنور الجندي على جائزة الدولة التقديرية عام 1960، وشارك في العديد من المؤتمرات الإسلامية التي عقدت بعواصم العالم الإسلامي في الرياض والرباط والجزائر ومكة المكرمة والخرطوم وجاكرتا، كما حاضر في عدد من الجامعات والمجامع مثل جامعة الإمام محمد بن سعود، والمجمع اللغوي بالأردن.

ومع كل هذا الجهد والنبوغ الذي جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين كبار المفكرين والمدافعين عن الإسلام، إلا أنه كان زاهداً في الشهرة والأضواء، وعاش رجلاً بسيطاً لا يعرف الثراء ولا الترف في المسكن أو الملابس وغير ذلك من أمور الحياة، وكان مع ذلك عفيفاً لا يقبل شيئا على محاضراته وأفكاره، بل حتى الجوائز التقديرية كان يرفضها ويأباها، وكان عندما يسأل عن ذلك يقول: «أنا اعمل للحصول على الجائزة من الله ملك الملوك»؛ ولهذا كان زاهداً في الأضواء وفي الظهور، ولم يكن يحبذ اللقاءات التلفزيونية أو الفضائية، وكان كل همه التأليف، وكان يدعو ربه دائماً بأن يعطيه الوقت الذي يمكنه من كتابة ما يريد؛ ولذلك فإن مشاركاته في الفضائيات كانت قليلة جداً تكاد تقتصر على بعض التسجيلات في أبو ظبي والرياض.

وفاته

وفي مساء الاثنين 13 ذي القعدة سنة 1422 هـ الموافق 28 يناير 2002م توفي إلى رحمة الله المفكر الكبير الأستاذ أنور الجندي عن عمر يناهز 85 عاماً، قضى منها في حقل الفكر الإسلامي قرابة 70 عامًا يقاتل من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة، ورد الشبهات الباطلة والأقاويل المضللة، وحملات التغريب والغزو الفكري، رحمه الله رحمة واسعة.

وبعد وفاته كتب العلامة الشيخ يوسف القرضاوي يقول: علمت بالأمس القريب فقط أن الكاتب الإسلامي المرموق الأستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم، وانتقل إلى جوار ربه، منذ يوم الإثنين 28 يناير 2002م، بلغني ذلك أحد إخواني، فقلت: يا سبحان الله، يموت مثل هذا الكاتب الكبير، المعروف بغزارة الإنتاج، وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم، والذي سخر قلمه لخدمة الإسلام وثقافته وحضارته، ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام، لا تكتب عنه صحيفة، ولا تتحدث عنه إذاعة، ولا يعرِّف به تلفاز.

كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات، في مختلف آفاق الثقافة العربية والإسلامية، وقد كان عضوا عاملا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، ومن أوائل الأعضاء في نقابة الصحفيين، وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960م، ولو كان أنور الجندي مطربا أو ممثلا، لامتلأت أنهار الصحف بالحديث عنه، والتنويه بشأنه، والثناء على منجزاته الفن!.