سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (14)

بدر محمد بدر

سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (14)

هل كان لها علاقة بظاهرة اعتزال وحجاب الفنانات في مصر في التسعينيات؟

وكيف بدأت عملية التحول في داخل ياسمين الحصري إلى طريق النور والهداية

بدر محمد بدر

[email protected]

وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي بدأت تنتشر ظاهرة " الفنانات التائبات " اللاتي يعتزلن التمثيل أو الغناء أو الظهور على شاشات التليفزيون, ويرتدين الحجاب ويتركن المجال الفني بشكل كامل, وبدأت أعداد من هؤلاء الفنانات المعتزلات تزور الداعية الكبيرة زينب الغزالي في بيتها بحي مصر الجديدة, وعلى رأسهن السيدة " ياسمين الخيام " أو " إفراج محمود خليل الحصري ", وقصة الحاجة زينب مع ياسمين الخيام قديمة, فقد كانت علاقتها ببيت الشيخ الجليل والعالم الكبير وشيخ المقارئ المصرية الشيخ محمود خليل الحصري علاقة وثيقة, أساسها الحب في الله والاحترام المتبادل والاهتمام بأحوال الأمة الإسلامية وهموم المسلمين في أنحاء العالم.

ونشأت " إفراج " ابنة شيخ المقارئ قريبة من زينب الغزالي على أساس هذه العلاقة الودود, وكانت لها بالتالي مكانتها الخاصة في قلبها, حتى دخلت الحاجة زينب السجن في عام 1965م عقب اتهامها ـ زورا وبهتانا ـ بالعمل على قلب نظام الحكم ضمن تنظيم الإخوان المسلمين, حيث تعرضت لتعذيب شديد روت بعضه في كتابها الشهير " أيام من حياتي ", وصدر ضدها حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة ( 25 عاما), بعد أن طالبت النيابة بإعدامها.

وقبل أن تخرج الداعية المجاهدة من السجن في عام 1971 م, بعد أن أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قراراً بالعفو عن بقية مدة العقوبة, بناءً على تدخل ووساطة من الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية رحمه الله, رأت رؤيا منامية.. رأت أن السيدة " إفراج الحصري " تتأرجح في أرجوحة, وفسرت رؤياها بأن هذه بشارة ب " الإفراج " عنها, وأن السيدة " إفراج الحصري " سوف تتعرض للتأرجح بين الصواب والخطأ فترة من الزمن.

وتحققت الرؤيا بالفعل, وخرجت الداعية الكبيرة بعد أيام قليلة من السجن, بعد أن حبست فيه ست سنوات عجاف, وقررت أن تزور بيت الشيخ الحصري بمجرد أن يتيسر لها ذلك, وأن تتواصل مجددا مع هذا العالم الجليل لخدمة الإسلام والمسلمين, ومرت سنوات قليلة بدأت بعدها الحاجة " إفراج " في الدخول إلى عالم الغناء والفن أولا من باب الإنشاد الديني, ثم تحولت بعد فترة قصيرة إلى الغناء العاطفي والطرب, الذي تتمايل فيه الفنانة يمنة ويسرة, وهى كاشفة الثياب حاسرة الرأس, ناعمة الصوت !.

كان هذا التحول من السيدة إفراج الحصري صدمة للشعور الديني والإسلامي العام, وثار الكثيرون على هذا السلوك, خصوصا من شباب الصحوة الإسلامية في الجامعات, وانتقد العلماء وخطباء المساجد دخول ابنة الشيخ الحصري عالم الغناء, ولم يستطع الكثيرون أن يتقبلوا من ابنة شيخ عموم المقارئ المصرية وأكثر من خدموا القرآن الكريم من قرائه, أن تدخل مجال الغناء والطرب, وتتمايل أمام الناس وتتلقى كلمات المديح والثناء والإعجاب ؟!.

غضبت السيدة زينب الغزالي كثيرا من " إفراج ", وامتنعت عن زيارة أسرة فضيلة الشيخ الحصري احتجاجاً على دخول " إفراج " عالم الغناء, ولم يكن العالم الجليل يملك من الأمر شيئاً, فقد كانت ابنته متزوجة, وزوجها هو وليها الشرعي وهو المسئول عنها, لكن السيدة " ياسمين" رغم ذلك كانت تلجأ إلى الحاجة زينب كلما مرت بحالة من القلق وتزايدت لديها مشاعر التمزق والوحشة والاغتراب في عالم الفن.

كانت ترتمي في أحضانها وتقبل رأسها وتبكى بكاءّ شديداً, وكلما شعرت بحاجتها إلى الارتواء من معين القرب من الله, والقلق من الاستمرار في هذا الميدان الساحر, أسرعت إلى" أمها " زينب الغزالي تشكو همها وألمها, والداعية الواعية تخفف عنها وتدعو لها وتوقظ الإيمان في قلبها وتذكرها بالله وبالجنة والنار, نعم كانت إغراءات هذا الفن كثيرة .. شهرة وعلاقات مع الكبار ومال و مديح وثناء .. الخ, حتى بدأت عملية التحول في داخلها من جديد إلى طريق النور والهداية, أو لنقل العودة إلى الأصل الإيماني والخلقي, وعندما اطمأنت تماماً وقررت اعتزال الغناء نهائياً, ذهبت من جديد إلى الحاجة زينب لتشهد على قرارها, وبدأت مرحلة جديدة أكثر دفئاً في العلاقة بينهما.

كانت الحاجة " إفراج " تشعر بمتعة خاصة عندما ترتمي في أحضان زينب الغزالي, كانت تلقى بمتاعبها وهمومها في هذا الصدر الحنون, الذي استقبلها كأحسن ما يكون الاستقبال, استقبال الأم والمربية والداعية والصديقة والطبيبة, ومن هذه العلاقة الحميمة بدأت علاقة زينب الغزالي بالفنانات المعتزلات, ولأن الحاجة ياسمين الخيام سيدة ذكية وواعية تربت في بيت خادم القرآن الكريم, بدأت تستفيد من علاقاتها في الوسط الفني, لتزيد من القريبات إلى الله, وتذكرهن بحلاوة الإيمان وطمأنينة النفس في ظل طاعة الله, مستفيدة من نصائح وتوجيهات الداعية زينب الغزالي في التأثير النفسي والدعوي على من تتعامل معهن.

وعندما كانت ياسمين الخيام تدرك بذكائها الفطري والاجتماعي والديني, أن الفنانة التي أمامها بحاجة إلى نموذج دعوي وديني واجتماعي يقوى من عزيمتها ويشد من أزرها, كانت تصطحبها لزيارة الداعية الكبيرة بعد أن تكون قد أعطتها طرفاً من الحديث عن إيمانها وثباتها وإخلاصها وحبها لدينها وفهمها الوسطي, فكانت هذه الزيارات بمثابة طوق النجاة من الضعف إلى القوة, ومن اليأس إلى الأمل, ومن الخوف إلى الاطمئنان, في ظل رحابة الإيمان وعظمة الإسلام.

كانت الداعية الكبيرة ترحب في بيتها بهؤلاء الفنانات المعتزلات, ترحيبا طبيعيا لا يشعرهن بالتميز عن الناس, ولا يقلل من قدرهن أيضا, ولم تكن مشغولة بهذا الوسط يوما ما, وصلتها تكاد تكون منعدمة بعالم الفن والغناء سماعا ومشاهدة ومتابعة, وكانت في هذه اللقاءات تذكر لهن كيف أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن, وكيف أن الله يبدل سيئات الإنسان العاصي إلى حسنات, إذا ما تاب وأناب ورجع إلى الله وعمل صالحا, وأن الصدق مع الله يورث الطمأنينة في القلب والسكينة في النفس.

لم تكن الداعية المجاهدة تستخدم أسلوب الترهيب في مواعظها الدعوية والتربوية إلا نادراً, كانت تميل إلى الترغيب والدعوة بالحب والأمل, والحديث عن رحمة الله سبحانه وتعالى وحلمه بالإنسان, وكان هذا الأسلوب يفتح لها القلوب ويهيئ لها النفوس, وكان لهذه الزيارات في تلك الفترة ( أوائل التسعينيات ) أثر إيجابي كبير في هذا الميدان المؤثر.

كانت السيدة ياسمين الخيام تجد متعتها في خدمة " أمها " زينب الغزالي.. كانت تجلس تحت قدميها, وتضع رجليها في حجرها, خصوصاً بعد أن بلغت الثمانين من عمرها, وتقبل رأسها ويديها, وتتلطف معها بالحديث , وعندما توفيت ـ رحمها الله رحمة واسعة ـ قبيل الغروب, كانت الحاجة ياسمين من أوائل من علموا بوفاتها, فانتقلت على الفور إلى بيتها, وبقيت في غرفتها طوال الليل, وجسد الداعية الصابرة المحتسبة مسجي بجوار الحاجة ياسمين, حتى أصبح الصباح, فوقفت على " الغسل ", وقالت لي " كانت الحاجة كأنها شابة في ريعان الشباب وعليها أمارات القبول من الله والنور يكسو وجهها كأنها ذاهبة إلى عرس ".. ولم لا ؟ إنها ذاهبة للقاء الله سبحانه وتعالى, الذي أحبته ووهبت حياتها لنصرة دينه والذود عن شريعته.

كانت الداعية الكبيرة مولعة بحب القراءة, تقضي معظم نهارها وجزءاً كبيراً من ليلها في المطالعة في مختلف فروع العلم الديني.. كانت تقرأ في التفسير والحديث والسيرة والفقه, مثلما كانت تقرأ في قضايا العمل الإسلامي المعاصر ومشكلات المسلمين, وكانت تواظب يومياً على قراءة جريدة الأهرام المصرية, وما يصلها من مطبوعات محلية وعربية ودولية كثيرة, وفي الصباح كانت تستمع إلى موجة هيئة الإذاعة البريطانية ( إذاعة لندن ) بالعربية, وتتابعها كذلك عند وقوع أحداث مهمة, سواء في الوطن العربي أو في العالم, ولم يكن التلفزيون يلفت انتباهها كثيراً.

وفي منتصف التسعينيات أصبحت تشعر بضعف في الإبصار, وبدأت تعاني منه عند متابعة هوايتها في القراءة, مع اقترابها من الثمانين من عمرها في ذلك الوقت, وشخص الأطباء المرض على أنه تجمع للمياه البيضاء في العين اليمنى, ودخلت أحد المستشفيات الاستثمارية لإجراء عملية إزالة لهذه المياه, حتى تعود إلى القراءة والكتب والدراسات من جديد.. وفي المستشفى تم إجراء العملية, ونجحت في تحسين الإبصار نوعا ما, لكنها أصابتها ببعض المتاعب الذهنية, وظلت تعاني التخيلات والأوهام عدة أشهر حتى عافاها الله, وبدأت ذاكرتها تتأثر بالضعف رويداً رويداً.. كان من الواضح أن التخدير في هذه السن غير مناسب, وبدأت مرحلة النسيان تزداد مع مرور الوقت.

وبالطبع أدت الأحوال الصحية الجديدة إلى توقف درسها الأسبوعي الذي كانت تعقده في المنزل, مما أحزنها كثيراً, حتى أنها ظلت تحاول الاستمرار وتقاوم, لكن حكم السن والمرض كان أقوى.. كما قللت من لقاءاتها الصحفية, ثم توقفت عنها تماماً مع غروب شمس القرن العشرين وشعرت بأن العمر آذان بالانتهاء, وأنها وصلت إلى نهاية الطريق, ومع ذلك لم تستلم, ولم تفقد حماستها وحبها لدعوة الإخوان المسلمين.

كنت أزورها في تلك الفترة, وأقرأ لها بعض الكتابات أو المقالات أو الأخبار, فتلمع في ذهنها فكرة, وسرعان ما تبدي رغبتها في كتابة مقال عن قضية ما, أو تأليف كتاب عن موضوع معين, أو الحديث إلى الإعلام في مشكلة ما!, لقد كانت متحمسة ومستعدة لخدمة دينها ودعوتها حتى آخر لحظة.

وعندما ضعفت ذاكرتها أكثر, حتى أنها بدأت تنسى بعض الوجوه المألوفة لها, لم تكن تنسى أبداً الصلاة وقراءة القرآن والاستغفار والذكر والدعاء, ولا تكاد تخطئ في تلاوة الآيات القرآنية, رحمها الله.