سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (12)

بدر محمد بدر

سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (12)

طلبت من الرئيس ضياء الحق تطبيق الشريعة في باكستان فطلب منها الدعاء له

ألقت خطبة حماسية بالمؤتمر فصفق لها الحضور رغم أنهم لا يعرفون العربية !

بدر محمد بدر

[email protected]

شعرت كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثها على المشاركة في المؤتمر, وأن تؤدى دورها فيه بعد أن كان لمشاركتها في العام السابق أطيب الأثر في نفوس المشاركين وأبناء الشعب الباكستاني, الذين تابعوا نشاطها عبر أجهزة التلفاز, وبدأت بالفعل تشعر بالتحسن البدني بعد أن انخفضت درجة حرارتها, واتصلت بي بعد صلاة الفجر لتؤكد مشاركتها في المؤتمر صباحا, وأنها رأت رؤيا كريمة ومؤثرة سوف تتحدث عنها أمام المشاركين, وبالفعل ذهبت معها إلى قاعة المؤتمر مبكرا, وعلمنا أن الرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق ـ رحمه الله ـ سوف يحضر الجلسة الافتتاحية للترحيب بالضيوف في لفتة كريمة منه.

وبالفعل حضر الرئيس وجلست الداعية الكبيرة زينب الغزالي إلى جواره على المنصة, ورحب ضياء الحق بضيوف وضيفات باكستان في المؤتمر, وكانوا من دول عربية وإسلامية وأجنبية عدة, وتحدث بالإنجليزية عن أهمية المؤتمر في تأصيل وتوضيح النظرة الإسلامية في القضايا المطروحة, وعندما علم أن الداعية زينب الغزالي هي صاحبة الكلمة التالية أصر على البقاء حتى يستمع إليها, وتحدثت الداعية المجاهدة باللغة العربية الفصحى وبصوت قوى ونبرات عالية وحماسة كبيرة, وعاطفة جياشة صادرة من القلب.

قالت في كلمتها: إنني أعلم أن باكستان قامت على أساس الإسلام منذ تأسيسها وانفصالها عن الهند في عام 1947, وستظل إن شاء الله مستمسكة بالإسلام العظيم وبشريعته الغراء, وإن العالم العربي والإسلامي ينتظر منها الكثير.. ينتظر منها أن تطبق الشريعة الإسلامية الغراء, وأن تتبنى المنهج الإسلامي الوسطي, وأن تقيم اقتصادها وسياستها وتعليمها ومجتمعها على مبادئ القرآن والسنة, وأن تقف بكل ما تستطيع إلى جانب المجاهدين الأفغان, حتى يحرروا أرضهم من دنس الاستعمار الروسي الجاثم فوق أرض هذه البلاد الحرة الأبية, خصوصا وأن الباكستان هي أقرب الدول الإسلامية مكانا وشعبا وحضارة إلى أفغانستان.

وذكرت في كلمتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زارها في المنام الليلة الماضية, وقدم لها أوراقاً مكتوبة بعد أن وقّع عليها, وأنها تفسر هذه الرؤيا على أنه صلى الله عليه وسلم, إنما جاءها في المنام بعد غياب طويل لم تعهده, ليحث دولة الباكستان على تطبيق الشريعة الإسلامية, وعلى الاهتمام بمنهج الإسلام العظيم, وأن توقيع الأوراق المكتوبة معناه ضرورة إقرار القوانين الخاصة بتطبيق الشريعة الغراء, وطالبت الرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق ـ الجالس إلى جوارها ـ بأن يبذل كل ما في وسعه من أجل تطبيق الشريعة وأحكام الإسلام, لأن الله سبحانه وتعالى سوف يحاسبه على هذه الأمانة, بصفته حاكما مسلما لشعب مسلم, وسوف يقف بين يديه سبحانه ليسأله عنها, فماذا هو قائل ؟!

انتهت الداعية المجاهدة من كلمتها الحماسية وسط ترحيب وتصفيق حار من جمهور المشاركات في المؤتمر النسائي عن السيرة النبوية, اللاتي تفاعلن معها رغم عدم إدراك معظمهن لمفردات اللغة العربية التي تحدثت بها, وكانوا قرابة المائة في تلك القاعة المغلقة, ثم تحدث الرئيس ضياء الحق معقبا فقال ( بالإنجليزية ) بعد أن شكر المجاهدة الكبيرة: رغم أنني لا أعرف الكثير من مفردات اللغة العربية, إلا أنني إلى حد كبير فهمت معظم ما قالته السيدة المجاهدة زينب الغزالي, وأنا أشكرها على كل ما قدمته لدينها وأطلب منها أن تدعو الله لي, فإني ضعيف أحتاج منها إلى الدعاء.

وأضاف: إن تطبيق الشريعة الإسلامية هو أمل الشعب الباكستاني ورغبة كل مسلم في هذا البلد, وأنا أريد أن يكون تطبيق الشريعة نابعاً من الناس أنفسهم.. من إرادتهم واختيارهم الحر, وليس مفروضاً عليهم بقوة القانون والنظام, وتساءل ـ أمام الحضور في المؤتمر النسائي ـ: هل تريدون مني أن أٌصدر قانوناً يلزم المرأة والفتاة المسلمة مثلا بارتداء الحجاب ؟ .. فتعالت الأصوات الرافضة لسن القانون, والمطالبة بأن يكون الحجاب التزاما ذاتيا وطوعيا, فقال: إذن مازالت هناك صعوبات في التطبيق علينا أن نواجهها!.

تلقفت وسائل الإعلام الباكستانية ـ المقروءة والمسموعة والمرئية ـ الرؤيا المنامية التي رأتها الداعية زينب الغزالي, وانتشرت قصتها على أوسع نطاق, ونفدت جميع نسخ كتابها الشهير " أيام من حياتي " المطبوع باللغة الأوردية, الذي كان قد ترجمه الشيخ الجليل خليل أحمد الحامدي مدير دار العروبة في لاهور ـ رحمه الله ـ تحت عنوان " روداد قفس " أي " أيام السجن ".

شعرت الداعية المجاهدة ـ وهى تجلس إلى جوار رئيس الدولة ـ أنها تحمل أمانة التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأمانة الدعوة إلى الله وتطبيق الشريعة الإسلامية الغراء, وأنها أمام فرصة تاريخية مهمة, قد لا تتاح لها بعد ذلك, لإعلان رغبة الأمة المسلمة في الحكم بما أنزل الله.

 كانت زينب الغزالي تهدف إلى حث الرئيس الباكستاني على تطبيق أحكام ومبادئ الإسلام التي احتواها القرآن الكريم والسنة النبوية الغراء والتراث الفقهي والعلمي الكبير, وهي القضية التي عاشت حياتها تدافع عنها وتجاهد من أجلها, وها هي تعلنها الآن ـ بكل قوة واعتزاز ورفق في نفس الوقت ـ  لتسجل عند الله أولاً وأمام الأمة والتاريخ ثانياً, صفحة جديدة من صفحات جهادها.

لم يرهبها أنها ليست في بلدها وأنها ضيفة في زيارة قصيرة, أو أنها تجلس إلى جوار الحاكم الذي يستطيع أن يفعل الكثير لإيذائها, خصوصا في بلاد العالم الثالث, لكنها كانت تفكر في أمر واحد هو تبليغ رسالتها وأداء أمانتها لنصرة الإسلام العظيم, وكان الرئيس ضياء الحق ـ رحمه الله ـ مثال الحاكم المحترم القادر على قبول النصح والرأي دون استعلاء أو غرور أو غطرسة, بل إنه دعاها في تلك الزيارة لتناول الغداء في بيته بمدينة روالبندي, والذي لم يغيره منذ كان قائدا للجيش, وكان لقاءا ودودا عبر عن أصالة معدن هذا الرجل العظيم, لكن أجهزة المخابرات السوفيتية أو الأمريكية أو غيرها ـ حسب آراء الخبراء ـ اغتالته بعد ذلك بفترة قصيرة ( 17 / 8 / 1988 ) عن طريق تفجير طائرته.

وألقت الداعية المجاهدة عدة محاضرات في عدة مدن باكستانية, منها : لاهور وإسلام أباد وكراتشي وملتان, وتعرفت أكثر على واقع المرأة المسلمة ودورها في باكستان.. كما التقت قادة المجاهدين الأفغان في بيشاور, وزارت عددا من المخيمات والمستشفيات ودور الرعاية والملاجئ وتبرعت بما من الله عليها به.

وذات يوم بينما كنا في الفندق في العاصمة إسلام أباد, زارتها السيدة " أم محمد " زوجة الشهيد عبد الله عزام, الداعية الإسلامي الفلسطيني المعروف الذي اغتيل في بيشاور, وأبلغتها بأن المخابرات الباكستانية تلاحق زوجها, وأنه يتخفى حتى لا يتم إلقاء القبض عليه, وأنها ترجو منها أن تتدخل لدى الرئيس ضياء الحق لإيقاف هذه  الملاحقة.

كانت الداعية المجاهدة تعرف الدكتور عبد الله عزام حق المعرفة, منذ أن كان يدرس في القاهرة لنيل شهادة الدكتوراه في الفقه من جامعة الأزهر الشريف في أوائل السبعينيات من القرن الماضي, ولا ينقطع عن زيارتها في منزلها بحي مصر الجديدة, فتحمست لتطلب ذلك من الرئيس الباكستاني, خصوصاً أنها كانت مدعوة على حفل غداء في بيته في اليوم التالي.. وطلبت من السيدة " أم محمد " زوجة الشهيد عبد الله عزام, أن تصوغ الطلب باللغة الإنجليزية, حتى تتمكن من عرضه على الرئيس, الذي أمر ـ بعد طلب الحاجة زينب ـ بوقف ملاحقة عبد الله عزام فوراً, حتى إن زوجته شكرتها قبل أن نغادر نحن باكستان؛ لأن زوجها عاد إلى المنزل.

كان الرئيس الباكستاني رجلاً بسيطاً, خالط الإيمان قلبه, فحول باكستان من دولة علمانية تخاصم الدين وتناهض الشريعة في زمن ذو الفقار علي بوتو إلى دولة تحترم الإسلام وتقدر الشريعة.. قال لنا بعض رموز الجماعة الإسلامية في باكستان: إن الجيش الباكستاني كان مثالاً للفساد والانحراف وتجارة المخدرات والجنس, وعندما تولى الجنرال ضياء الحق ـ عقب الانقلاب على الرئيس ذو الفقار على بوتو ـ تحول الجيش إلى الانضباط, وابتعد عن الفساد والانحراف وتجارة المخدرات, لدرجة أن 80% من ضباطه باتوا يحرصون على أداء الصلاة والالتزام بشعائر الإسلام, وهذا نموذج من المؤسسات الباكستانية.

وعلمنا كذلك أنه تعرض للعديد من الضغوط ومحاولات الاغتيال, خصوصاً من الاتحاد السوفييتي, بسبب وقوفه بجانب المجاهدين الأفغان, حتى وصله تهديد صريح من جانب موسكو.. ولم تمر عدة أشهر حتى انفجرت الطائرة التي كان يستقلها وعلى متنها أيضاً السفير الأمريكي في باكستان!

وفي زيارتنا الثالثة لباكستان ( 1989 ) قالت لنا زوجة الرئيس ضياء الحق عقب استشهاده: إنه كان جالساً ذات يوم على مائدة الطعام, وقال لها ـ قبيل اغتياله بعدة أشهر ـ إنه جاءته رسالة تهديد من الحكومة السوفييتية, وإنه يشعر بأن التهديد هذه المرة حقيقي وجاد, وفي نفس الوقت جاءته رسالة من الشيخ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية في باكستان, يطالبه فيها بتطبيق الشريعة الإسلامية والاستمرار في مساندة المجاهدين الأفغان, وقال إنه يرتاح لخطاب أمير الجماعة الإسلامية ولا يعبأ بتهديد القيادة الروسية, فقالت له زوجته: ما ترتاح إليه نفذه والله يحفظك من كل سوء.

كانت باكستان في عهد ضياء الحق تتمتع بحرية واسعة, وانتهت أيام الاستبداد والقمع والاعتقال, وهو ما انعكس على المجتمع هدوءاً وارتياحاً, وكنت أرى الموكب الرئاسي فتصيبني الدهشة.. كان الرئيس يركب في سيارة تحوطها من الأمام ومن الخلف وعلى الجانبيين أربع دراجات نارية فقط!.