ناجي الطنطاوي

الشيخ زهير الشاويش

الشيخ زهير الشاويش

عرفت الفقيد بعد سنوات من صلتي بأخيه الأكبر العلامة الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله وبارك في عمره وعمله . توثقت صلتي به بعد انتخابات 1947 التي لم ينجح فيها الشيخ علي بفعل التزوير الذي قامت به حكومة ذاك العهد .. فقام الشيخ ناجي بعقد جلسات نتدارس فيها الأمور العامة ، تضم بعض من تعاون معه في تأييد أخيه في تلك الانتخابات .. ووجدنا من الشيخ ناجي عقلاً وفهماً وعلماً .. غير أن هذه الجلسات لم تدم طويلاً لخلاف على المنهج بين أكثر الحضور وبين الأستاذ سعيد الطنطاوي !! ولكن بقيت الصلة مع الشيخ ناجي قوية ومستمرة .

كان الشيخ ناجي غاية في التواضع والسمت الحسن ، مع علمه الغزير وعقله الكبير . بعيداً عن الظهور ، بل كان مغموراً في الأوساط العامة . ولهذا سبب واضح ، فإنه الشقيق الأصغر لشيخنا علي الطنطاوي ، الذي سبقه بالولادة بسبع سنوات ، ولكن سبقه بالحضور العام على أوسع نطاق ، بل وسبق غيره ممن عاصروه مطالع القرن .

والشيخ علي يذكر ذلك دائماً ، وفي ذكرياته مواطن كثيرة قال فيها عن أخيه ناجي : (أخي ناجي وأخواه عبدالغني وسعيد ، كلهم أنبغ مني ، ولكن خطفت الأضواء منهم ـ كما يقولون في التعبير الحديث ـ دخلت حلبة المصارعة ، وما الحياة إلا مصارعة ، بطبل وزمر ، وضجة وصخب) ..(لقد عرفت الشهرة وذاع اسمي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة ، نبّهت الناس إليّ ، فظلمت أخوتي الذين هم أنبغ مني) .

(أخي ناجي شاعر وفقيه ، ولا تعجبوا أن يجمع رجل بين الفقه والفتوى والقضاء ، وبين الشعر منظوماً ومترجماً من لغة أخرى) .

(أخي ناجي الشعر وكان تلميذاً في المدرسة الثانوية ، ونظم بعدها ما لا يحصى من القصائد .. وناجي أحد الذين يجري الشعر على ألسنتهم كما يجري الماء ، ينظمونه عفواً ويرتجلونه ارتجالاً) ..إلخ

وكان الشيخ علي يعتمد كثيراً على أخيه الشيخ ناجي ، وقد حدثتني الخالة أم عنان زوج الشيخ علي وهي تبكي بقولها :

والله كان الشيخ ناجي لي ولأولادي كالوالد ، ولو كان لي أخ ما كان عطفه أحسن من عطفه لما وجدناه منه .. تغمده الله برحمته .

والشيخ علي كان يرى في أعمال ناجي امتداداً له .. فقد كان مربياً مثله ، وقاضياً كذلك ، وأديباً وفقيهاً .. وكان له الأناة والتروي وبعض النظر المختلف عما عند شيخنا حفظه الله.

وكلفه مرة أن يجمع سيرة ابن إسحاق التي شاع أنها مفقودة من تاريخ الطبري ، وهذا عمل عظيم لا يستطيعه غير الشيخ ناجي العالم المحقق المدقق . وكذلك عمل مع أخيه في كتابه (أخبارعمر) بعد أن كان عمل به باسم (عمر بن الخطاب) .

والحق أن الطريق الذي سلكه الشيخ علي طريق آخر يختلف عن طريق الشيخ ناجي مع اشتراكهما في الأدب والفقه والتعليم والقضاء .. فالشيخ علي في الأدب صاحب مدرسة هو الذي يشق لها الطريق .. ويقول للناس اتبعوا ما رسمت لكم .. فيما الأستاذ ناجي مشى على ما كان عليه الأسبقون من الطريق المعبد ، وكان له العلامات المميزة ، ولكنها على جوانب الطريق المعبد من قبل .

وأما فقه الشيخ علي فقد كان التقاطاً من أمهات المسائل ، وعمل عقله وفكره فيها .. وخرج على الناس بفقه لم يكن فيه مقلداً ، وان ادعى التقليد ، بل كان مجتهداً مع دعواه العجز عنه .. وأخذ الناس ما ذهب إليه وقلدوه في أكثر ما وصل إليه علمه وفهمه .

وأما الشيخ ناجي فقد استمر مقلداً لمذهبه (الحنفي) مع حسن العرض ، وتقريب الحكم للناس ليكون معقولاً مقبولاً .. فكان يطبق ما أخذ عليه في العهد بتطبيق القانون ، مع محاولة العدل ، وقد سمعت منه أنه يخرج من بعض ذلك أتباعاً لما عنده من مرسوم يلزم المفتي الحكم بالراجح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، فكان يقدم الأقوال الأخرى ، ثم يختم كلامه بالراجح وكأنه يومئ للمراجع أو المحامي بالحجة والدليل .

وأذكر أن سبب انتقاله من التعليم إلى القضاء أنه أصيب بمرض في حنجرته جعل كلامه مبعثراً ، فانتقل للقضاء الشرعي في دوما والنبك والقنيطرة . ثم ذهب إلى المملكة العربية السعودية ، وكان المستشار الأول في وزارة الحج والأوقاف لمدة زادت على العشرين سنة .

إن الحديث عن الشيخ ناجي يطول ولا يمل منه ، بل ولا ينتهي !!

اللهم ارحم الشيخ ناجي الطنطاوي وعوضه الجنة ، ولله ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده بأجر ومقدار .

انتقل إلى رحمة الله في بلدة دوما بسوريا يوم الجمعة 7 ربيع الثاني 1419 ـ 31/7/1998 عن عمر يناهز الثمانين ، كان مولده بدمشق عام 1332هـ / 1914م ، فكان المربي الفاضل ، والقاضي النزيه ، والعالم المتقن ، والشاعر المجيد.