رحمك الله أبا عامر..

أحمد سعود

والنجم إذا هوى..

رحمك الله أبا عامر..

د. منير الغضبان رحمه الله

أحمد سعود

تبكي العيون بدموع القلب، وحقّ لها أن تبكي، فقد هوى نجم، وما أدراك ما النجم إذا هوى، وترجّل فارس طالما لخيل الله اعتلى، ونصرة لدينه رابط وثوى، وغيرة على وطنه، وبلاغاً لمشروع الإسلام الوسطي جهد واجتهد وجاهد...

كانت السيرة النبوية عنوان تميّزه، وكان زهده وتواضعه ووجهه المنير، وثغره البسّام ظاهره الجميل الذي يصدّقه جمال الباطن فيما أحسب، ولا أزكيه على الله، ولا أشهد إلا بما علمت من ظاهره ورعاً وتقرّباً من كل ضعيف متضعّف، وصلة بأهل الفضل من الزهاّد، واستجابة لكل من دعاه إلى مناسبة اجتماعية، خاصة من المغمورين، يطيّب بحضوره خاطرهم، ويخصّهم ببركة دعائه، وصيد قبساته من السيرة العطرة، وكانت ديوانه الذي لا ينضب حيثما حل، وفي كل محفل!

هو ذا شيخنا الدكتور منير محمد نجيب الغضبان رحمه الله، فقيد الحركة الإسلامية العالمية، وفقيد الحركة الوطنية السورية، وفقيد الأدب والسيرة والتاريخ والتربية والفكر السياسي والبحوث العلمية، فقيد الثورة السورية، والربيع العربي، فقيد المنابر والمحافل ومؤتمرات الوفاق والتوفيق..

صحبت الشيخ دهراً، كان من أبرك سنيّ عمري تفاؤلا وعطاء وتقويماً وخصوبة ثقافية وفكرية، وتواصلاً اجتماعياً وثقافياً..

كان يلفت في شيخنا تواضعه حدّ أن لا يقدّم نفسه لمكان ولا مكانة، ولا يرى في نفسه ذاك، مع أنه كان أكثر أهلية ممن يدفعهم بحماس لتبوأ ما هو أليق به!

كان في لباسه زاهداً يشبه حبيبه وأستاذه في هذه المدرسة، الشيخ سعيد الطنطاوي، الذي لم يقطع الشيخ منير رحمه الله زيارته أسبوعيا في يوم محدّد حتى في بدايات مرضه قبل أن يشتدّ عليه ويمنعه من مفارقة فراشه في الأشهر الأخيرة!

ما رأيته يلبس عباءة قط، حتى حين كرموه بجائزة السلطان بروناي، وفي مواطن تكريم أخرى، وكان لا يحرص على اسم الدكتور، ولا يحتفي بالتصوير إلا إذا طلب منه أحد أن يتصوّر معه، فيقبل ليدخل السرور على قلب من طلب منه ذلك..

ظلمه كثيرون فوالله إنه ليحبّهم، ولا ينسى مواضع الفضل التي لهم، فقد سمعته يقول في أحد الحاملين عليه من إخوانه يوماً وكنا أنا وإياه وحدنا نشاهده عبر التلفاز: سبحان من أعطاه هذه الهيبة والشخصية!

واسترسلت يوماً في عاطفتي لأنال ممن حسبته خصما له، وظننت أنني أجامله بهذا، فزجرني وقال: آلمتني وكنت أظنك أعفّ من هذا عن إخوانك!

شجعني مراراً على الكتابة، وكان يقترح علي موضوعات لأكتبها، ويبدي استعداده لمراجعتها، مع أنني أعلم ضيقه بالمراجعات، حدّ أنه لا يحتمل كثيراً مراجعة كتبه في متابعة بعض أخطاء الطباعة والتنسيق أحياناً..

كان مغرماً بالأدب، استلهم من شيخه سعيد الطنطاوي فرائد وطرائف قلّ أن تجتمع لمعاصر، وكان له نظم وكتابة جميلة، ولكنه قال لي: كنت في شبابي أخصب مني فكراً، وأجزل أسلوباً، وكنت أنظم الشعر، ومع هذا فما كنت أسمعه منه من بيان ساحر يكفي، فقد كان له طريقة أدبية سلسة في الكتابة، ليس فيها تقعر، ولا إغراب في العبارة، على نهج أستاذ الجيل الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، ولعلّ خصوبة خياله وفكره جعلته كثير الرؤى كما هو واسع الرؤية، فقد كنت أصحبه في أسفار كثيرة لبضع ساعات، فكان من انشغاله الدائم بالكتابة والبحث والتدريس والمحاضرات والاجتماعات لا يكاد يجد فرصة من فرص الراحة النسبية حتى ينام ولو لبضع دقائق، كانت كافية لأن يحدثني بعدها عن رؤياه، وقد أحصيت له في سفر واحد لمدة ساعة واحدة ثلاث منامات يوماً!

للشيخ تجربته الحاضرة والقريبة من كل جماعات الدعوة والعمل الإسلامي في سورة وخارجها، فقد تنقّل في التعليم داخل سورية نحو عدد من المحافظات، وكان له عبرها وثيق الصلة بأهلها، ثم هاجر قديماً للسعودية، وأوثق عراه بكل العاملين للإسلام فيها، فكان له صلاته باللجنة الدائمة للبحوث العلمة والإفتاء، وبرابطة العالم الإسلامي، وبمعهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى، وبجامعة مكة المكرمة المفتوحة، وبالرئاسة العامة لتعليم البنات، وكان من المؤسسين للحركة السلفية الحركية التي نسبت للشيخ سرور زين العابدين، وكان من قيادات تنظيم دمشق في جماعة الإخوان في السبعينيات، وكان المحور الوسط في فترة الانشقاق الحلبي الحموي، وكان وثيق الصلة بحركة التزكية والتصفية، وله ورده اليومي في الذكر على طريقة لم يسمّها لي، وتشبه النقشبندية، ولم اره يتخلّف عنه صباحاً أو مساءاً، وكان وثيق الصلة بأهل العلم والفضل يتردّد عليهم بلا انقطاع، فكم صحبني معه لمقابلة الأستاذ محمد قطب رحمه الله، وكان له مع الشيخ سعيد العبدالله مجالسة إقراء وتلقين، ولم ينقطع عن دروس الشيخ محمد علي مشعل في الفقه والتزكية..

ومن عجيب همّة الشيخ أنه اهتم بحفظ القرآن الكريم وقد بلغ من السنّ ما بلغ، فحافظ على جلسة أسبوعية في مكة المكرمة، كانت للتلاوة والحفظ والتفسير، فحفظه عشر آيات عشر آيات، على مدى عشرين عاماً، حتى ختمه وهو في الستين من عمره!

وفي الستين من عمره واصل دراساته العليا، وفيها كان يحرص على نشر محاضراته بما يعادل خمس محاضرات رتيبة أسبوعياً بعضها يتطلب سفراً أسبوعياً خارج مدينته، وفي هذا السن أيضاً كان يطلب العلم ويقرأ في الفقه الشافعي والحنفي بين يدي الشيخ مشعل!

كان للشيخ دأبه في متابعة الشأن السوري بشكل عجيب، فقد كان في فترة ربيع دمشق يشتري الجرائد السورية، ويقص منها الموضوعات الجادة، ثم يصنفها ويؤرشفها، ويكتب أحياناً خلاصات لها، وينشر بعض المقالات حول ذلك، كل ذلك كان يقوم به وحده بدون سكرتير ولا مساعد!

وقد كتب رحمه الله في كافة فنون الكتابة الصحفية والنقدية، كتب في الرئاء وكم رثى من أعلام بمجلة المجتمع!

وكتب في متابعة الشأن السوري، والإخواني، وفي فضح جرائم الأسد وأبواقه، وكتب في التعريف بالمشروع السياسي لسورية المستقبل وتأصيله، وكتب في مؤازرة معتقلي الربيع العربي وغيره، وكتب في الحنين للوطن، وكتب في تعقّب بعض الشانئين الحاقدين على الإسلام، وكتب في نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وكتب في الفن، وتعقّب أكثر من مسلسل سوري تتناول الواقع التاريخي والاجتماعي والحركة الثقافية، وكتب في الأدب مبدعاً وناقداً، وله في الشاعر العراقي الرصافي نقد لعله الأروع، وكتب في التاريخ كثيراً، وخاصة تاريخ أحداث الفتنة ورموزه، وكتب في التاريخ المعاصر، ولعل سفره الألمع هو: (سورية في قرن)، وله في تاريخ الإخوان كتاب لم يطبع بعد، غير أن إبداعه الرئيس كما أسلفت كان في فقه السيرة النبوية، وقد تلمّس في عرضه للسيرة أن يكمّل عطاء سيد قطب رحمه الله، الذي قدّم تفسير القرآن الكريم تفسيراً حركياً يستطيع أن يحاكي كل مسلم فيه المرحلة التي يعيشها، ويأخذ من هدي القرآن ما يعالج راهنه بكل وضوح، ولعل إشارة من سيد رحمه الله أنه كان يتمنى أن يتاح له فعل هذا في السيرة النبوية، هو ما شجّع شيخنا أبا عامر على أن يكتب كتابه الأول والأوسع انتشارا: (المنهج الحركي في السيرة النبوية)، حيث عرض فيه أحداث السيرة النبوية كأنها واقع معاصر نعيشه، فقرّبها إلينا، وفتح ميداناً عريضاً للتأسّي والاقتداء...

كتب بعدها في المنهج التربوي سياسياً وقيادياً وإعلامياً وإدارياً، ولم ينس أن يكتب حتى في خلاصات للسيرة يمكن أن يحفظها النشئة، حين جمع أربعين رواية هي الأصح في روايات السير، ليحفظها الناشئة معزوّة لأصولها، وكتب في السيرة النبوية للأطفال، وكتب للناشة عدد من القصص، من أجملها كانت قصة خوّات بن جبير، وكتب للفتيات كتاباً كانت تدرسه مدارس البنات في السعودية عنوانه: (الأخوات المؤمنات)، وغير ذلك كثير، ولكنني أكتب من ذاكرتي الكليلة، ولا أستطيع عدّ ذلك كله الآن...

وكتب في السيرة الذاتية، وأبرز كتبه كانت: (أفكاري التي أحيا من أجلها)، ولخّص كتباً، وقدّم لكتب غيره وقرظها، وكتب مقالات مطوّلة في تتبع خطاب وسياسات النظام السوري، وتعرية نفاقه، وفي الانتصار للمناضلين السوريين، وحمل قضايا المعتقلين والشهداء وذويهم، وكان الشيخ من المؤسسين لرابطة العلماء السوريين، كان يستلهم فيها مسيرة رابطة علماء بلاد الشام في بدايات القرن العشرين بدمشق، والتي أسسها الشيخ أبو الخير الميداني وإخوانه من علماء سورية، وكان له هذا الجهد قبل أن يتأسّس أي كيان للعلماء في سورية، وتحديداً أواخر عام 2005م، ومنذ ذلك الوقت أراد أن يربطني بالشيخ أحمد معاذ الخطيب الحسني وموقعه (دعوتنا) لأنه يحمل الفكر الوسطي الذي يتبناه الشيخ وينافح عنه..

أبرز جهد علمي قام به الشيخ على صعيد الحركة الإسلامية، هو كتابه القيّم في السياسة الشرعية والذي أسماه: قضايا إسلامية معاصرة. والكتاب وإن كان أسهم فيه عدد من الباحثين، لكن جهد الشيخ كان هو المحرّك والعمود الفقري في كل ما كتب، فجزاه الله عن الإسلام، وعن الحركة الإسلامية كل خير، ونفع بعلمه، وكتب له أجرا لا ينقطع، بعموم علمه وفكره بين المسلمين، يبشّر بالإسلام الحضاري في الأمة الوسط..

ماذا أقول شيخنا، وكيف أوفّيك حقك؟ اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده، واغفر لنا وله..

اللهم أخلف أمتنا وشامنا والإسلاميين جميعاً به خيراً.

المصاب فيك جلل شيخي الحبيب، ولكن العزاء أنك تموت فينا اليوم جسداً لا روحاً، فما عشت لنفسك قط، بل عشت لأمتك ووطنك وأهلك، ومن عاش لغيره عاش كبيراً ومات كبيراً.

لعمرك ما الرزية فقد مال

ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقد شخص

يموت بموته خلق كثير

إن هول الفاجعة، وشدة المصاب، تقتضي كمال الرضا بالقضاء والقدر، وإن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.... إنا لله وإنا إليه راجعون