الشهيد خالد هريسة (أبو صهيب)

مواكب الشهداء

في المدينة التي أعزتها سيوف الإسلام، فنسبت إلى بطل من أبطاله. وفي المدينة التي ترعرع فوق ربوعها القائد الدكتور مصطفى السباعي فكان واحداً من رواد الحركة الإسلامية العالمية على أرض الشام. ولد الشهيد خالد هريسة "أبو صهيب" عام 1953 في أسرة مؤمنة، ليجد نفسه منذ نعومة أظفاره يتردد على المسجد، وقد ملك عليه فؤاده، وشعر بأن هناك ما يجذبه إليه – حتى في غير أوقات الصلوات الخمس – وكلما كبر عاماً توضحت معالم شخصيته الإسلامية، حتى نال الشهادة الثانوية وانتسب إلى معهد النفط وقد فاق أقرانه بحسن الخلق، ونجح بتفوق واضح عليهم.

ويكون العمل وكسب العيش في مصفاة حمص، إلى أن دعي لأداء الخدمة الإلزامية، ورأى بعينيه المآسي التي تجري في جيش سورية الأبي، وطالما حز في نفسه أن يرى العناصر التي سميت بــــ "الردع" تنهب متاجر بيروت، وتسرق ما تبقى للشعب الجريح من حوائج لم تطلها ألسنة اللهب.

ويكون شاهد حق على لصوصية النظام المهترئ في "المصفاة" بحمص وفي أسواق بيروت.

ويزداد يقيناً أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن ينقذ هذا القطر إلا أن يكون للإسلام الهيمنة على حياة الناس.

*  *  *

وفي عام 1979 يبدأ الخطوة الأولى فينقل السلاح ويوصله إلى قواعد المجاهدين.

ويمضي  في طريق الجهاد جندياً جريئاً، ومجاهداً مخلصاً، وبطلاً يدوخ السلطة الباغية، ويقض مضاجعها فتبيت وفي نفوس جلاديها حسرات تمزق صدورهم، وهواجس تنغص عيشهم، وكلما زغرد الرصاص في حمص المجاهدة ارتفعت أكف الناس إلى الله بالدعاء والتمكين لشباب الإسلام وجند العقيدة.

وأحسَّ المجرمون بخطورة الموقف عندما يبقى أبو صهيب وإخوانه يدقون كل يوم مسماراً جديداً في نعش أمن النظام المذعور، وإرهاب السلطة المروِّع المفروض على الجماهير العزلاء.

*  *  *

جمعٌ كبير المجرمين في المخابرات العسكرية بحمص زبانيته في وقت متأخر من الليل، وراح يصفهم بما يليق بهم، ويستثير فيهم غريزة البقاء:

- أعجزتم جميعاً عن الإتيان بخالد هريسة وأمثاله؟

هل تظنون أن مبنى المخابرات سيبقى سالماً طويلاً لتحتموا فيه؟

إن لم تنهوا وجود هؤلاء فسينهون وجودكم.

وأحكم الجلاد خطته، ومكروا مكرهم، وأبرموا كيدهم، فتحركت السيارات تنوء بالمسلحين من مختلف الرتب، وكأن محاضرة كبيرة قد نعت إليهم نفوسهم، فلم يفلح على الرغم من التهويش حيناً، والتهديد حيناً آخر أن يزيد من اندفاعهم إلى آجالهم.

*  *  *

وفي 5/1/1981 أحاط زوار الفجر بعد الثالثة صباحاً بعرين الأخ المجاهد "خالد"، وكأنه كان ينتظرهم على أحر من الجمر، ويشهد حي "باب السباع" ملحمة من ملاحم الجهاد في حمص الباسلة، وقبل أن يبادروا باقتحام المنزل أمطرهم المجاهدون بالقنابل، وراحت البنادق تحصدهم.. وانطلق الشهيد البطل يعاجل من لاذ منهم بالفرار، فانكفأ المجرمون على أعقابهم يجرون الخيبة التي لازمتهم طويلاً، مخلفين وراءهم عشرين عنصراً بين قتيل وجريح.

وخرج الإخوة من المنزل، وانطلقوا إلى عرين آخر سالمين. وما هي إلا دقائق حتى استعاد المجرمون صوابهم، ليتصلوا بكبيرهم: أن قد هزمنا فأرسل المدد، إنهم أعداد كبيرة فاجؤونا بالقنابل، وغزارة النيران.

ويجهز المجرم حملة ثانية – وقد خاب فأله – ويشهد حي "باب السباع" بطولاتهم التي لم يبق حي في البلد الجريح إلا شهد مثيلاتها، ومنذ النصر الأول الذي حققوه على الحي الآمن والبيت الأعزل اتصلوا بمجرمهم الأكبر:

- سيدي .. سيدي .. لقد.. لقد احتللنا المنزل دون مقاومة..

ويرد عليهم، وقد بح صوته، وجف ريقه:

- هل رأيتم أحداً؟

ويأتي الجواب مخيباً آماله ككل مرة:

- لا لا يا سيدي لم نجد أحداً.

وينهي المكالمة بسيل من الشتائم، وينهال المجرمون على الأب العجوز – الذي لم يجدوا غيره في البيت – ضرباً وشتماً مما حفظوه من لغة أسيادهم التي رُبُّوا عليها، ويخاطبون الناس بها، ويعودون.

*  *  *

وتشرق شمس الجمعة 8/11/1981 ويخرج البطل إلى أداء الصلاة، وقد ركب سيارته يسعى إلى ذكر الله فتوقفه دورية لمخابرات "أمن الدولة"، وتبطئ عجلة السيارة كمن يريد الوقوف، ويهرع عناصر البغي نحوها لتفاجئهم رصاصات أبي صهيب كأسرع ما يكون، ثم تقلع – ويا لهول المفاجأة – فبدؤوا بإطلاق الرصاص بلا حساب، وراح الشهيد يتلاعب بأعصابهم حتى وصل إلى شارع صالح للانسحاب، فيترك السيارة، ويتجه بخطا وئيدة إلى المسجد لتأدية الصلاة، ولم يبق على إقامتها إلا دقائق.

وشاءت الأقدار أن تكون الصلاة في المسجد، ورؤية المسلمين مجتمعين على طاعة الله آخر عهده بالدنيا.

ويحيط المجرمون بالمسجد من كل جانب، ويحس البطل أنهم سيغتنمونها فرصة لترويع الآمنين، وقتل المصلين، كما فعلوا في أكثر من مدينة، فيقف بين يدي الناس، ويصيح قائلاً اسمعوني يا شباب: 

والتفت الناس فإذا شاب طويل القامة، عريض المنكبين، وراحت عيناه تمسحان المسجد من أوله إلى أخره: أيها الناس، أرجو أن لا يخرج أحد منكم من المسجد لأن كلاب السلطة قد جاؤوا في طلبي، فأنا سأخرج قبلكم.

فانطلقت أصوات التهليل والتكبير، وكل واحد منهم يود لو يفديه بنفسه. واندفع إلى خارج المسجد، ولسان حاله يقول: والله لن تدنسوا بأقدامكم القذرة، وأجسادكم الخاطئة رحاب هذا المسجد الطهور، ولن أترككم تريقون دم مسلم واحد ولو كلفني ذلك حياتي.

وصاح صائحهم: قف

فكان الجواب قنبلتين متواليتين، جعلتهم أثراً بعد عين، وتناثرت أشلاء ثلاثة منهم، وانهمر الرصاص، وراح شهيدنا البطل يعطيهم درساً جديداً في البطولة، ليختاره الله شهيداً، ولتكون ملائكة المسجد والجمعة شهوداً، وأي شهود!

واخترقت رصاصات الغدر الصدر الطهور، وراحت تسكب غيظها في جسده الممزق، وسقط البطل، وقد احتضن سلاحه، ووقف المجرمون يرقبون الموقف:

أتبعث فيه الحياة من جديد؟!

وراحوا يتدافعون: من الذي سيتقدم ليتأكد من موته، وينزع سلاحه. فالتفتوا وكل واحد منهم، يشير إلى صاحبه، ولكن أحدهم صاح بأحد المصلين، وقد شهر عليه السلاح:

- تقدم .. تقدم، وهات سلاحه وإلا....

ويتقدم الرجل ليحمل المسدس، وقد غرق في بركة من دم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"والذي نفسي بيده، لا يُكْلم أحدٌ في سبيل الله – والله أعلم مَنْ يُكْلم في سبيله – إلا جاء يوم القيامة: اللونُ لونُ الدم، والريحُ ريح المسك".

وسوم: العدد 685